العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. مائة يوم من مقاطعة القات

يمنات

أحمد سيف حاشد

– كان قرار مقاطعتي للقات مائة يوم في البداية لأسباب اقتصادية، و ظروف معيشية، و رغم حصول عدة انفراجات في هذا الجانب، خلال تلك المدة، إلا أنني مضيت في اكمال ما كنت قد بدأته، و عقدت العزم عليه، و نجحت في أن أكون بمستوى ما اتخذته من قرار، و بمستوى ما فيه من تحدّي، و اختبار عصامية أزعم إنني كنت بمستواها، أو هي دوني، أو هكذا أعتقد.

– أن لا تخزِّن في اليمن ليس بالأمر السهل، لاسيما إن كنت شخصية اجتماعية .. كما أن جهاد النفس محل صعوبة، أو على الأقل لا يخلوا من معاناة، في أمر تكتشف أنك أدمنته، و أعتدت عليه .. تشعر حال مقاطعته بوحدتك و غربتك في مجتمع لا يجتمع إلا بالقات و المقيل .. مجتمع يأثر الشخص فيه أن يجوع على أن لا يخزن .. تشعر بعزلة يضربها عليك أفراده و جماعاته .. تشعر أن المحيط يضيّق عليك كل متسع .. تحس على نحو كثيف بالحصار و الاختناق و كتم الأنفاس.

– شعرت أنني مللت نفسي و أن الوقت قد صار هو الآخر يملّني .. حاولت أتعلم الرقص لطرد السأم و الملل و تخفيف الوزن، و لكن دون فائدة، حاولت أتعلم الرقص مع صديقي عبد الجبار الحاج الذي كان مقيما لدينا، فكان كل ما حولنا يضحك علينا، حتى أصابتنا العين..

– لكسر حالة الملل و السأم، حاولت أن أرافق أصدقائي المخزنين في مقايلهم، و في مقايل بعض الأصدقاء، و معي ثلاجة صغيرة اشتريتها لهذا الغرض أملأها بالشاهي المترع بالجوز و الهيل و القرنفل، لأقضي معهم بيقظة بعض وقت المقيل، و لكن بدأ لي الأمر بائخا، و ربما مُستهجنا من قبل البعض..

– كان قبول أصدقائي لقراري الحاسم لا يخلو من عدم الرضى، بل صارحني أحدهم بأنني خربت بعد قراري هذا .. كنت أشعر إنهم يتجشمون قرارا فرضته على نفسي عنوة، و فرضت نتائجه عليهم أيضا باستثناء صديقين، أحدهم تطرف فيه و أتخذ قرار مقاطعة القات نهائيا، و هو القاضي أحمد الخبي، فيما صديقي أنس دماج القباطي ماثلني بقرار المقاطعة للقات مائة يوم، و تعلّم معي الرقص أيضا دون أن نتقن ما تعلمناه.

– و في إطار محاولتي كسر عزلتي قررت مع أصدقائي حضور مقيل بمعيتهم لدى مجلس أستاذنا د. سيف العسلي .. كان جميع الحاضرين بمستوى عالي من اليقظة و التوقد و الحضور .. فيما كنت ثقيلا و غاطسا في خمول عميق .. كنت أبلها حتى في تصنّع الحضور..

– كنت أشاهد زملائي شعلة من التيقظ و التفاعل و التقاط كل شاردة و واردة، فيما كنت في زاويتي أخوض معاركي بانعزالية مع جحافل النعاس، أحاول أستعين بالهيل و القرنفل لأشحذ بعض اليقظة، و لكن دون جدوى .. كنت أفرك عيوني و أقرص جفوني، و أدعك بيدي وجهي، لأنفض عنه نعاسي، فأفشل فشلا ذريعا، أحاول أن أعض بأسناني على أصبعي حتى تكاد تنفطر دما؛ لأقاوم نعاسي دون نجاح أو فائدة..

– كان النعاس يداهمني كأمواج بحر هائج .. أمواج النعاس تغمرني مرارا .. تعبث بي كعشب في شاطئه، خارت قواه تحت صفعات و ضربات أمواجه المتعاقبة و المتلاطمة .. الأمواج تدومه ذهابا و إيابا .. مستسلما في حراكه و حركته، منتظرا انتهاء الوقت و موعد الجزر و الرواح .. ثم ألعن نفسي على ما بديت فيه من حال غير مُرضي، و قد أحس بنعاسي جميع من في المقيل..

– كنت أحاول أقضي قليلا من الوقت في محاولة كسر عزلتي، و أذهب لمقيل صديقي محمد المقالح القريب من مكان إقامتي، و لكنني قاطعته بعد أن شبّه حالي في المقيل بالعريان وسط مكتسين، فيما عبد الفتاح حيدره شبّه حالي بالمخبر وسط جمع المقيل، فيما ثالث شبهه الحال بشيخ يصّلي وسط بار يكتظ بالسكارى الثملين .. فقررت مقاطعة مقيله حتى تمر المائة يوم.

– شعرت أن رفاقي تضرروا إلى حد بعيد، و ربما تفرقوا قليلا، و تفرق شملهم، و أول مرة تشهد علاقتي بأحدهم قطيعة كادت تطول و لا تعود .. اكتشفت أن قرار مقاطعة القات في اليمن ليس سهلا، و ليس مستطابا، و كان أصدقائي يستعجلون مرور المائة يوم، و ما لقاء يمر إلا و يسألون عمّا بقي من أيام مقاطعة القات.. شعرت أن القرار قد نال منهم أكثر مما نال منّي.

– حدث لدى أصدقائي هايل القاعدي و عبد الوهاب قطران و نجيب الحاج، خطأ في حساب المائة يوم، فاستعجلوها قبل أن تنتهي بثلاث أيام، و فاجئوني بتجهيز احتفالية انقضى المائة يوم قبل انقضاءها بثلاث أيام، فاحتفلنا مقدما دون أن أعفي نفسي من استكمال المائة يوم بالكمال و التمام .. وها أنا أتمها دون اختلال أو نقصان بما وعدت.

– و مع ذلك كانت المائة يوم فترة إنجاز في حياتي لم أتعلم فيها فقط الرقص، و لكن تعلمت العصامية و مجاهدة النفس، و أنجزت كتابة ثلاثة و ستون حلقة من أرشيف الذاكرة بحجم كتاب، و ما كنت أنجز هذا لولا مقاطعة القات، و الصرامة المتشددة في تنفيذ القرار .. قرار المائة يوم مقاطعة للقات..

– في 20 أكتوبر 2018 بدأت قرار المقاطعة لأنتهي منه في 28 يناير 2019 تجربة استغرقت مائة يوم، و بقدر ما كانت حافلة بالعصامية و المعاناة، أظنها كانت حافلة بالنجاح و الإنجاز .. وسأعود بعدها للقراءة و الكتابة .. و قد بدأتها بقراءة رواية “شفرة دافنتشي” لـ”دان بروان”.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى