فضاء حر

عن جلد رائف بدوي

يمنات
إذا كانت ثورات الربيع العربي قد أسقطت بعض الأنظمة السياسية العربية، وأعادت إيجاد تساؤلات في بلدان عربية أخرى حول شرعية الحاكم وسلطاته، فإن من أبرز إيجابياتها أنها قوّضت ما تبقى من رمزية سلطة رجال الدين في وعي المواطن العربي، وكشفت كونها غطاء للاستبداد السياسي، وأداة قامعة لحريات الفرد الاجتماعية والسياسية، بل أثبتت أن السلطة الدينية، كغيرها من السلطات، غير نزيهة أخلاقياً وعرضة للأخطاء والاستقطابات السياسية والأيديولوجية، حيث جرى إسقاط مؤسسة الأزهر الشريف، برمزيتها الدينية والتاريخية، في الواقع السياسي المصري، مؤسسة دينية لم تعد محايدة، ومثلها تحول الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين طرفاً سياسياً في ساحات عربية عديدة، وإخضاع الفتاوى للمزاد السياسي المتقلب.
وأمام هزة الربيع العربي التي لا نزال نستشعر ارتداداتها الإيجابية أو السلبية، لم يكن المثقف العضوي الملتزم بعيداً عن رياح هذا التغيير، بل هو في مركز الإعصار، وضحية لمجموع القطيع السياسي والديني، وتحالفاتهما في بلاده، وتتساوى في ذلك عقلية نظام الدولة الإسلامية “داعش” التي تردد أنها أعدمت الصحافيين التونسيين، سفيان الشواربي ونذير الكتاري، وعقلية الأنظمة الرجعية، كما في موريتانيا التي أصدر قضاؤها حكماً بالإعدام على الكاتب محمد شيخ ولد، بتهمة الردة بسبب كتاباته؛ وهكذا وبعد أن واجه المثقف العربي السلطة السياسية، وتعرض، طوال العقود الماضية، لبطشها، يتعرض، الآن، للقمع من الوجه الأكثر تنكيلاً لهذه السلطة، وهو السلطة الدينية. غير أنه، في بعض الأنظمة العربية التي لم تكن مباشرة في قلب الربيع العربي، كالمملكة العربية السعودية التي حافظت على كيانها السياسي، في زخم الأحداث العربية العاصفة، وكانت تدخلاتها في الساحات العربية، من منطلق حفاظ النظام الحاكم على أمن وجوده السياسي، إلا أن حركة التغيير تراكمت في واقعها، وما لبث أن برز تساؤل تزاوج الديني والسياسي، ففي السعودية ليس هناك حد فاصل بين السلطتين، السياسية والدينية، اللتين تبدوان متماهيتين، بسبب استخدامهما أدوات القمع نفسها، وتعيدان إنتاجه منظومة دينية واجتماعية، وكل سلطة منهما تحمي الأخرى، وتساعد على استمرارها وإطالة أمد بقائها. من هنا، يكون المثقف السعودي عرضة لبطش السلطة السياسية والدينية وقمعهما، وحيداً وعارياً في بيئة اجتماعية مُستلبة، وفي محيط عربي تعصف به أزمات داخلية كثيرة، وغير متابع لما يحدث في هذا البلد الذي له تاريخ طويل في انتهاك الحقوق والحريات، وإصدار الاحكام التعسفية بالسجن، كما فعلت مع محمد القحطاني وعبدالله الحامد وعبدالكريم الخضر ومخلف الشمري وفاضل المناسف ووليد أبو الخير وسعاد الشمري، وأخيراً، الحكم بجلد المدون رائف بدوي بِألف جلدة، بمعدل خمسين كل أسبوع، والسجن سبع سنوات، والمنع من السفر والكتابة.
وبعيداً عن التهم التعسفية التي صدرت في حق ناشطين وكُتاب سعوديين كثيرين، وهي تهم سياسية، تم تغليفها بغلاف ديني، لماذا أحدثت قضية جلد رائف بدوي هذه الهزة العميقة في ضمائرنا الإنسانية، وفي وعينا الإرهاب الموجه؟ لماذا جعلتنا نضحك من هذه الوحشية القادمة من كتب التاريخ الأشد سوداوية، ونبكي من هذا التشهير في حق كائن أعزل يجلد في مطلع الألفية الثالثة؟ لماذا نجوى، ابنة رائف، التي تقبع على بعد آلاف الأميال من السعودية، في بلد آخر وقارة أخرى وثقافة أخرى تجرم انتهاك الفرد، مهما كانت تهمته، تشاهد أباها يجلد أمام من يهتفون مكبّرين مع كل جلدة؟ لماذا جعلتنا هذه الحادثة المؤلمة نفتح أعيننا مجدداً على ما يحدث هناك، في الجوار.
