فضاء حر

طيران بلا اجنحة .. ما كنت اعلم ان الوضع سيصل إلى هذا الحال

يمنات

أحمد سيف حاشد

لو كنت اعلم اننا سنصل الى هذا الوضع الأكثر من مزري بل والكارثي ما كنت انجبت أبناء وبنات .. ما كنت أدري أن المستقبل سيكون على هذا الحال الذي وصلنا إليه ووصل إليه شعبنا.

لم أكن أعلم إن المستقبل، ومنه هذا الحال الذي نعيشه اليوم ليس مجهولاً فقط، بل أكثر من كارثي على كل المستويات.. إننا نعيش ردة حضارية أشد علينا من الجحيم..

لقد ندمت وشعرت ما سببته لأبنائي من وجود ومتاعب، على نحو يبدو في هذا الواقع البائس أكبر من خطيئة.. مأساة سبعة من البنين والبنات في مستقبل لم أكن أعلم أنه كان مفخخا وملغوما بهذا القدر المهول من المآسي والويلات والنهايات الفادحة.

اشعر بغصة ندم ذابحة وأنا أرى ما أراه اليوم، وهو حال لم يكن يخطر على بال وحسبان.. ندم ثقيل وطويل أعيشه كل يوم، وتأنيب ضمير يدوم.. أجد نفسي أنفطر وجعاً وندماً حالما أسمع واحدة من بناتي تؤازرها أخواتها.. وأرى أولادي الاثنين قد تعدوا الثلاثين دون وظيفة تؤمّن لهم حياة كريمة ودخلا ثابتا يوفر لهم قدراً من العيش بكرامة، أما زواجهما فما زال متعذرا، ولا أنصح به إلا دون إنجاب.

أشعر بالخجل وأنا أسمع عتابهم المر كوني سببا في وجودهم.. يقذفونها في وجهي في أكثر من مناسبة:
هذه مسؤوليتك.. لماذا أتيت بنا..؟! لماذا وجدتنا..؟!

فأرد بما هو هش وخالي من أي حجة أو أساس من إقناع.. ثم تسندهم أمهم، ولا أجد في ردي إلا ركاكة وفشل وهشاشة، ليس فيه ما يرتقي لمنطق أو حتى تبرير يليق.. وينتهي الجدل إلى تبادل وتقاذف الاتهام مع أمهم.. ويبقى الواقع أشد وأكثر مرارة.

أحيانا أجد نفسي أنصحهم بما لم أفعله، احثهم بنين وبنات على عدم الإنجاب لما بات لدي من قناعة إن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ إلى أكثر سوءا وكارثية.. من وبال إلى كارثة إلى أشد وأثقل وأفدح.. هذا النصح هو ما بقي لديّ وما أملكه بيدي لأطلقه لوقف الاستمرار في ارتكاب مزيد من الندم والشعور بالخطيئة.. أقولها بدافع الحرص أن لا يكررون المأساة، ويتابني شعور مستمر أنني ارتكبت خطيئة سوف تتناسل إلى يوم الحشر.

هنا أتذكر قول الروائي الروسي الكبير “دوستويفسكي”: “أو ليس من الجنونِ أن نأتي بأطفالٍ في ظل هذه الظروف الحقيرةِ.” الفيلسوف الروماني “إميل سيوران” يقول: “مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوانٍ، يُولد إنسانٌ يشقى سبعين عاماً».. «اقترفتُ كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً». «أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها».
واستحضر هنا أيضا بيت من الشعر للفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعري الذي أوصى أن يكتبوها على قبره: «هذا جناه عليَّ أبي … وما جنيت على أحدِ».

***

أما على صعيد نشاطي الحقوق في كل المراحل فلست نادما عليه في أي مرحلة.

***

أما سياسيا فأشير هنا إجمالا إلى أنني لا أستطيع أن أمارس السياسية دون توفر الحد الأدنى من الأخلاق، وأؤكد أنني غير برجماني، ولا أنتمي لمدرسة السلطان، وأنفر كثيرا وبعيدا عن مدرسة ميكافلي، وأكثر منه أدرك تماما أن ما يحدث اليوم ليس منقطعا عن الماضي برمته في كل مراحله، وهذا أمر فيه كثير من التفاصيل، ويطول شرحه، ولا يتسع المقام هنا لبسطه، ولا أبحث فيه عن صك غفران.

وما زلت أصر أن أمارس السياسية إلى أخر عمري بنبل وعفة، بعيدا عما يلوثها ويفسدها، وأما ما وقعت فيها من أخطاء، فيشفع لندمي فيها وعلى الدوام نبل الهدف.

ما زلتُ مصرا أن أمارس السياسية بعيدا عن الكذب واللؤم والخداع والمخاتلة، ولا أتجرد عند التعاطي معها عن الحد الأدنى من نبل الهدف والأخلاق التي اعتقد إن الساسة والسياسية أحوج إليها، لأنها وبكل ما حملوه أولئك الساسة من برجماتية عارية من الاخلاق، وما حملته السياسية التي مارسوها من فساد وكذب وزيف وزور، لاسيما الذي كانوا يصنعون قرارها، هم من أوصلونا إلى هذا الحال الكارثي الذي نعيشه، لذلك أظن أن أولئك الساسة أحوج إلى الندم والاعتذار للشعب.

زر الذهاب إلى الأعلى