تحليلات

الحراك الفارسي و حكاية جيهان .. إيـــران مــــــرة أخــــــرى.. عبدالله علي صبري

يمنات

في الزيارة السابقة كانت طهران في ذروة الربيع، وكنت حينها مأخوذاً بطبيعتها الخلابة و بتخطيطها العصري، و بسكون الحركة فيها، إن جاز التعبير، ذلك أنه وبرغم ازدحام المدينة بالسكان و السيارات، إلا أن الضجيج المألوف لدينا يكاد يكون منعدما في العاصمة الإيرانية، وهو ما يعكس رقي و حضارة الشعب الإيراني، واحترامه للنظم و القوانين، رغم أن كل المظاهر المدنية في إيران تؤكد أننا أمام مجتمع مولع بفن العيش و الحياة الكريمة.

تزامنت الزيارة مع الذكرى 34 للثورة الإيرانية، وهي ثورة ملهمة بالفعل، ولا شك أن الربيع العربي استلهم من الثورة الإسلامية الصمود والاستبسال السلمي و روح التضحية و الاستشهاد، قبل أن تنزلق بعض ثورات العرب إلى فخ العنف و الحرب الأهلية.

تستمر الاحتفالات الإيرانية بالثورة عشرة أيام يطلقون عليها " أيام الفجر"، وهي الأيام التي تبدأ بيوم عودة الإمام الخميني إلى إيران من منفاه في فرنسا، و تنتهي بيوم سقوط حكم الشاه وهروبه إلى خارج البلاد في 11 فبراير 1979.

يعتز الشعب الإيراني بثورته. و بعاطفة جياشة نزلت الملايين إلى شوارع العاصمة والمدن الأخرى احتفالاً بالمناسبة، وكانت صور الشهداء حاضرة أكثر من صور الخميني أو الخامنئي، أما الرئيس نجاد فلا صور له في أي مكان، و قد قيل لنا أن نجاد رفض منذ توليه الرئاسة تعليق أي صور له في الأماكن العامة (ربما الرسمية ) !

هنا الثورة مستمرة.. فقد حضر النساء و الرجال و الشباب و الأطفال وحتى المعاقين إلى ساحة آزادي (الحرية ) بطهران، حيث كان الاحتفال الرسمي ، وفيه ألقى الرئيس الإيراني كلمة بالمناسبة ، مؤكداً فيها أن إيران " لن تقدم أي تنازلات للغرب في ما يتعلق ببرامجها النووية ".

وقال إنه بعد 34 عاما على الثورة ، ينبغي على أعداء إيران أن يدركوا أن الضغوط والترويع لن يجدي نفعا، مضيفاً : إن ثورتنا انطلقت لإحياء الاستقلال والعزة الوطنية وأوجدت تغييرات جذرية لدى الشعب الإيراني.

نجاد تحدث كذلك عن التطور العلمي في إيران، وقال: إننا ضمن البلدان القليلة في العالم التي تمتلك الدورة الكاملة لإطلاق القمر الصناعي، ونحن ندير ونوجه هذه الأقمار ، وفي القريب العاجل سنطلق القمر الصناعي الإيراني على مدار 36 ألف كيلومتر ، وسنقف في مصافي الدول المتقدمة في الإعلام وسنرسل نداءات السلام والعدالة لكل الإنسانية. و لم ينس الإشارة إلى نجاح ايران في إطلاق كبسولة الى الفضاء تقل قردا، و استعادته معافى عند هبوطها، ولفت إلى أن الخبراء الإيرانيين صنعوا مؤخرا أحدث طائرة مقاتلة تتمتع بكل أنظمة المقاتلات والقاذفات في العالم وتجمع كل الخصوصيات الحديثة.

 

 

بين القصرين:

حتى يعرف الناس لماذا ثار الشعب الإيراني على حكم الشاه، كان لا بد من مقارنة و لو بسيطة بين معيشة الشاه في قصوره، و بين معيشة قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني.

زرنا في البداية أحد قصور الشاه .. كانت مساحته شاسعة إلى درجة أن المنظمين كان عليهم أن يشرحوا لنا محتوياته وفقاً لخريطة منصوبة أمام المدخل الرئيسي للقصر.

ونظراً لضيق الوقت كان من الصعب أن نستكمل زيارة المبنى و كل ملحقاته، ثم أن الأشجار الضخمة و الحدائق المحيطة بالقصر، أخذت حيزاً كبيراً من الجولة.

كان القصر قريباً من أحد الجبال القليلة المطلة على طهران، و لأننا في الخريف، فقد فهمنا أن الشاه فضل هذا المكان لأن الأنهار تجري من حوله نظراً لذوبان الثلوج من على رأس الجبل.

الحياه المخملية في القصر كانت بادية على كثير من جنباته، وخاصة من الداخل، وقد كان القصر وجهة للثوار في الأيام الأولى وتعرض للنهب والتخريب، حتى جاءت تعاليم الثورة محذرة من فعل كهذا، ومؤكدة بأن هذا القصر وغيره من القصور الأخرى داخل وخارج طهران أصبحت ملكاً للشعب الإيراني ولا ينبغي نهبها أو تدميرها.

و بالفعل تحولت كثير من مباني القصر إلي متاحف لشعراء و فناني الثورة وغيرهم، في تكريم شمل الأحياء من الثوار كما شمل الشهداء منهم.

غير أن أهمية زيارة القصر، تتجلى أكثر بعد زيارة (قصر) الإمام الخميني، فهو مبنى مشيد من غرفتين و صالة لا أكثر، ولا يحتوى على أي من مباهج الدنيا، و المنفذ الوحيد له يمتد إلى المسجد / الحسينية التي بجوار البيت ، ومنها كان الخميني يلقي خطبه ويلتقي بأركان حكومته و بالزوار من خارج إيران.

رفض قائد الثورة أن يجلس على كرسي الشاه أو السكن في أي من قصوره، وفضل بدلاً من ذلك استئجار بيت رآه كافياً لمتابعة شئون الثورة و الدولة و النظام الجديد الذي شغل العالم ولا يزال.

في بيت الخميني تجد صوراً تجسد تواضع الإمام مقابل حب الناس وتعلقهم به، إلى درجة أن جنازته كانت الأكبر في التاريخ حتى الآن، وباستنطاق الصور التي رأينا مع قليل من الشرح نعرف أن السلطات عجزت عن مواراة ضريح الخميني لمدة ثلاثة أيام حتى استعانت بطائرة هيلوكوبتر لتنفيذ المهمة.

 

الدفاع المقدس:

كان متحف " الدفاع المقدس " ضمن برنامج الزيارة، و في المتحف سجل الإيرانيون بالصوت و الصورة مأساة الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت نحو 8 سنوات.. و بالطبع كان الشرح أحادي الجانب، ومتحيزاً لإيران .. غير أن الحرب تبقى الحرب، دم ودموع ، وخراب و دمار ..ونصر و انكسار.

يرى الإيرانيون أن الحرب شنت عليهم من قبل نظام صدام حسين و بدعم ثمانين دولة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.. و لأن الثورة كانت لا تزال فتية فإن الحرب شغلتها عن كثير من القضايا الداخلية، وعاشت الجمهورية الإسلامية لحظات عصيبة خلال السنوات الأولى من الحرب، ثم سرعان ما تمكنت القوات الإيرانية من مجاراة الجيش العراقي و انتقلت من الدفاع إلى الهجوم.

خلال الحرب بنت إيران جيشاً قوياً، واضطرت إلى الاعتماد على الذات في بناء قدراتها العسكرية وتطويرها.. وبإعلان الهدنة ووقف إطلاق النار كانت الثورة الإيرانية على موعد مع البناء و إعادة الإعمار، وكانت قبل ذلك تواجه تحدياً يتعلق بعلاج الجرحى و تطبيبهم، وكانوا بالآلاف.

في الضفة الأخرى كان صدام حسين يتخبط في علاقاته العربية و الدولية.. احتل الكويت ثم أخرج منها صاغراً، و بعد سنين من الحصار، جاءت قوات الاحتلال الأمريكية و سقطت بغداد في غضون عشرة أيام، وبعدها ببضعة أشهر، وجد صدام في حفرة ، ثم بعد محاكمة علنية قتل شنقاً.

الصور الأخيرة لحياة صدام كانت معلقة في القاعة الأخيرة للمتحف كشاهد على نهاية حاكم استخدمته أمريكا ثم تخلصت منه في الأخير.

من قبل صدام كان الشاه أداة للغرب و أمريكا، و من بعد صدام كان حسني مبارك و علي صالح و بن علي و القذافي ضمن أدوات الحاكم في البيت الأبيض، وعندما حانت ساعة يقظة الشعوب تبرأت واشنطن من أتباعها، ولفظتهم كما لفظتهم شعوبهم!

 

 خريف أجمل:

لم يشغلنا برنامج الزيارة عن التأمل والاستغراق في حال دولة صورتها مشوشة في الإعلام وفي الذهنية العربية، فوجدنا في الواقع شيئاً آخر غير الهذيان الذي تتقيحه بعض فضائيات الفتنة، مستعينة ببطون الكتب التاريخية الضاجة بصراعات ماضوية لا حدود لها.

إيران الدولة .. إيران المجتمع شيء آخر.. هنا شعب يحب الحياة شرط أن تكون كريمة.. هنا طبيعة خلابة حبلى بكل ما هو مدهش، و إلى جانب الطبيعة يوجد إنسان فنان يهندس الجمال فيضفي عليه جمالاً آخر.

نظرا لتساقط الثلوج و ذوبانها يبدو الخريف أجمل في إيران، وتبدو الأشجار العملاقة و هي عريانة كمن يستحم في المطر، بانتظار الرداء الأخضر.. الحدائق هنا كالغابات اتساعاً و اخضراراً، والبنية التحتية متكاملة من طرقات و كهرباء واتصالات و غيرها.. ليس للحصار حضور إلا في وسائل الإعلام، و العقوبات التي تطال الصادرات النفطية لإيران علمت الدولة كيف تنوع من صادراتها الخارجية أيضاً.

 

في طهران مترو أنفاق يقع على عمق 130 متر تحت سطح الأرض، ولجناه ووجدنا كم هي طهران متحركة من تحت الأرض.. هذا النفق آمن من أية ضربات جوية أياً كان سلاح العدو،، فيا ترى كيف بالإمكان الوصول إلى المفاعلات النووية.؟

 

إيران الفولاذية

الطاقة أحد علامات قوة إيران حاضراً و مستقبلاً.. والصراع الدولي على الطاقة ليس خفياً، و ضمنه يندرج تكالب القوى الكبرى على المنطقة العربية.

الأزمة النووية مع إيران تتعلق هي الأخرى بمشكلة الطاقة، و إيران تصارع العالم في إطار حقها المشروع في الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

وبرغم العقوبات الأوروبية على قطاع النفط كشف وزير النفط الإيراني، رستم قاسمي قبل يومين عن خطة لبناء مصاف جديدة لزيادة طاقة تكرير النفط الخام لتتجاوز ثلاثة ملايين برميل يومياً، مؤكداً على تحقيق الجمهورية الاكتفاء الذاتي في مجال صناعة تكرير النفط، وتحدث عن القدرات الإنتاجية لمصفاة "عابدان" جنوب محافظة خوزستان، قائلاً إن بإمكانها تكرير مليوني لتر من وقود الطائرات.

إيران التي تحوز على ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم أعلنت مؤخراً أن احتياطاتها النفطية تكفي لمدة قرن ونصف قرن.

بإيران صناعات ثقيلة تدل على حجم المكانة التي وصلت إليها في ظل الثورة، ومنها صناعة الحديد و الصلب، حيث كنا في زيارة لأكبر هذه المصانع في أصفهان و يقول المسئولون أنه أكبر مصنع في الشرق الأوسط.

المصنع الذي يستهلك نحو 1000 ميجاوات من الطاقة الكهربائية، يقع على مساحة تبلغ نحو 35 كم مربع، وتتضاعف قدرته الإنتاجية من سنة إلى أخرى.

مؤخراً أعلنت مؤسسة تطوير وتحديث المناجم والصناعات المنجمية الإيرانية (ايميدرو) أن حجم انتاج إيران من الصلب السبائكي شهد نموا بنسبة 17 بالمائة خلال الاشهر الـ11 الأخيرة بالمقارنة مع الفترة المماثلة لها من العام الماضي، فيما أعلن مساعد وزير النفط الإيراني بأن إيران تحتل المركز الثاني في إنتاج الحديد الإسفنجي عالميا بعد الهند، وأكد بأن إيران هي الخامسة في إنتاج الفسيفساء في العالم، مضيفا أن قدرة إيران في إنتاج الفولاذ قد ارتفعت إلي 20 مليون طن مقارنة بـ 3 آلاف و570 طن قبل الثورة.

 

 

 

الأرقام تتحدث :

استطراداً للغة الأرقام، و العهدة هنا على المسئولين الإيرانيين يمكن إيراد المقارنة التالية:

– تبلغ الطاقة الكهربائية اليوم نحو 70000 ميجاوات مقارنة بـ 7000ميجاوات قبل الثورة.

– يبلغ الإنتاج الزراعي اليوم نحو 110 مليون طن مقارنة بـ 25 مليون طن قبل الثورة.

– متوسط الصادرات غير النفطية يصل إلى 43 مليار سنوياً مقارنة بـ 500 مليون دولار عند انتصار الثورة الإسلامية.

– في إيران اليوم 2500 جامعة تستوعب نحو 4 مليون و نصف مليون طالب جامعي.

– يبلغ إنتاج إيران من الإسمنت نحو 80 مليون طن سنوياً، مع العلم أن مصانع إنتاج الإسمنت نفسها مصنوعة في إيران.

– تحوز إيران اليوم على 50 مليار متر مكعب من المخزون المائي مقارنة بـ 12 مليون متر مكعب قبل الثورة.

– تنتج إيران نحو اثنين مليون سيارة سنوياً من مختلف الأنواع.

 

حكاية جيهان و الحراك الفارسي:

في اللقاء بالمسئولين الإيرانيين كان من الطبيعي أن نسأل: لماذا تختار الجمهورية الإسلامية أن تمد اليمنيين بالسلاح فيما اليمنيون بحاجة إلى دعم آخر؟

كان جواب أكثرهم متطابقاً، فبالإضافة إلى نفي ما تداولته وسائل الإعلام يقول المسئولون الإيرانيون أن اليمن في الأصل مكتظة بالسلاح و يكفي أن يزودا أي طرف بالمال ليشتري من الأسواق اليمنية ما يريد من سلاح.

و يضيفون أن لديهم خبرة في توصيل السلاح إلى غزة و لم يسبق أن ضبطت شحنة أسلحة إيرانية بهذه السهولة.

هم يعتقدون أن المخابرات الأمريكية وراء الموضوع، و يؤكدون استعدادهم للتعاون مع الجانب اليمني في التحقيقات، مع استيائهم من إقحام مجلس الأمن في الموضوع، خاصة و أن معظم دول المجلس تتربص بإيران و تنتظر فرصة كهذه.

الجواب الديبلوماسي لا يرتقي وحجم الحملة الإعلامية، و إذ تغيب الحقيقة بانتظار نتائج التحقيق بخصوص شحنة أسلحة السفينة ( جيهان)، يأسف المراقب لتدهور العلاقات اليمنية الإيرانية بشكل ملفت و إقحام إيران في القضايا الداخلية لليمن و منها الحراك الجنوبي الذي يسميه البعض بالحراك الفارسي، ومن المفارقات أن الرئيس السابق قد دخل بدوره على خط مهاجمة إيران ومغازلة الرياض وواشنطن، و كأن المطلوب من اليمن أن تنحاز ضد إيران مهما كان الثمن.

القضية الجنوبية ليست وليدة اللحظة، حتى يسارع البعض إلى اتهام الخارج بدفع الحراك إلى الصدام مع القوى التي تعترض المشروع ( الانفصالي ) تحت راية الدفاع عن الوحدة المقدسة.

و ليس جديداً أن القوى الدولية متربصة بموقع اليمن الاستراتيجي، و طبيعي أن الدول الراعية للمبادرة الخليجية قد وضعت يدها على اليمن من باب المصالح أولاً، أما الخدمات الإنسانية فلا مجال لها في العلاقات الدولية.. و إيران كغيرها من الدول تبحث عن موضع قدم في اليمن، و هي تطرق البوابة الرسمية باستمرار، غير أنها تجد الصد و الممانعة دوماً، و إذا ثبت أن لها يد في الحراك الجنوبي، فلا سبيل لرفع يدها إلا بالحوار و بالتفاوض و ليس عبر حرب إعلامية اليمن في غنى عنها.

ثم أن العلاقات الدولية لا تدار بالأمزجة الشخصية، ولو كانت الخارجية اليمنية في مستوى الأداء المطلوب منها لأفادت و استفادت، ذلك أن التقارب مع إيران يؤدي في الأخير إلى التوازن مع دول الجوار، بعيداً عن التعامل مع اليمن كحديقة خلفية للسعودية فحسب.

في 2007 اقترحت في مقالة نشرت بجريدتي الشارع والقدس العربية انفتاحاً يمنياً على إيران في إطار المسوغات التالية:

– أن المشروع الايراني اليوم موجه ضد المشروع الصهيوامريكي، الذي لا يشرف اليمن حكومة وشعباً ان تكون ضمن الدول المحسوبة عليه.

– أن التقارب اليمني ـ الايراني لن يخلو من مزايا اقتصادية، كما هو الحال في العلاقة السورية/ـ الايرانية.

– ان المشروع الايراني (حلف المقاومة والممانعة) قد يجذب مستقبلاً كثيراً من الدول العربية والآسيوية، عوضاً عن الاختراق الذي حققته ايران مع كثير من دول العالم.

– التقارب اليمني / الايراني سينقل علاقات اليمن الثنائية بدول الخليج – حال وقوعه – الي إطار أرفع من حالة التبعية التي يراد لليمن أن تقبع فيها.

لا تزال المسوغات قائمة غير أن الهوة بين حكومتي البلدين قد اتسعت بشكل مؤسف، مقابل تقارب كبير مع أمريكا و السعودية، ووسط تتنافس القوى السياسية والاجتماعية لنيل الحظوة لدى السفير الأمريكي بصنعاء، ولو بثمن بخس!

زر الذهاب إلى الأعلى