أسئلة كثيرة أثارتها تلك الحادثة في رؤوسنا، ليس فقط عن دلالة جلد كاتب ما، والظلم الاجتماعي والنفسي الذي يعانيه، بل عن الزمن الذي نعيش فيه، وتفاعلاتنا مع ألم الآخرين وقناعاتنا الفكرية والمواثيق الدولية والحرية والكتابة وجوهر الدين نفسه والواقع العربي الذي نكتب فيه. لكن، السؤال الأبرز هنا: لماذا تجرأت السلطة في السعودية على تطبيق هذا الحكم؟ لماذا لم تكتفِ بسجن رائف بصمت، كما فعل مع رفاقه الآخرين؟ لماذا تجلده في وضح النهار وأمام مرأى العالم ومسمعه، في حين تحارب إلى جوار أميركا ضد “داعش”؟ لماذا هذا التناقض الجوهري؟ ولماذا لم يستجب النظام السعودي إلى مناشدات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان؟
لا يحتاج الحكم في السعودية لمزيد من التقييم السلبي حول أدائه وواقع الحريات السياسية والفردية وبشأن انتهاكات متكررة في حق كثيرين من مواطنيه ورعاياه، وكان يستطيع، كعادته، النأي عن إثارة معركة خاسرة كهذه، لولا أن السياق الذي جلد فيه رائف بدوي يعكس
“”هيئة الأمر بالمعروف” تعرضت، في السنوات الأخيرة، لمقاومة شديدة، سواء من المثقفين، ومن بعض أجنحة الحكم السعودية التي أرادت أن تخفف من وطأة سيطرة الهيئة على المقاليد السياسية والاجتماعية” دراماتيكية التطورات التي تحدث في الساحة السياسية السعودية وموقف السلطة الدينية “هيئة الأمر بالمعروف” منها. ويدرك جميعنا أن “هيئة الأمر بالمعروف” تعرضت، في السنوات الأخيرة، لمقاومة شديدة، سواء من المثقفين، ومن بعض أجنحة الحكم السعودية التي أرادت أن تخفف من وطأة سيطرة الهيئة على المقاليد السياسية والاجتماعية، وعملت هذه الأجنحة على إزاحة كثير من رموز الهيئة المتشددين من الوظائف العليا ومن المنابر والجوامع، إلا أن الهيئة استفادت من تطورات سياسية، أخيراً، فحاولت عن طريق جلد رائف، والتشهير به في المجتمع، العودة من جديد إلى مربع التحالف القديم، وتقديم نفسها باعتبارها الحامي الوحيد للنظام، والتصدي لمن يحاول تقزيم هذه العلاقة، كما حاولت في واقعة جلد رائف بدوي إرسال رسالة عن الاستحقاقات السياسية للهيئة، وغلق أي باب للانفتاح السياسي قد يفكر فيه الحكم. ومن هنا، قد نقرأ صمت السلطة في المملكة على مناشدات المنظمات الحقوقية، وعلى موقفها المتناقض من فكرة الإرهاب وإدانة حادثة الاعتداء المسلح على صحيفة شارلي إيبدو، في وقت غضت فيه نظرها عن جلد رائف بدوي الذي كانت قضيته أرضية للصراع التاريخي بين السلطتين، السياسية والدينية، وتنازل إحداهما للأخرى، بموجب الحماية وتشابك المصالح أو افتراقها.
كما حاولت أنظمة عربية سقطت في ربيع 2011 إعادة إنتاج نفسها، عبر شكل سلطوي جديد ومهجن، تحاول السلطات الدينية في الوطن العربي على اختلاف أيديولوجياتها أن تمارس دورها القديم في ضبط حريات المواطن العربي وتوجيهها، وبقدر ما فشلت هذه الأنظمة، فإن هذه السلطات التي هي من بنات وعي هذه الأنظمة ستخفق في العودة بنا إلى الوراء؛ ومهما كان دوي جلد رائف على ظهورنا، فإن التاريخ لا يعيد نفسه.
*عن العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى