أرشيف

الحكمة اليمانية تتوارى وراء رائحة الدم والبارود

يستحق اليمنيون أن يعيشوا حياة أفضل، لكن فرقاء الحياة السياسية يصرون على أن تكون هذه الحياة مملوءة بالدم والبارود، والمؤسف أن يتفاخر العديد منهم بأن اليمن “قنبلة موقوتة” وأنه “برميل بارود”، وبإمكانه الانفجار في أي لحظة .
حتى اليوم يحسب لثورة الشباب أنها اختارت الطريق السلمي للتغيير، رغم أن البلد يعج بملايين من قطع السلاح، كإرث يماني أصيل، بعض من هذه الأسلحة يتوفر في أيدي المواطنين منذ مدة وكثير منه جرى توزيعه خلال الأشهر الماضية من قبل طرفي الأزمة، تحسباً لوصول الوضع إلى طريق مسدود .وفي الطرف الآخر العنف المفرط من قبل قوات الأمن ضد المتظاهرين في مناطق يمنية عدة، كان آخرها مواجهات ليلة الاربعاء في العاصمة صنعاء أثناء خروج مسيرة باتجاه مبنى الحكومة والإذاعة، حيث سقط 13 قتيلاً وأكثر من 230 جريحاً، العشرات منهم مصابون بالرصاص الحي، وما حدث في الأيام الثلاثة الأخيرة في كل من تعز والحديدة وعدن ومناطق أخرى عديدة . هذا العنف يؤكد سهولة استخدام السلاح بين المتخاصمين، بل إنها سهولة أكثر من شرب الماء .
اليمن اليوم يتشظى بين مؤسسات وأحزاب سياسية تحاول انتزاع مكاسب على حساب البلد، تحت وهم الانتصار والتذاكي؛ فالملايين التي تخرج هنا وهناك يعتقد كل طرف أنه يستمد منها قوته، ويبقى يتمترس خلف مواقفه، رافضاً تقديم أي تنازلات حقيقية من أجل بقاء اليمن آمناً ومستقراً موحداً بعيداً عن شبح الحرب الأهلية التي تطل على اليمنيين بقرونها أكثر من أي وقت مضى .
حوادث الأيام الماضية يمكن أن تكون بروفة لما هو أخطر في الأيام والأسابيع المقبلة، إذا ما وصلت الحوارات السياسية الداخلية والمبادرة الخليجية إلى طريق مسدود، وإذا لم ينجح اليمنيون في إدارة خلافاتهم وصراعاتهم بعيداً عن السلاح، خاصة مع انقسام الجيش بين مؤيد للثورة ومعارض لها . وإذا ما وقعت مواجهات بين الطرفين؛ فإن النموذج الليبي يمكن أن نشاهده في اليمن، بل وبنسخة مطورة، فالانقسام في اليمن يأخذ أبعاداً أخطر مما هو موجود في ليبيا، وهذا الانقسام يحتاج إلى لغة مختلفة لمعالجته عوضاً عن اللجوء إلى السلاح .
لقد كان الكثير يراهن على الحكمة اليمانية في تجاوز الأوضاع الداخلية، لكن الحكمة اليمانية التي تحدث عنها الرسول الكريم صارت مع الأيام تتلاشى تدريجياً وربما تغيب في الأيام القليلة المقبلة، ولم يبق سوى التعويل على العامل الخارجي، أي نجدة الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه . فمد يد العون والمساعدة اليوم في وضع لا زال فيه إمكانية للسيطرة عليه أفضل من البحث عن مبادرات في حال انفجار الوضع لاحقاً، فكلما تقدمت التحركات لاحتواء الأزمة قبل قرقعة السلاح كانت المعالجات ممكنة حتى ولو كانت مؤلمة للبعض، وكلما تأخرت الحلول كانت الهرولة نحو الحرب أمراً حتمياً، حيث سيكون من الصعب عودة طلقة الرصاصة إلى مخبئها من جديد .
لم يعد اليمنيون يتحدثون عن انضمام بلادهم إلى حظيرة دول مجلس التعاون الخليجي، فقد أيقنوا أن دول المجلس اتجهت شمالاً وغرباً لتوسيع المجلس وتجاهلت العمق الجغرافي والتأريخي لدول المجلس، تحت مبررات الاضطرابات الأمنية والسياسية في هذا البلد، لكن اليمنيين يرون أن على مجلس التعاون ألا يخذلهم ويتركهم فريسة أوضاع كارثية إذا ما انفجرت قريباً، والتي ستكون كارثية على بقية دول المنطقة بأشكال مختلفة .
وعلى اليمنيين أن يساعدوا المبادرين الخارجيين من أشقاء وأصدقاء على إيجاد مخارج حقيقية للكارثة التي ستحل ببلدهم، إذا ما دخلت في دوامة العنف، حيث يجب أن يكونوا أكثر حرصاً عليها وعلى أمنها واستقرارها ووحدتها من الآخرين؛ فالتأريخ يقول إن المسؤولين والقادة يمكنهم النجاة في الوقت المناسب بأرواحهم وأرواح عائلاتهم وأموالهم، وتأريخ الأزمات التي أفضت إلى حروب عديدة في اليمن طوال العقود الخمسة الماضية شاهدة على ذلك، فيما سيكون المواطنون هم ضحايا خلافات السياسيين .
يحق لليمنيين بعد خمسين عاماً من الصراعات الدموية منذ ثورتيهم، شمالاً وجنوباً، وحتى اليوم، أن يعيشوا حياة أفضل بعيدا عن العنف والموت والدمار والخراب الذي سيطال كل شيء . يحق لليمنيين أن يلتفتوا إلى بناء حياتهم وأن يعيشوا كما تعيش بقية شعوب العالم بعيداً عن دوامة العنف الناتجة عن الصراع على السلطة . فالبلد يعاني اليوم الكثير من المشاكل والأزمات وأي حكم مقبل أيا كان نوعه لن يستلم سوى مؤسسات مدمرة ونفسيات محطمة واقتصاد متهالك يحتاج إلى سنوات طويلة لمعالجته .
إن جُمع اليمنيين التي تتوالى كل أسبوع لم تعد تخلق الطمأنينة في قلوب الناس، بل الخوف والقلق من المجهول، فقد حول السياسيون هذه الجمع من جمع تدعو إلى المحبة والتسامح إلى جمع تدعو إلى الخوف والرعب، وتحول خطباء الجمع إلى سياسيين بامتياز، حيث يطوعون الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كل لمصلحة الطرف الذي يؤيده، وهنا الكارثة الحقيقية .

زر الذهاب إلى الأعلى