العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. من طفوتي الأولى .. الحصبة والهزال والشقاوة

يمنات

احمد سيف حاشد

(2)

مغالبة “الحصبة”

أراد أبي أن يلم شملنا تحت سقف واحد في عدن .. أراد أن يلملم أشتات أسرتنا الصغيرة و البعيدة، بمسكن صغير في أطراف ضواحي المدينة بـ”دار سعد” يأوينا إليه، محاطين بقدر من السكينة و الدعة التي نبحث عنها .. أسرتنا كانت خمستنا دون دخيل .. و لكن دخلت علينا الحصبة بدمامتها و قُبحها، و ما تحمله من بشاعة و افتراس..

في عدن مرضتُ بالحصبة .. كان مرض الحصبة ينتشر و يفتك بالأطفال .. الحصبة فيروس انتقالي حاد و معدي يصيب الأطفال، و يسبب لهم مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان.

كان مرض الحصبة أكثر الأمراض انتشارا في سن الطفولة بصفه خاصة، و من أعراضه ارتفاع في درجة الحرارة مصحوب برشح و سعال و رمد و طفح جلدي على جميع أجزاء الجسم .. و رغم اكتشاف لقاح الحصبة في ستينات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوض هذا المرض و يصيره نادرا إلا في بداية التسعينات من القرن الماضي.

أول معركة ربما خضتها و أنا طفل في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال .. كان نذير موت يتهدد حياتي، و يتربص بي بإصرار و اشتهاء .. كل يوم يمُرُّ و أنا لازلت على قيد الحياة كان يعني لأبي و أمي معجزة من الصمود العنيد في مواجهة الموت، و ربما كان يعني مرور اليوم بالنسبة لي، اجتراح بطولة خارقة على مرض يتسع و ينتشر .. يفتك بالطفولة دون أن يراعي أو يكترث .. فيروس موت لا يعود من بيت فقير إلا و قد نهب من أطفالها روح من يشتهي..

غالبتُ مرض الحصبة، و قويت على المقاومة و الصمود، بفضل بعض النصائح التي أسدتها جارتنا لأمي التي كانت لا تزال قليلة التجربة، أو معدومة الخبرة و المعرفة في أمور كتلك .. استفادت أمي من نصائح جارتها التي كان لديها بعض الدراية بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، و معرفة بالوسائل التي باستطاعتها أن تخفف من وحشية و آثار هذا المرض، فالجهل يمكن أن يضاعف الحالة و يفاقمها، و هو المساند الأول للمرض، و ربما يلعب دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إن لم يحتاط له .. تضافرت أسباب الحياة و سندت بعضها، و انتصرت على فيروس الموت، و تعافيت منه، و اكتسبت مناعة منه مدى الحياة.

(3)

سقم و هزال

و بعد شهور مرضت بمرض لا أعرفه .. أصابني هزال و فقدان شهية .. هزل جسمي إلى درجة جعلني أشبه بأطفال مجاعة إفريقيا الذين نشاهدهم في الصور و شاشات التلفزة. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراع مع الموت من أجل البقاء .. أمّا أن تغلب المرض أو يغلبك .. الموت يحوم عليك و يتربص بك في كل يوم و ساعة..

جارنا عبد الكريم فاضل كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول و دون مقدمات: “ابنك سيموت و لن يعيش”. جملة صغيرة ربما نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة .. أثارت مخاوفه و استنفرت اهتمامه .. ربما هذه الجملة الصغيرة و الصادمة، كانت سببا لأن أتجاوز الموت و أعيش .. هذه الجملة المشبعة بالمخاوف، بدت صاعقة لأبي، و جعلته يهرع توا و على الفور إلى مشفى في عدن، غير أن الطبيب أخبره أن حالتي صعبة، و الأمل في أن أعيش ضعيف.

شار جارنا لوالدي أن يذهب بي إلى طبيب ماهر في لحج، لربما هناك وجد بصيص أمل .. أبي الباحث عن أمل يذوي و يخفت في سواد كثيف و وخيم من اليأس العميم، ينتابه هلع شديد .. أستطيع أن أتخيل هلع أبي و أنا في حضنه أو مسنودا بيده إلى ضلعه الحنون .. اسمع خافقة  قلبه يدق كالطبل، صعود و هبوط أنفاسه ككير حداد .. و دمدمة هلعه تهز وجدانه و كيانه..

هذا ما شعرت به يوما أنا أيضا، عندما كنت أسابق الموت، و أحاول إنقاذ أبني “فادي”، عندما كان أيضا بسني تقريبا أو أكبر قليلا .. كان والدي يحاول إنقاذي، و هو مصحوبا بالهلع .. الشعور إنك تسابق الموت و تمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، و لا يمكن نسيانه مهما طال بك العمر .. لقد عشت مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلا كما عشتها أبا .. سارع والدي لإنقاذي من موت محقق بات يثقل جفوني المسبلة..

و في لحج قال الطبيب لوالدي بأن حالتي سيئة جداً، و أنني لم أعد أحتمل الإبر، و لن استطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، و لكن “لعل و عسى” قرر لي وصفة علاج دون إبر..

استجاب جسمي للعلاج و أخذت حالتي تتحسن ببطء، بدأت أقبل على الطعام بنهم يزداد كل يوم، و من أجلي كان أبي يجلب لنا رطل من اللحم في اليوم الواحد أتناوله كله لوحدي، و لا أترك لأهلي شيئا منه يأكلونه. هذا ما كانت تحكيه لي أمي .. كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود أطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي .. استطيع أن أتخيل سعادة أبي و أمي .. أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح، يكاد أن يطير من بين جوانحها .. أستطيع أن أتخيل أبي و السعادة تغمره، و تتفتح أسارير وجهه كزنابق على شرفات عريس .. يا له من شعور أخاذ و آسر..

نجوت و تعافيت، بل و صرت مشاغباً و شقياً .. كنت أخرِّب الجدران و أخربشها .. أكسر زير الماء .. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء .. اكسر الزجاج .. أرمي بأواني الطعام .. ارتكب كل الحماقات و أرمي كل ما تطاله يدي على ما تقع عليه عيني .. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، و تغضب أحيانا أخرى، و تعاقبني بقسوة في معظم الأحيان, كان بكائي الصارخ و الضجيج يملأ البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران و مؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي و بكائي .. كنت مزعجا لأهلي و للجيران و المؤجر .. لم أكف عن الشقاوة و البكاء و الضجيج و الصراخ.

(4)

بؤس و شقاوة

كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى و الجهيد، من أجل إبقاءنا على قيد الحياة، و سد لقمة عيشنا المتواضعة، و كذا عيش أسرته الأخرى التي يعيلها في القرية، و التي تنتظر بفارغ الصبر ما يأتيها من والدي المثقل بمسؤولية إعاشتنا جميعا..

كانت الحياة صعبة، و صراعنا كان هو من أجل البقاء، فالستر و استمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به و نريد.

كانت أمي تطلب من أبي أن يغلق علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها و تعتز، و كان أبي لا يرفض طلبها، و يغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.

كانت أمي شديدة الحياء و المحافظة و التوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران .. لا تفتح نافذة و لا باب .. أبي هو وحده من يفتح الباب و من يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف، و غسل الملابس و الطبخ و القيام بجميع أعمال البيت..

و لكن لماذا أنا أيضا يتم حبسي و لا يُسمح لي أن أخرج للشارع لألعب مع الاطفال أو أطل عليهم من نافذة .. أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت .. أريد أرى الوجوه و الناس و الحركة و صخب الحياة..

كل ساعات النهار و الليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران و سقف البيت .. لا يوجد شق في نافذة و لا خرم مفتاح في باب..

أسمع بعض ما يحدث خارج البيت و لكنني لا أراه .. فضولي مقموعا بجدران من اسمنت، و خشب من ساج، و لا مجال و لا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء و عراك و قهقهة..

أريد أن اعرف العالم خارج حيطان بيتنا .. أريد أن أرى أبناء الجيران و (شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، و المحوطة بالصرر و القراطيس و الأشياء الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..

أريد أن أرى كل التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره .. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا .. كل شيء ضيق في البيت كصدري الضيق، و جمجمتي الصغيرة .. أشعر أنني أقضي أيامي في قمقم صغير مغلق بالحديد، يحصرني و يحاصرني و يكتم أنفاسي .. فكان طبيعيا أن أكون شقيا، و أن يجد هذا الحرمان و المعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي و المتمرد بين جدران البيت و سقفه و حصاره.

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى