العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. خارج المقرر المدرسي

يمنات

أحمد سيف حاشد

في الصف الثاني ثانوي تم تخصيص عشرة دينار شهريا مساعدة لأبناء الشمال (الجبهة الوطنية) و كنت انتظرها بفارغ الصبر نهاية كل شهر، و أصرف منها عندما أجوع، بشراء البسكويت و الشاي من محمد حيدره الذي كان لديه حانوت صغير في بوابة المدرسة من الداخل..

كانت وجبة الشاي و البسكويت وجبة لذيذة و شهية تخفف من وطأة الجوع، حتى صرنا رفقة في غلس الليل نواجه فيه الجوع .. لازلت إلى اليوم أشتهيها في بعض الأحيان، و أتذكر من خلالها أيام خلت و انقضت، و يفعلها اليوم رفيقي نبيل الحسام حين يجوع أو يخفف من وطأة الجوع، و يعزمني عليها و أنا أكابر، و الحنين جارف، و أحيانا يكون الصدق .. حبة السمسم باتت تحن علينا من جوع يحمل أصحابها أنفس هنيئة و أثقال كبار .. ما أجمل الفقراء، و ما أهناهم و أغناهم و أنبلهم .. ما أجمل صحبتهم و رفقتهم و هم يشمخون برؤوسهم في العنان رافضين الاستكانة و الخضوع .. ينازلون الجوع بالكبرياء المعهود، و بعزة نفس تبلغ السماء طولا .. يقاومون الإذلال و التفاهة و الانحطاط، بتفان فذ، و استبسال المنتحر..

في مدرسة “البروليتاريا” كانت لدي إذاعة صغيرة أتابع من خلالها الأخبار ليلا و السماع أقل وشيش .. كنت حريصا على سماع نشرة و تقارير إذاعة “مونتي كارلو” الساعة الثامنة مساء، و التي كانت تستمر لنصف ساعة، ثم اتابع ما يليها حتى إذا جاءت الساعة التاسعة، انتقل إلى متابعة نشرة إذاعة bbc من لندن، ثم برنامج مقتطفات من أقوال الصحف، و لا أنتهي من إذاعة لندن حتى أسمع برنامج “السياسية بين السائل و المجيب” الذي كان ينتهي في تمام الساعة العاشرة..

ساعتان يوميا دون انقطاع كنت أقضيها في ردهات الأخبار و التقارير و أقوال الصحف، و السياسية عموما، فإن حدث مستجد مهم قضيت وقت أطول في المتابعة، و سماع محطات أخرى متنوعة مهتمة بذلك الشأن أو الحدث .. لا أذكر إن ليلة فاتتني دون أن أقضي أقل من ساعتين في سماع الإذاعة باشتياق و شغف سياسي و معرفي .. لقد كان هذا جزء من برنامجي اليومي المعتاد، و الحريص عليه أثناء دراستي الثانوية، في مدرسة “البروليتاريا” .. كانت تلك المتابعة تشعرني بزخم الحياة، و تطورات الأحداث، و ما للشأن العام من أهمية في حياتنا..

كنت أتطلع للمعرفة و أشغف بها، و أقرأ الصحف عندما أجدها، و كذا بعض الكُتب، حتى ما كان منها عصيا على الفهم بالنسبة لمستواي المعرفي المتواضع، و لكنني كنت أحاول فهمها، و كأنها جزء من المقرر الدراسي.

اذكر أنني في صف الثاني ثانوي فاجئني و ثار في وجهي أحد الاساتذة لمجرد أنه شاهدني أقرأ كتاب لإنجلس (أصل العائلة) عند بوابة المدرسة، و عنَّفني كون هذا يصعب فهمه حتى على خريجي الجامعة، و أن مطالعتي لهذا يأتي على حساب مذاكرة دروسي .. كان واضح أن هذا الاستاذ متخفف من الايدلوجيا، و اعتقد ان اصوله هندية أو باكستانية كما هو واضح من سحنته و ملامحه.

هذا الزجر لم يمنعنِ من القراءة خارج المقرر الدراسي، بل جعلني اقرأ أكثر من خارج المناهج و المساقات الدراسية، دون أن يؤثر ذلك سلبيا على الاهتمام بدروسي التي كنت اعطيها القدر الأوفر من الوقت و الاهتمام، و لكن أحيانا كانت معاناتي و شغف المعرفة يحملاني على القراءة خارج المقرر الدراسي، أو ربما كان هذا بعض من قبيل التمرد على الرتابة و الملل..

إجمالا كانت القراءة خارج المناهج الدراسية الأساس لتوسيع مداركي المعرفية، بل و التفوق لاحقا في الدراسة، و مغادرة دائرة الفشل المدرسي..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى