أدب وفن

قراءة في تجربة الجيلاني.. منصور السروري

يمنات – الجمهورية

قبل الخوض في برهنة عنوان هذه الورقة، من المهم الإشارة إلى خصوصية مائزة تلازمية تكاد تكون حصرية على الكاتب المبدع علوان مهدي الجيلاني، هي الجودة البنائية في الشكل والمضمون النصي، سواء في شعرية الجيلاني أو في منهجيته الفكرية في مختلف الأجناس الإبداعية التي يواصل اشتغاله عليها.

منطلقة في هذه الخصوصية هو المآخذ التي أخذت على شاعر اليمن الأكبر عبد الله البردوني في كتاباته غير الشعرية من ناحية -أي المنهجية البحثية- ومن ناحية أخرى تنطلق خصوصية الجيلاني من أخذه لذات القاعدة التي اشتغل عليها البردوني في سائر كتاباته الاستقرائية فيما يتصل بأسئلة الحداثة التي يعرفها “الجودة هي الحداثة الدائمة” غير أن الجيلاني هنا لا يكرر البردوني بقدر ما يلتقط فيه هذه الخصوصية البردونية للإفادة منها أثناء عملية الإنتاج الفكري المغاير شكلاً وجوهرياً لكل القامات الفكرية..

إن سر التحديث الدائم عند الجيلاني يعزى إلى هذا الاجتهاد في التجويد الإبداعي حتى في حالات انتياب مؤرخ الأفكار من أن ثمة متشابه في هامش الشكل، غير أنه بقليل من العمقية في المضمون يكتشف أنه أمام منتوج خلقه الجيلاني نصاً جديداً شكلاً ومتناً، وقلما يوجد هذا الاستدراج عند الكتاب المعاصرين؛ لكونه نسقاً معرفياً.. ومنهجياً لا يتقنه سوى كاتب محترف في توظيف تقنيات الكتابة التي تحتل في وعيه دوائر عريضة متعددة ومختلفة، تطوع له الكتابة في معظم الأجناس الأدبية بجودة متماهية التجديد، والإضافة فيها خلاصة تجارب تلك الأجناس دونما تفقد النص الجيلاني المولود حصرية جنوسيته الخاصة،، فنجده مع مجايليه شاعراً، لكن خارجهم، ومع الباحثين باحثاً ولكن خارج أوراقهم وتقنياتهم في الكتابة، ويستولد من ذاتيته الشعرية.. ذاتية شعرية مغايرة لمجاوريه، ومن استلهامه للموروثين العربيين (الشعري والفكري) ومن انفتاحه على كل ما يقع في طريق قراءاته من الإنتاج الإبداعي العالمي.. من كل ذلك استطاع التكثيف حيث الإيجاز اللغوي، والتوهج حيث الإشراق، وإدراك الجوهري من المحيط الذي يمتح منه جوهرية مضامينه الشعرية والبحثية..

 

أولاً: وجع الشعر:

لا يتسبب الشعر في إيجاع الشاعر سوى لحظة يكون فيها قد صار -أي الشاعر- جديراً باستحقاقه الإجازة الإحترافية في نحر الشعر.

أعتقد جازماً أن الجيلاني بين مجاوريه/مجايليه يعتبر الأكثر أحقية بلقب أبرز شعراء نهاية القرن العشرين في اليمن، وتحديداً خلال الـ15 سنة (1990-2004م) سواء من حيث الإنتاج الكيفي أو الكمي.. إذ أصدر خمسة أوجاع شعرية هي:

· (الوردة تفتح سرتها) ديوان جاء بمثابة تباشير تعلن عن انبلاج حياة وردة جديدة هي الوحدة اليمنية. انفتاح السرة هي لحظة ولادة الوردة (الوحدة) وهذا التبشير بحياة ستكون رائحتها وردية، هو التبشير الأول، أما التبشير الثاني فيتزامن مع الأول، بميلاد شاعر جديد هو علوان الجيلاني.. ولما كانت معطيات الواقع تصوغ عناويناً متناهية التعقيد في مسارات وأحداث الحياة ظهر ديوانه الثاني..

• راتب الألفة.. ضمن إيقاعات الألفة والمراتب المتسامية التي تحدد قيم التآلف.

ديوان تمخض وجع الجيلاني فيه عن النقاط القيمية العالية التي يمكن أن تجمع المتقاطعين عندها في دروب الواقع المتنامية تعقيداته.

راتب الألفة.. رسالة لم تحدد الاتجاهات اللا تآلفية بقدر تحديدها لوجهات التآلف والمراتب التي تحدد قيمة كل مستحقيها بمقدار ما يحملونه في جوانحهم من حب الناس.

• إشراقات الولد الناسي.. هو الوجع الثالث الذي بدا من عنوانه أعمق التزاماً، وأوسع عقلنة ورؤية.. نتأمل الجيلاني واقفاً قبالة المعطيات الجديدة للواقع الإنساني، والقومي، والمحلي، يتساءل: أين تتموضع رؤيته الشعرية داخل وبين هذه المستويات اللولبية الثلاث؟

إزاء الكم المتحصل عليه من الرؤى الابستمولوجية الكافية له كشاعر مكتمل الهيئة الإنتاجية للشعر، إلى جانب ثقته الذاتية، وقدراته القروية التي شرعت تلاعج ظنون وعيه من أنه ذا شأن، وهو يحس بكل ذلك ذهب يحدد منطقة وجوده داخل تلك المستويات الثلاثية اللولبية، ويوظف ذاته على أن لا تظن من أنها قد صارت ذات شأن كبير، قامعاً بواعث غرورها بالتواضع.. التواضع الذي يراكم في الوعي انعكاسات أنوار المعارف في (إشراقات الولد الناسي)..

الملاحظ أنه في حين استتشفت بصيرته في ديوانيه الأول والثاني منطلقة بعنفوان قوة الرؤية الواثقة بقدرتها في تطويع المستحيل.. كمثل الذي يرى أن في مقدوره تغيير العالم ثم يتراجع بفعل تقادم الوعي إلى تغيير محيطه الاجتماعي.

الملاحظ أنه في ديوانه الثالث استشفت بصيرته في (إشراقات الولد الناسي) ذاتيتها، والمستوى الذي هي عليه من الوعي في الوسط الإنساني (وعي تحمل إشراقاتها) غير أن خوف الجيلاني من انزلاقات الهوى النفسي المباح، تقدم خوفه من انزلاقات ألسنة النقص الإبداعي الاستاتيكية/الجامدة من وصمه بالغرور، وهو السر الذي حدا به ﻷن يروق المبتدأ (إشراقات) بخبر (الولد الناسي) وليس (المنسي) فثمة تباين بين مدلولي المفردتين، وهو إجراء يكشف إلى أي مدى يكون عليه الجيلاني من ذكاء فطري، مصقول بحجم المعارف والتجارب والخبرات.

• غناء في مقام البعد.. هو الوجع الشعري الرابع.. أفقه النصي جاء أكثر فوقية في إبصار التحتيات من الأشياء، والموجودات، وصيرورة مآلاتها.

واضح من العنوان الإرتفاع المتجلي، والتجريب الروحي في الإرتقاء باللغة والصورة، والتعبير الإنساني، وامتلاك صيرورة التخطي للحواجز الآنية والمكانية علة نحو أنضج من دواوينه السابقة حفراً وكشفاً ورؤية وهيمنة على النص الشعري في مقام صنعته، وتسيد كتابته.

والجيلاني في مدارج ارتقاء الكمال الروحي، والابتعاد عن كل ما هو (بشري وترابي) لكأنه في هذا التسامي يريد الإفصاح عن مرارات أوجاعه المفروضة عليه كإنسان عادي، فكيف وكينونته إنسان شاعر؟

• كتاب الجنة… في رحلة الصعود والترقي في مدارج الكمال الروحي المتنامي عن تفاهات طبائع التراب يتريث مؤقتاً الجيلاني عند وجعه الخامس، مرتلاً علينا (كتاب الجنة) باعتبارها غاية كل وعي طبيعي في تكوينه الأيديولوجي والبيلوجي.

لا أظن أن هذه الأوجاع الشعرية الخمسة التي كابدها الجيلاني هي مجموع دواوينه، فثمة قصائد كتبها الشاعر منذ آخر ديوان له العام 2004م.. وهي جاهزة وتحت الإصدار بعنوان (يد في الفراغ) كديوان سادس.

قصائد قرأت بعضها المنشورة في صحف، ووجدتها تنطوي على مقاربات تفلسف طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان والواقع برؤى استقرائية للكون، كبيت للجميع ملزمين بالحفاظ عليه.

ومبعث استلهامي هذا يعزى إلى التحول الذي جعله يتجه ناحية الاشتغال الفكري غير الشعري، المتمثلة في كتبه التي تحتوي على عدد غير قليل من الدراسات والأبحاث المضنية التي أهداني نسخاً منها كـ(قمر في الظل) و(أصوات متجاورة) وقبلها (امناجي ثواب.. وكوميديا الألم)

 

ثانياً: وجع التأصيل الفكري:

لطالما راودتني أسئلة، هي: الجيلاني ناقداً أم باحثاً أم مؤرخاً؟ وما الفرق بين الجيلاني الناقد والجيلاني الباحث، والجيلاني الشاعر؟

لأن الشعر عمل لغوي، يتمخض عن تطور لغة الشاعر، وقدراته على عكس الكائنات الشعرية بلغة غير عادية، ولن تجد فيه تصريحاً تاريخياً واقتصادياً وسياسياً بهذه البساطة.. لكن الشروط الثقافية تحضر بقوة في المخاض الشعري للجيلاني، وهذا يقودنا إلى السؤال: هل الجيلاني في النقد بذات مستوى الجيلاني في الشعر؟ أم هو أكبر في أحدهما؟

وإذاً: أيهما يحضر فيه أكثر وأكبر؟

وإذا أضفنا اهتماماً ثالثاً إلى همي (الشعر والنقد) هو البحث المضني عن الإبداع المطمور في معاطف التراث المدفون.. تتزايد الاسئلة: من يكون الجيلاني إذاً؟

ثلاثية الجيلاني (الشاعر، الناقد، المؤرخ) ثلاثية لكل واحدة منها.. أدواتها ومناهجها، وطرقها التعبيرية المختلفة والخاصة، والكاتب الذي يستطيع أن يستقل ويتجرد من كل واحدة من هذه الثلاثية أثناء اشتغاله على أحدها هو الذي يستحق بجدارة حمل لقب (المفكر) والمفكر لا يكون مفكراً إلا حين يمتلك منهجاً فكرياً في تأصيل استقراءاته..

والقارئ في كتابات الجيلاني غير الشعرية سيلحظ حركة التطور في التفكير المنهجي عنده وإصراره على الانتقال من طور حمل الفكرة في رحم الخيال إلى طور تمخضها كمشروع يواصل الاشتغال على إنجازه نظرياً، وصولاً إلى تأصيلها في حيز من الواقع الملموس في صنيعة مؤلف فمؤلفات.

قليلون هم الكتاب -خاصة في هذه المرحلة التي نعيش داخل ظروفها الراهنة بكل مفارقاتها وتناقضاتها- في بلادنا ومنطقتنا العربية.. قليلون هم الذين الذين التقطوا معطيات هذه المرحلة، وطبيعة متغيراتها، ومؤشرات إرهاصات انتقالها إلى أوضاع تلبي رغبات مجتمعاتنا في الحياة بشروطها الإنسانية التي هي من سيحدد مضمون صيروراتها..

ولأن الجيلاني يمتلك من المحددات والممكنات الإستقرائية ما يكفي لاستشفاف ملامح هذا الإنتقال إتجه ناحية صياغة مشروع فكري ليس بهدف رفد المكتبة اليمنية بعدد من المؤلفات فحسب، وإنما لتأصيل منهجية فكرية في النقد الإستقرائي لبعض تجارب المبدعين اليمنيين، سواء المجايلين له أو الذين يسبقون جيله، وتالياً في تدارك ما يمكن تداركه من بقايا مآثر مبدعين سجلوا حضوراً مؤثراً في الذاكرة المجتمعية، التي تسبق قيام ثورتي سبتمبر واكتوبر، وهو بهذا المسلك أشبه كثيراً بمفكرين أوروبيين عاشوا المراحل الإنتقالية الأوروبية من النهضوية إلى التنويرية إلى الحداثية، ممن تركوا وراءهم إرثاً إبداعياً متنوعاً بين الشعر والرواية، والنقد، والتاريخ..

وما تزال أصالة منتوجهم الإبداعي عالقة بأريج عقولهم حتى اليوم، كفكر تشكلت منه منطلقات الحضارة الأوروبية النظرية، والمادية على حد سواء.

ونظرة في عناوين وفهرسة الإصدارات غير الشعرية تؤكد جدارة الجيلاني على استحقاق كينونة المفكر -أي الكاتب الملتزم- الذي يمتلك التفكير داخل مشروعه الخاص في الإنتاج الفكري الذي يبلغ حد ما أعلم أكثر من (30) كتاباً أنجز منها حتى الآن أربعة إصدارات هي:

• ديوان الحضراني.. جمع وتحقيق ودراسة.. أصدرته وزارة الثقافة عام 2006م.

• امناجي ثواب.. وكوميديا الألم… عن مركز عبادي للدراسات والنشر 2007م..

• قمر في الظل.. قراءات في تجارب رواد الإبداع والثقافة في اليمن… من إصدارات تريم عاصمة للثقافة الإسلامية 2010م.

• أصوات متجاورة.. قراءات في الإبداع الشعري لجيل التسعينيات في اليمن… وهو من إصدارات تريم عاصمة للثقافة الإسلامية 2010م..

وليست هذه الإصدارات الأربعة هي وحدها كل مشروع الجيلاني الفكري.. فقرابة عناوين عشرة جاهزة للإصدار، وقد نشرت معظم فصول مباحثها في صحف ومجلات يمنية وعربية، وما يقارب الـ (15) عنواناً لم يتبق لها سوى بعض اللمسات الأخيرة، علاوة على مشروعه الكبير الموسوم بـ(خطة توثيق التراث الشعبي في تهامة) على ثلاثة مراحل.

وبالعودة إلى عناوين الباحث والأديب الشاعر والناقد علوان الجيلاني لم يتوانى أي مفكر أو كاتب أو مؤرخ عن وصفه كما أسلفت بالمفكر ذو المشروع الفكري، إذا تمحورت جميع أبحاثه ودراساته على الاستقراءات والمقاربات النقدية والسيرية، والتوثيقات والتحقيقات لعشرات من الأسماء الرائدة في مختلف مناحي الإبداع، وتجاربها الثقافية، منتقياً بعناية المواضيع المتمحورة حولها، اشتغالاته الفكرية، منبشاً عن المائزات في تجارب منتوجها الإبداعي.

فتجد الجيلاني في أول أبحاثه يختار شاعراً يمنياً كبيراً، لكن لم يكن البحث عن قصائده ليجدها بسهولة، عدا تلك المغناة بأصوات بعض الفنانين، فإذا بالجيلاني يعتكف على ضنى جمعها وتحقيقها وتقديمها بدراسة تتجاوز قيمتها الشعرية.. هو (ديوان الحضراني)..

وفي كتابه (أصوات متجاورة) تجلى الكاتب كناقد مفكر في المحاور الثلاثة الأولى لمبحثه، من خلال مضامين عناوين المحاور الرئيسية والفرعية.. ففي المحور الأول: مقاربات تمهيدية.. ناقش تحتها إشكاليات التجاور والتجييل.. والجيلاني في هذا التعبير الاصطلاحي يكون في مقدمة المفكرين الذين أصلوا لمصطلح (التجييل) حد ما أعلم في قراءة الإنتاج الإبداعي.. واستكناه منطلقات وعيه النصي لتحقيق الوصول إلى أقرب مستويات اللحظات التفكيرية التي عاشها الكاتب المبدع أثناء اشتغاله على النص الإبداعي، أو الكشف عن درجة ومستوى الوعي الذي كان حاضراً لحظتئذ.

والجيلاني حين يقف أمام كل حالة إبداعية على حدة يقوم قراءاته الكاشفة لمستويات الوعي الإبداعي لهذه الحالات.. قراءات تقترب من لحظة الوعي الإبداعي، مكنت الجيلاني من إدراك جوهر إشكاليات تجاور تلك الحالات الإبداعية بدليل أنه في سياق تأصيل إشكاليات المجايلة.. أفرد جانباً من هذا المحور لمظاهرها المتمثلة في (جيل التسعينيات الشعري في اليمن من استشراف الغد إلى امتلاكه أدوات استعراض الواقع ورصد التجليات) بعد أن مهد في هذا المحور لـ(بانوراما أجيال الشعر اليمني في القرن العشرين) وقيامه بمقاربتين مبكرتين لطلائع التسعينيين(..

في المحور الثاني يؤكد الجيلاني ما ذهبنا إليه من أنه يشتغل على منهج فكري خاص به، ويعمل على تأصيله بالمصطلحات التي تمثل خلاصات التطور النظري في الفكر الإنساني نحو مصطلحات (المعايرة، المعاينة، المقاربة.. إلخ) حيث قام بمعاينات (استقراءات) عميقة لتجربة جيل التسعينيين الإبداعية.. خرج منها.. أنها تتمظهر -أي تلك التجارب- بارتكازها على أساسين:

الأول: المعايرة، والآخر: المعاينة.. ورغم هذا التباين في كلا الحقلين برهن على تجاور الأشكال الشعرية في تجارب التسعينيين رغم الصراعات المتمثلة في مقولاتهم، وتشكيلاتهم، وتياراتهم الظاهرة في التجمعات والشلليات، والمقايل، وانتقاده لكل هذه الظواهر لكونها أنتجت وعياً أفقياً. ومعايرة شعرية تقوم على (القص واللصق) عبر العناوين التي وردت في هذا المحور نحو (نقد القراءة الأفقية) قطع واستبدال أم كتابة على رق ممسوح.. الدوائر المتاقطعة.. والدوائر المتقطعة.. القطيعة فعل احتجاج.. أفق الإختلاف من العناوين إلى النصوص..

وﻷنه يكتب بأدوات الفكر الممنهج في الإستقراء الفكري قدم في المحور الثالث مقاربة استقرائية حول بؤرة تلتقي داخل وحدة الفكرة الإبداعية، على اختلاف الإنعكاسات الشعرية عن مدينة صنعاء، حيث تجلت نصوص شعراء جيل التسعينيين المحمولة من وحي (صنعاء) بتحولها (من الأسطوري الباذخ إلى الوحشي المتآكل)..

وإن كان ثمة مأخذ على الجيلاني في هذا المبحث (أصوات متجاورة) فهو ظهور الكلية في الغلاف (قراءة في الإبداع الشعري لجيل التسعينيين في اليمن) وغيابها في متن الكتاب، إذ جاء المحور الرابع مبرزاً (14) قراءة مفردة، عاين داخل تجاربها بعمقية متسعة.. الأصوات الشعرية المتجاورة في اليمن في الآن الذي فيه هذه الأصوات تكاد تكون من الناحية الجغرافية من الشمال، وتحديداً (شمال وغرب الشمال على نحو أكبر) وقد أكون مخطئاً في هذا المأخذ؛ لان الذاكرة لا تمنحني.. وأنا أمتح هذه المادة الآن بعيداً عن إرشيفي الصحفي، ومكتبتي الخاصة، وعدم تسني الظروف المتعددة لان أعود للبيوت والمكتبات الثقافية للتأكد من أن الجيلاني تجاوز أسماء من شعراء جيل التسعينيات، أو أن هؤلاء الذين تناولهم في المحور الرابع هم كل شعراء اليمن، أو الأبرز من منطلق أنهم الوحيدون الذي صدرت لهم دواوين شعرية جعلته يحصر دراسته عليهم وحدهم… وهنا فقط أسحب هذا المأخذ..

من كل ما سبق، ومن أهم عناوين الأبحاث والدراسات المنشورة في كتب صحف ومجلات أو مخطوطة هي على وشك الإنجاز نستطيع الوقوف قبالة المشروع الفكري لعلوان الجيلاني.. وذكر الأدوات التي يعتمد عليها كوسائل فاعلة في تأصيل منهجه البنائي لمشروعه الفكري.. لكن قبل ذلك من الضروري الإشارة إلى أن مجمل الاشتغالات الفكرية التي تكون مشروعه الفكري كلية، تقوم على أهم عامل من عوامل كشف الحقائق المكنونة في الوعي النصي أو الخطابي.. وهذا العامل هو (المقاربة- المقاربات) والذي لا يلتان جانبه إلا لمن دأب في لم أطراف المعرفة وسبر أغوار وخفايا ماضي الحياة، وأعلام صناع حالاتها وتحولاتها .

نعم (المقاربات) عامل لا يلان لكاتب إلا وتسلم مفاتيح أبواب المعارج، وتمكن من الإحاطة بمقدمات وقائع صناعة أيام الحياة ونتائجها.. وكيف انعكست على وعي الشاعر ولغته الشعرية؟

ولهذا يلحظ مؤرخ الأفكار سر التكرار عند الجيلاني في جل عناوينه لـ(عنصر المقاربات) الذي جعله يحس مطمئناً من أنه يكاد يلامس (زمكانية) الوعي المشتغل على الفكرة الإبداعية لحظة تمخضها من رحم خيال حاملها إلى حيز الواقع.. وعندما نستعرض أهم تمظهرات مشروعه الفكري سنجد أن المقاربات واحدة من أهم أدوات بناء مشروعه الذي أشرت سلفاً أنه يقارب الثلاثين عنواناً هي مجموع العناوين التي يشتغل عليها منذ أواخر التسعينيات، وكان يأمل إنجازها كاملة مع نهاية العقد الأول من هذا القرن لولا حزمة من الأسباب التي حالت دون ظهورها حتى الآن.. مع أنها شبه منتهية، ولا تحتاج سوى دعم الجيلاني الدعم الذي يساعده على تشطيبها نهائياً.. ودعم طباعتها حتى يلتفت إلى قضايا فكرية أخرى يشتغل فيها لا سيما وأنه أبرز وأغزر أبناء جيله على الكتابة، وتوليد الأفكار..

أعود فأقول: إن أدوات الجيلاني التي اعتمد عليها كوسائل في تأصيل منهج بناء مشروعه الفكري هي:

• المعاينات: والمعاينة عند الجيلاني هي (القراءة) وهي وإن كانت شكل من أشكال النقد، غير أن اعتماد أداة القراءة عوضاً عن اداة (النقد) تخرجها عن كونها قراءة نقدية إلى كونها قراءة كاشفة لأهم الملامح الجمالية الأكثر إضاءة للنص الإبداعي، واستخدامه لأداة القراءات أسفرت عن إنجازه كتابي (أصوات متجاورة.. قراءة في الإبداع الشعري لجيل التسعينيات في اليمن) و (قمر في الظل) صدر بنفس العام 2010م خلال (تريم عاصمة للثقافة الإسلامية) وفيه يتناول عدداً من رواد الإبداع والثقافة في اليمن، من خلال قراءة تجاربهم، نحو (عبد الله البردوني، عبد العزيز المقالح، عبد الفتاح إسماعيل، عبد الرحمن الأهدل(..

وجميعها تؤصل لمنهجية قراءته في فهم ما تحمله من تجارب هؤلاء الرواد من إضافات في حركة الإبداع اليمنية.. ومن هذه المعاينات/الاستقراءات مبحث (مفاتيح الأدراج.. قراءة في السرد التسعيني) إلى جانب (موجة خارج البحر.. قراءات في التصوف اليمني)..

• المقاربات: إلى جانب ما أشرت إليه في ثنايا هذه المادة عن المقاربات فإن الجيلاني يوظفها على النحو التالي:

1– المقاربة النقدية.. تهدف الوصول إلى أقرب ظرف (زمكاني) عاشه (الكاتب) لاستخلاص مدى وعي النص المكتوب بما يحمله من إيحاءات ودلالات ومدى تأثره بالعوامل المحيطة والمؤثرة فيه، وعكسها في دلالات لغته.

والجيلاني في هذا الشكل من المقاربة إنما يحدد مقدار نجاحه في كشف الخطاب النصي، وبمقدار صحة الاستنتاجات التي يقف عليها في مقارباته تتحدد قيمة نسب النجاح، ومثل هذه المقاربات بلورها في مبحثه المنشور في صحيفة الجمهورية (أخطاء القراءة وضحايا سوء الفهم) وهي مقاربات نقدية في كتب يمنية.

2- المقاربات من أجل حماية التوثيق:

في تقديري أن مقاربة أي إبداع كان مطموراً أو مهملاً هو واحد من دواعي إطلاق مسمى (المفكر) على الجيلاني ومن أنه صاحب مشروع فكري.

إنه لا يكتفي بالبحث عن المفقود أو المنسي من الإبداع وتوثيقه من الضياع فحسب، بل يقوم بعمل مقاربة استقرائية له وفهمه فهماً يجعله أحرص على ضرورة أرشفته لما فيه من قيمة إنسانية، وتجربة صادقة واعية في تغييرها عن واقعها.

هذا الشكل من المقاربات تجلى في كتاب من جزئين (ارتجال الوجود.. توثيق ومقاربات الفنون من الشعر الشفاهي المغنى في تهامة) وفي ثلاثة بحوث هي: (ديوان ابن غازل، ديوان امباقي، وفن الشامية) وفيها مقاربات السيرة وفن الشاعرين (ابن غازل، وامباقي) وكذا مقاربات لفن الشامية، وتمظهرات شعرائه، وهذا الشكل من المقاربات لا يستخدم كأداة في الكتابة إلا لحماية ما تم إدراكه من تجارب الإبداع نحو كتاب (امناجي ثواب.. وكوميديا الألم) وكتابي (مبارك بكير شاعر تهامة الأسطوري) و(شمس الشموس أبو الغيث بن جميل).

3- المقاربات المباشرة:

هي أكثر المقاربات اختباراً للمفكر.. وكونها تكوين مزامنة لكل من الكاتب والشاعر.. الشاعر بوصفه مبدعاً في جنس أدبي.. والكاتب بوصفه مبدعاً في استنطاق النص.. وسبر مستوى وعيه.. وأي هفوة من الكاتب القائم بفعل المقاربة كأن يحمل النص الشعري محمولات ليست فيه محمودة كانت أم مذمومة، فإن الشاعر هنا مهما وارب حقيقة قيمة النتيجة التي حصل عليها الكاتب في مقاربته له أو لنصه.. هو من يحدد مستوى دقة المقاربة..

وإن في وعيه من أن المقارب كاتب يتقن فن المقاربة أو كاتب ليس أكثر من مستعرض بعضلاته الفكرية.

ولثقة الجيلاني من مقاربته في هذا الشكل من أشكالها اختار شاعراً مزامناً له، ومن ذاتها البيئة التي يعيش فيها (تهامة) اختار أحمد سليمان واضعاً له مبحثاً كاملاً عنونه (شاعر امزخم.. مظهر الشعر وظاهرة الحضور.. مقاربات في تجربة أحمد سليمان الشعرية وظاهرة حضوره الاستثنائي).

· التحقيقات والدراسات:

واحدة من أدوات التأصيل لمشروع الجيلاني الفكري يعيد بقراءتها ما أبهم من إشكاليات هجرها وبتحقيقها يعيد إنتاجها إلى الحياة، من أجل ما تحمله من تشابهات المضامين، وهذا يقودنا إلى احترام وتقدير صاحب ذلك العمل خاصة عندما يردف تحقيقه بدراسات رصينة، وما حققه وقام بدراسته، وفي طوره لاستكماله (هداية السالك إلى أهدى المسالك) و(ثمرة الحقيقة ومرشد السالكين إلى الطريقة) وديوان (العفيف اليماني) وسبق أن ذكرنا (ديوان الحضراني) الذي إلى جانب تحقيقه وتقديمه قام بجمعه بعد أن كاد ينطمر.

أخيراً.. تلك كانت أدوات الجيلاني في تأصيل مشروعه الفكري الذي تمحور داخله عناوين كتاباته المتعددة، علاوة على عناوين الكتابات المتفرقة الأخرى التي رفد بها الجيلاني عشرات الصحف والمجلات، وفي طريقها لأن تكون ضمن مشروعه النقدي.. نحو مبحث (سود معمى أو الغناء بضمير الجماعة) ومبحث مخطوط بالتعاون مع الأستاذ علي قشر عنوانه (الطارق.. إبداع تهامي خارج المألوف) ومجموعة من المقالات الشاهدة على استقراءاته الخاصة نحو (حتى لا نكون شهود زور) إلى جانب هذه العناوين ثمة عناوين خارج اشتغالات الكتابة المنهجية النظرية نحو (فضاءات الذاكرة.. عن الأمكنة والناس) و (بدل فاقد) و(كما يحدث الآن) وهي بين أدبيات سردية.. وأدب الرحلات والسير الذاتية.. وجميعها تؤكد على ألمعية الجيلاني كمفكر مبدع بين كتاب جيل التسعينيين من القرن المنصرم..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع:

1- امناجي ثواب.. وكوميديا الألم.

2- أصوات متجاورة.

3- قمر في الظل.

4- علوان الجيلاني يحتفي بأبناء جيله، الثقافي، الثورة، 14 مارس 2011م.

5- السيرة الذاتية لعلوان الجيلاني على (ويكيبيديا) الموسوعة الحرة.

زر الذهاب إلى الأعلى