العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. عدن التي أحببتها

يمنات

أحمد سيف حاشد

– عدن ملاذي الأول، و حبي الأول كان في عدن، و زوجتي أم عيالي من عدن .. نصف حياتي الأجمل كان في عدن، و نصف حزني أيضا في عدن .. رفاة أخي، و إحدى بناتي، و اختين لي في حنايا عدن .. عدن بضعة مني و أنا بضعة منها إلى يوم القيامة، إن كان للقيامة قيام.

– تشكَّل وعيي في عدن، و تعليمي الأهم كان في عدن، و رزقنا الأول جاء من عدن، و هجرتنا الأولى و الثانية كانت إلى عدن .. و لي في عدن ملاذ و وطن، و لي فيها حبيبة لا تموت إلى أن أموت.

– أحب عدن التي كانت .. عدن الحب و الحنين الجارف و الذكريات التي تجوس في مغاور الوجدان، و تشتعل صبابة في دمي .. عدن الذكريات الندية و العصية التي تتحدّى النسيان، و تمنع عنها غفلة الزمان..

– ذكريات عدن تطل بوجهها البهي مشرقة، كلما تشابهت أيامي الخائبات التي أعيشها اليوم .. ذكريات عدن صارت بعض من كينونتي، و عروتها التي لا تنفصل .. حتى ذكرياتي الحزينة و أيامي الخالية فيها، صارت بطعم النبيذ المعتق، الذي ينسيني بعض مما أعيشه اليوم من غم وهم و قيود، مرغما و مُكرها..

– عدن التي كنت أتجشم وعثاء السفر لأصل إليها، مغالبا القيض و الغبار و الريح و الشمس التي تلفح الوجوه .. أتنفس البنزين المحترق، و بسببه و الدوار الشديد، أكاد أتقيأ معدتي و دواخلي .. أغالب ضعف البدن، و أشعر بتهتك أوصالي المبعثرة .. إرهاق يهرس عظمي .. يتمدد في أطرافي المكرفسة .. أحس بمسامير و دبابيس تنغرز رؤوسها الحاده تحت اذني و صدغي و شدقي و فكي أحيانا عندما أفتحه لأقذف ماء فمي، الذي يعلق .. و أستمر للحظات فاغر الفاه..

– افعل كل ما أمكن، و أنا أتصبب عرقا، ليؤجل القيء قليلا من موعده أو يمدده .. حتى حبوب منع القيء التي استخدمها في بعض السفرات قبل ركوب السيارة، لا تمنع عنّي القي، و أجد مفعولها يأتي بنتائج عكسية، بل و تجلب القيء الشديد، بدلا من طرده، و هو ما أثار استغرابي و حيرتي .. كنت أسأل نفسي: لماذا العلم لم يكتشف حتى الآن ما هو أحسن من هذا العلاج الفاقد للمفعول..؟! كل هذا و غيره كان يحدث، و لا يمنعني مانعا عن عدن التي أشتاق لها و ألتاع .. أغالب المسافات الطوال، و أكابد العناء الأشد، من أجل أن أصل برحال شوقي إلى معشوقتي عدن..

– كنت أعاني من مشقة السفر إلى عدن، و لكنني لا أتردد في الإقدام عليه رغم ما فيه من ضنك و مشقة .. كنت و أنا مسافر استعجل الوصول إليها، و لطالما تمنيت أن يكون معي بساطا للريح يسابق شوقي الجارف، و ينقلني إليها بسرعة و ذهول .. و لطالما تمنيت براقا أو معراجا أو كرامة ولي، يملك جنون الدهشة، و يوصلني إليها بسرعة الريح التي أتمناها .. و إن اُستحيل هذا و ذاك، تمنيت أن أملك الجن، و أصدر الأمر أن ينقُلني احدهم إليها بلمح البصر .. إنه الشوق الجارف و الملتاع يا عدن..

– كانت عدن تأسرني أضواءها المتلألئة، كلما اقتربت منها، و أنا مسافرا إليها ليلا، عبر طور الباحة و خبت الرجاع و الوهط .. كنت ما أن أصل إلى مشارف الوهط حتى أفيق و ألملم أشتاتي، و أنفض عنّي ما نالني من وعث و إرهاق و قي .. كان الفرح يملائني، و تتفتح أسارير وجهي المنقبض، و تنتعش و تنشط حواسي كلها، بمجرد أن أصل إلى الطريق الاسفلتية في تقاطع خط الوهط الترابي مع خط عدن لحج الاسفلتي .. كنت اتفرس الناس و السيارات و العمران و الحياة على طول خط السير، و في محاذاته و جنباته حتى أصل إلى قلب عدن الأغن .. كنت في كل مرة أسافر إليها، أبدوا فيها و كأنني أكتشفها لأول مرة، و كنت في كل وصول إليها، و كأن وصولي هذا هو الوصول الأول..

– عندما كنت أغادر عدن نحو قريتي النائية البعيدة، القابعة خلف حدود الشطرين، أتأمل و أمعن النظر في تفاصيل عدن، و أسأل نفسي بتكرار حزين و حسرة: يا ترى هل سأرى مرة أخرى، ما أراه الآن..؟! هل سيطول بي العمر، و أرى عدن مرة ثانية..؟! هل سأعود إليها أم هي المرة الأخيرة التي أرى فيها عدن..؟! إنني اشتاق إليها قبل أن أغادرها، و أشتاق إليها حال مغادرتها و الرحيل .. أخاف أن لا أرى عدن مرة أخرى؛ لاحتمالات مفجعة تجوس في دهاليز وعيي و ردهات مخاوفي..

– عدن التي كانت تثير شجوني و أنا بعيد عنها .. و لطالما أشجاني و أنا بعيد عنها صوت الفنان وهو يغني: “عدن عدن ياريت عدن مسير يوم .. شاسير به ليلة ماشرقد النوم..” و كذا أغنية “يا طائرة طيري على بندر عدن .. زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن .. عالهجـر مقـدرش أنـا .. أشـوف يومـي سـنـة .. ذي جنة الدنيا حواها…”.

– عدن التي أحببتها هي تلك التي وصفها صديقي محمد اللوزي في إحدى كتابته بقوله “عدن درة المدن، و نجمتنا التي تبزغ فينا و لا تأفل .. زنبقة الفرح و الطلع النضيد .. الدعة التي تجيء إليك راضية، و تقدم نفسها حبا، و تغار من أن أحدا يأخذك خارج مدارها .. عدن رائعة الكون .. عدن الدهشة كلها .. لا يعرف عدن غير العاشق الصب لأنها تسكب روحها فيه..”

– أحببت عدن التي قصدها الشاعر الفرنسي “رامبو” باحثا عن الحرية و العمل، و آثرها على فرنسا، رغم جحيم عدن و تذمره منها، و هجيه لها مرات عديدة في لحظات ضيقه، إلا أن المقام انتهى به إلى التكيف معها، بل والإقرار إنها “أفضل مكان في العالم”. و قد أوفت معه عدن بعد موته، و أسمت إحدى شواطئها الجميلة باسمه، و حولت منزله فيها إلى مركز للقاء و التبادل الابداعي الشعري.

– عدن التي أحببتها هي تلك التي فضلها الشاعر السوداني مبارك حسن الخليفة على “دبي” الإمارات .. الشاعر و الدكتور الذي لم يطب له المقام في موطن الثلج، و طابت له عدن اليمن 34 عاما، عمل فيها محاضراً و أديبا و شاعرا و ناقدا في جامعتها .. سكنها و سكنته، و ألّف فيها الكتب، و دبج عنها و فيها و في البعد القصائد، و كان صوتها الأغن بعناوينها النابضة بالجمال و الهوى و الحنين: «عدن هواها قد تملك مهجتي» و «البعد يا عدن» و «إلى حبيبتي عدن» و «عدن الجميلة».

– أحببت عدن التي جاءها جورج حبش خائفا عليها حد الفجيعة، من قادم ينتظرها، بتحفز شيطان، باكيا عليها بدموع سخينة، محاولا إنقاذها من كارثة حلت عليها لاحقا، في 13 يناير 1986 و كانت دامية و مؤسفة، و لازلنا نعيش آثارها الدميمة إلى اليوم الذي خلناه بعيدا جدا، لن يطول و لن يُطاول .. حلت على عدن الكارثة، كما حلت عليها على ما يبدو اللعنة، و التي لازالت ترفض التلاشي أو المغادرة إلى اليوم..

– أحببت عدن الوفاء التي لاذ بها و إليها أحرار العرب و العالم، و منهم البروفسور العراقي توفيق رشدي في أواسط سبعينات القرن المنصرم، و الذي صار أستاذا يدرّس في جامعتها، و عند اغتياله فعلت عدن من أجله ما لم تفعله الدول .. رفضت كل المساومات و المغريات و الدعم السخي، مقابل الصمت و السكوت عن مقتله، بل و حاكمت القتلة علانية، و بُثت المحاكمة من قاعة المحكمة، و كشفت كل شيء أمام الرأي العام كله، في فضيحة سياسية غير مسبوقة .. جريمة بحجم فضيحة بكل المقاييس، للقتلة و الدولة التي تقف وراءهم..

– عدن التي أحببتها هي تلك التي أنتمي إليها .. عدن الإنسان و الأهل و الأحباب و الناس الطيبين .. عدن التعايش و الأمل و العمل و الملاذ .. عدن الحب و الشوق و العشق و الحياة و الذكريات.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى