أخبار وتقارير

الأشواط الأخيرة في المعركة مع “القاعدة” في اليمن

 

 

شهدت الساحة اليمنية خلال الأسابيع القليلة الماضية تطوراً استثنائياً في إطار الحرب على الإرهاب، فبعد نحو عام على سيطرة جماعة “أنصار الشريعة”، المرتبطة بتنظيم القاعدة على مناطق واسعة من محافظة أبين بسبب تراخي القبضة الأمنية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، وجدت “القاعدة” نفسها وجهاً لوجه في حرب شرسة أراد من خلالها الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي أن يثأر لكرامة الجيش والدولة، وهي الكرامة التي أهدرها النظام السابق عندما سلم المحافظة ل”القاعدة” من أجل مواجهة غضب انتفاضة قادها الشباب من أجل التغيير، وتحولت إلى ثورة بهدف إسقاط النظام .


لم يكن يتصور تنظيم القاعدة أن العمليات الأخيرة التي نفذها مؤخراً، وجاءت كردة فعل على الانتصارات التي يحققها الجيش اليمني ضد التنظيم في مواقع عدة في محافظة أبين، جنوبي البلاد، يمكن أن تجعل صورته مشوهة إلى هذا الحد، فبعد عدد من العمليات التي استهدفت الجنود اليمنيين في عدد من المناطق كان آخرها تلك التي أوقعت أكثر من 400 بين قتيل وجريح في مذبحة السبعين في العاصمة صنعاء أثناء تدريباتهم لعرض عسكري، بدا وأن صورة تنظيم القاعدة اهتزت لدى المواطن البسيط الذي بدأ ينظر إليه كتنظيم دموي، وأن ضرباته موجهة إلى اليمنيين أكثر من كونها موجهة ضد “العدو الافتراضي” في أدبيات التنظيم .


هجوم بربري


لن يجد تنظيم القاعدة ما يفاخر به بعد العملية التي استهدفت الجيش في ساحة السبعين في قلب العاصمة صنعاء، فقد كان الهجوم الذي استهدف الجنود في الميدان في الحادي والعشرين من شهر مايو/ أيار الجاري، ضربة قاصمة للتنظيم، الذي ملأ الدنيا حديثاً وتصريحات ومواقف عن استهداف أعداء الأمة الإسلامية والعربية، فيما كافة العمليات التي نفذها على مدار عام كامل من المواجهات في اليمن لم تسفر عن مقتل “عدو أمة واحد” على الأقل بمفهوم التنظيم، وعوضاً عن ذلك تسببت العمليات التي نفذها التنظيم في مقتل المئات من الجنود اليمنيين، بعضهم ذبح كالخراف، مثلما حدث في منطقة دوفس في أبين في شهر فبراير/ شباط الماضي، عندما تم جز رقاب الجنود بالسكاكين بعد مباغتتهم في مواقعهم العسكرية وهم نيام .


لقد حاول تنظيم “القاعدة” تبرئة نفسه من الجريمة الأخيرة التي هزت مشاعر اليمنيين كافة، بعدما أكد أن العملية التي نفذها أحد أعضاء التنظيم كانت تستهدف من أسماهم “قادة الحرب الأمريكية ضد إخواننا في أبين”، بحسب بيان صدر مطلع الأسبوع الجاري، في تخبط جديد على مواقف التنظيم، وعملياته الأخيرة التي وصفت ب “الهجمات البربرية” .


وأكد التنظيم في بيان له تعليقاً على أحداث الاثنين الدامي، الذي صادف احتفالات اليمن بذكرى مرور 22 عاماً على قيام دولة الوحدة أن “التحقيقات انتهت إلى أن من نحسبه شهيداً ولا نزكي على الله أحداً هيثم حميد حسين مفرح، قد وقع ضحية لشبكة من عملاء الصليبيين في جهاز الأمن القومي ممن تم دسهم بين المجاهدين” .


وبشّر التنظيم من أسماهم “المجاهدين المرابطين” أنه قد تم اكتشاف الخلية التي عملت على استغلال شوق الشهيد هيثم حميد حسين مفرح للجنة والموت في سبيل الله، ولأن الشهيد رحمه الله كان دائماً ما يتحدث عن شوقه للجنة فقد تم العمل على إعداده لعملية كانت من المفترض أن تستهدف قادة الحرب الأمريكية ضد إخواننا في اليمن، لكن عملاء الصليبيين قاموا باستبدال الحزام الناسف الذي ارتداه الشهيد بحزام آخر تم تفجيره عن بعد، قبل أن يتمكن الشهيد من الوصول إلى الهدف المقصود” .


على أن البيان الجديد للتنظيم حاول التغطية على الحدث الأكبر، المتمثل في استهداف الجندي هيثم مفرح تجمعاً للآلاف من زملائه في ميدان السبعين فحصد منهم وفي ثوان معدودات 100 قتيل وأكثر من 300 جريح، في عملية تعد نسخة ثانية من عملية مشابهة جرت في منطقة دوفس بمحافظة أبين خلال شهر فبراير/ شباط الماضي، عندما قتل نحو 200 جندي، أثناء هجوم على أحد مواقع الجيش .


وخسر تنظيم “القاعدة” ما تبقى له من تعاطف عند بعض الناس، الذين لا زالوا يعتقدون أن التنظيم، لا زال على مبادئ أسامة بن لادن، الذي استهدف الأمريكيين في عقر دارهم، بالإضافة إلى منازلتهم ومقارعتهم في الأراضي الأفغانية، رغم التحفظات على بعض العمليات التي تنفذ هنا أو هناك، خاصة في الديار الإسلامية .


لقد أدرك اليمنيون أن تنظيم “القاعدة” وجه سلاحه إلى صدورهم وليس إلى صدور “أعداء الأمتين العربية والإسلامية”، إذ لم يتم الإعلان عن أية عملية نفذت ضد “أعداء الأمة الإسلامية”، كما يدعي، واتضح أنهم يسعون إلى الحكم والحلول محل الدولة مثلما حدث في محافظة أبين عندما أنشأوا إمارة وقار الإسلامية عوضاً عن جعار، وبدأوا بممارسة مهام الدولة في مجال القضاء والأمن وغيرها من المجالات .


ووسع تنظيم “القاعدة” رقعة عدائه لتشمل الحوثيين في صعدة، بعدما نفذ عمليتين انتحاريتين في كل من الجوف وصعدة، حيث لم يكن في المكانين اللذين نفذتا فيهما أي “عدو للأمة الإسلامية”، بل مواطنون يمنيون، من بينهم امرأة وطفلها، وجميعهم يدينون بالولاء للإسلام .


لهذا حاول التنظيم أن يخفف من وطأة الصدمة التي أصابت المواطنين بعد حادثة السبعين، من خلال الحديث عن أن التفجير كان يستهدف “قادة الحرب الأمريكية” ضد أعضاء التنظيم في أبين، ومن أن هناك من اخترق الجماعات الجهادية، وهو تأكيد على أن التنظيم لم يعد محصناً ضد الاختراقات، سواء في أبين أو غيرها من المناطق .


لقد دفع تنظيم “القاعدة” ثمناً للاستعجال في التخلص من خصومه، وبدأ يخسر الكثير من التعاطف الذي ظل التنظيم يحظى به في أوساط اليمنيين لبعض الفترات، وحديثه عن محاربته لأعداء الإسلام، بخاصة بعد أن اتجه سلاحه إلى صدور الأبرياء من اليمنيين أنفسهم .


مرحلة خطيرة


يجتاز تنظيم “القاعدة” في اليمن هذه الأيام مرحلة خطيرة من مراحل حضوره في الساحة، ويؤكد مراقبون أن التنظيم الذي يخوض معركة شرسة مع قوات الجيش منذ استيلائه على عدد من المناطق في أبين، جنوبي البلاد، بعد تراخي قبضة نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح أثناء الاحتجاجات التي شهدتها البلاد العام قبل الماضي، بدأ يخسر أكثر وأكثر، ما يتيح للجيش فرصة تتبعه إلى كل مكان تلجأ إليه عناصره .


وبدا أن الطريقة التي أدار بها التنظيم بعض مناطق محافظة أبين، هي التي دفعت بالمواطنين إلى الالتفاف إلى جانب الجيش في مسعاه من أجل القضاء على التنظيم واستعادة هيبة الدولة التي فقدت خلال العام الماضي؛ فاللجان الشعبية التي خاضت معارك شرسة إلى جانب الجيش في حربه ضد “القاعدة” أكدت أن “مثالية النموذج” الذي قدمه التنظيم للناس في أبين لم يصمد كثيراً، فبمجرد بدء العد التنازلي لخروجهم من مدن ومناطق أبين، التي سيطروا عليها لنحو عام، شنوا هجوماً على أبناء أبين واللجان الشعبية مستغربين وقوفهم إلى جانب الجيش “المحتل لأرض الجنوب”، في محاكاة مناطقية للأحداث .


تكمن خطورة المرحلة التي يمر بها تنظيم القاعدة في الوقت الحاضر أن مشروعه فشل في استقطاب المجتمع المحلي، فقد قدم التنظيم نفسه باعتباره “منقذاً” و”بديلاً جيداً” للرئيس السابق ونظامه، إلا أنه على أرض الواقع أثبت أنه لا زال يعيش موروث النظام السابق نفسه .


من هنا يمكن القول إن تنظيم القاعدة حاول سلخ جلده في بداية الأمر ليقدم نفسه كبديل أفضل عن النظام، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً، فالقتل الذي مارسه التنظيم بحق أفراد الجيش والمواطنين على السواء قدمه كنموذج مخيف إذا ما نجح وأمسك بالأوضاع في البلاد .


كما أن الشواهد على عدم قدرته على تقديم نموذج مختلف عن النظام السابق أغرقه في دوامة من السياسات التي حولته إلى نسخة مشوهة من نظام سيئ اعتاد على معالجة الخطأ بالكوارث طيلة فترة حكمه للبلاد الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، والدلائل على ذلك كثيرة، بدءاً من غض الطرف عن نشاط التنظيم في فترة سابقة من اندلاع الثورة الشعبية في أكثر من مكان مستغلاً “فوبيا القاعدة” لدى الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وليس انتهاء بتسليمه المناطق الجنوبية من البلاد ليؤكد أن البديل القادم للنظام سيكون أسوأ .


تفاوض مرفوض


لقد حاول تنظيم القاعدة امتصاص الضربات المتتالية للجيش اليمني المدعوم بتحركات أمريكية، من خلال تقديم عرض لوقف الجيش ضرباته على مواقعه في محافظة أبين، مقابل الإفراج عن بعض الرهائن الأجانب الموجودين لديه، من بينهم نائب القنصل السعودي عبدالله الخالدي وسائحة سويسرية، إلا أن الرئيس عبدربه منصور هادي رفض العرض، وقرر مواصلة الحرب ضد التنظيم حتى اجتثاثه بشكل كامل .


وخلال الأسبوعين الماضيين تصاعدت اللهجة الرسمية الرافضة لأي حوار أو تفاوض مع التنظيم، وذلك رداً على مساع بذلها بعض الأطراف القبلية والاجتماعية لإيجاد هدنة بين القوات العسكرية وعناصر جماعة أنصار الشريعة في أبين وغيرها من المناطق، حيث أعلن الرئيس هادي رفضه لإجراء أي حوار مع تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المرتبطة به، وأكد أن “اللغة الوحيدة التي سيتم بها مواجهة الإرهاب والإرهابيين هي لغة القانون والحسم العسكري لأن الجماعات الإرهابية لا تعرف الحوار ولم تعترف به في يوم من الأيام” .


ويبدو أن قرار الولايات المتحدة الأمريكية نقل الصراع ضد “القاعدة” من الدعم المادي والاستخباراتي إلى المواجهة المباشرة قد فتح الباب أمام فرصة تاريخية لإنهاء تواجد “القاعدة” في اليمن وجزيرة العرب، إلا أن هناك مخاوف، تبدو مشروعة، تتمثل في أن يتسبب ذلك في دخول البلاد عهداً جديداً من الاضطراب، ذلك أن حساسية اليمنيين تجاه التدخل الأجنبي أيا كان شكله ومصدره، ستكون واحدة من العوامل المحبطة للخطط الأمريكية في المنطقة، وسيتم التعامل مع الأمر وكأنه “احتلال أجنبي لأراض يمنية”، وهو ما يبحث عنه تنظيم القاعدة لاستعادة شعبيته التي فقدها في المناطق التي سيطر عليها وتمكن الجيش من دحرها إلى خارجها في الأسابيع القليلة الماضية .


ولا يستبعد أن تتورط الولايات المتحدة في هذه الحرب التي ستطول في حالة ثبتت مشاركة قوات برية أو بحرية فيها، ويخشى مراقبون في اليمن أن تتحول المعركة مع تنظيم “القاعدة” إلى معركة مع اليمنيين جميعاً، إذ إن عدداً من القوى السياسية والاجتماعية والقبلية، فضلاً عن القوى الدينية، يرفض التدخل الأجنبي في المعركة ضد تنظيم القاعدة، وقد تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تغرق في أوحال أبين، حيث تبدو المعقل الأهم للتنظيم على الأراضي اليمنية .


وإذا ما قررت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل بأي شكل من الأشكال في المعركة المقبلة ضد تنظيم القاعدة من خلال إرسال جنود، كما تردد مؤخراً؛ فإنها ستتحول إلى جزء من المشكلة وليس إلى مشروع للحل، وفي هذه الحالة قد ينقلب “السحر على الساحر”، فتتحول أمريكا إلى هدف مشروع لتنظيم القاعدة، ويتحول التنظيم إلى لاعب رئيس في المنطقة يصعب التخلص منه في المستقبل بأي شكل كان، غير أن تأكيدات الإدارة الأمريكية عدم حاجتها إرسال مقاتلين إلى اليمن خفف من تلك المخاوف، وإن لم يبددها بشكل كامل .


الأشواط الأخيرة


بعد النجاحات الكبيرة التي حققها الجيش اليمني في معركته ضد تنظيم القاعدة، والشجاعة التي أبداها الرئيس عبدربه منصور هادي في اتخاذ قرار المواجهة، رغماً عن الانقسام الواضح والبيّن في صفوف الجيش والأمن بسبب الأحداث العاصفة التي مرت بها البلاد، يمكن القول إن المعركة بين الجيش وتنظيم القاعدة بمختلف مسمياته، في طريقها إلى أشواطها الأخيرة، فالقاعدة لم تجد في معاركها العديدة مع النظام السابق مثل هذا الإصرار على إغلاق هذا الملف وإعادة الحياة الطبيعية إلى البلاد، والتي افتقدتها لأكثر من عام . مع ذلك فإن كثيرين لا يريدون الإفراط في التفاؤل في انتهاء المعركة الطويلة مع القاعدة، فهم يدركون أن ما يعتمل اليوم في الساحة اليمنية ربما يغذي تنامي نشاط القاعدة في مناطق مختلفة من البلاد، استناداً إلى حال الانقسام الذي تشهده الساحة وعدم قدرة الأطراف السياسية بمختلف مكوناتها على الاتفاق على رؤية موحدة للخروج من طاحونة الأزمات المتلاحقة على أكثر من صعيد .


الفراغ الذي يمكن أن يحدثه الانقسام السياسي، فضلاً عن انقسام المؤسستين العسكرية والأمنية، على الوضع العام في البلاد سيفقد الدولة النصر الذي يتحقق على الأرض مع مرور الوقت .


من هنا لا بد من دفع الأمور في اتجاه التوافق السياسي الحميد، الذي يرسخ هيبة الدولة الواحدة من خلال البحث عن شكل من أشكال الحل السياسي الذي يقضي على الترهل الذي أصاب جسد الدولة خلال العقود الماضية من حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والبدء بإعادة بناء نظام سياسي مرن قادر على استيعاب الجميع والتعاطي مع المعطيات الجديدة وفق رؤى جديدة ومختلفة، نظام يكون قادراً على معالجة النتوءات التي بدأت بالبروز بعد تحقيق الوحدة، وبخاصة منذ الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد خلال العام ،1994 وهي الحرب التي أسست لأعقد الأزمات التي يعيشها اليمن في الوقت الحاضر .



المصدر : الخليج – صادق ناشر

زر الذهاب إلى الأعلى