العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. محاولاتي الفاشلة في كتابة القصة

يمنات

أحمد سيف حاشد

– كنت أشعر أن السلك العسكري ليس الشاطئ الذي أبحث عنه، و ليس مستقري إلى آخر العمر، و لن يكون محطتي الأخيرة .. كنت أشعر أن هناك فراغ يبحث عني ليمتلئ، أو أنا أبحث عنه لأملئه .. أبحث عن ذاتي و أفتش فيها عن وجهتي القادمة .. كنت دوما ما أحاول أن أعيد اكتشاف نفسي، و عندما لا أجدها انطلق مرة أخرى إلى وجهة جديدة لعلّني أجدها..

– حاولت أكتب القصة القصيرة قبل ستة و ثلاثين عام، و لكنني فشلت، و انقطعت عن كتابتها، و اليوم أعود إليها لأكتب قصتي .. ربما هو الفشل الذي قال عنه “هنري فورد “يمنحك فرصة جديدة لكي تبدأ من جديد، لكن هذه المرة بذكاء أكبر” .. إنها العودة بعد عقود من الحنين .. غير أن الأهم إنها ليست قصتي وحدي، و لكن أيضا قصة من فشلت أن أكتب قصصهم .. قصة من أعبر عنهم و أنتمي لهم .. اليوم استحضر قصصهم في أنفاس قصتي، و ما أكتب عنهم، و ما ينبض به قلمي الوفي معهم .. و بتقنية ربما تتمرد عن المعايير و القواعد المعتادة، و لكن و هو الأهم، أسعى إلى أن تبلغ الوجدان، و تحفز الوعي، و تعمل في الواقع، و تستقر في الذاكرة..

– سأكتب عن المعدمين و الفقراء المكدودين و المناضلين الشرفاء .. عن معاناتهم التي لا تنتهي، و العقول المستلبة بالأفيون، و الظلام الكثيف الذي يثقل الوعي و الكاهل، و الجهل و التجهيل الذي يبدد المستقبل .. سأكتب عن وطنهم المصادر، و وحدتهم المذبوحة، و ثورتهم المغدورة، و أحلامهم التي نُهبت، و مستقبلهم الذي ضاع .. كل هذا سأكتبه دون أن أفقد الأمل باسترداد كل ما ذهب..

– سأكتب عن الحرب و السلام، و نظام التوحش، و العالم الغير عادل .. عن البؤساء و المعذبين في الأرض و الضحايا الكُثر .. عن المنتهكة أعراضهم، و المهدرة حقوقهم و المنتعلة أحلامهم .. سأكتب عن الجوع و الجهل و المعاناة، و المستباح أوطانهم و عمن لا وطن لهم و لا مأوى .. سأكتب عن السجون و الزنازين و التعذيب، و ممارسات القمع الظالم و الطغيان الذي عشته، أو شاهدته بأم العين، أو أنقله عن شهود عيان..

– رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود و نصف، إلا أنني أزعم أنني لازلت وفيا لبسطاء الناس و لقضاياهم العادلة .. و سأبذل ما في الوسع و المتسع، لأكتب عن الحب و الجمال و العشق و الفرح و الحياة .. عن الحزن و الندم .. عن الطفولة و الشباب و المدرسة و الجامعة .. عن قبح الساسة و دمامة السياسة، و الجهل الذي تسلط و استبد و بلغ الطغيان..

– ربما أخطئ هنا أو هناك، و لكن من هذا الذي لا يُخطئ..؟! لي في حسن النية عذر و شفاعة، غير أن الأهم أن أفي و أخلص مع الضحايا حتى رمقي الأخير .. و أزعم أن كل أو جل مواقفي و انحيازي و اصطفافي لم و لن يكن إلا لهم، أنا الفقير الحالم الذي ولدت بينهم، و عشت من أجلهم، و سأموت وفيا لهم، و لقضاياهم العادلة .. أحمل رسالتهم، و اساهم بما اقدر في تحرير وعيهم من الوهم و الاستلاب، و تحرير واقعهم من الفقر و الظلم و الاضطهاد..

– تشكل وعيي في خضم المعاناة، و قراءتي المتواضعة هذبتني و صقلت وجداني، و جعلتني أنتمي أولا إلى الإنسان أينما كان .. انحيازي لا و لن يكون إلا للقضايا العادلة للفقراء و المعدمين و التائهين الهائمين على وجوههم، الباحثين عن العيش الكريم، و الكرامة المفقودة، و الحرية التي سقفها السماء، و المستقبل الذي نروم..

– قرأت في زمن باكر رواية “قرية البتول” لمحمد حنيبر، و لطالما سفحت عيناي بدموع الملح السخينة، و أنا أقرأها بانغماس عاطفي جياش .. لازالت عالقة في ذهني إلى اليوم تلك الفتاة المغتصبة، و مثلها أيضا الشغالة السوداء المغتصبة في إحدى قصص الروائي اليمني محمد عبدالولي .. و في رواية عبد الرحمن منيف “شرق المتوسط” لازالت قصة رجب حاضرة في ذاكرتي إلى اليوم .. رجب الذي قضى خمس سنوات في إحدى المعتقلات العربية، و عاش فيها التعذيب الجسدي و النفسي الذي بلغ أكثر و أكبر من أهوال القيامة .. و أيضا رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، و فيها مأساة الرجال الثلاثة أبو قيس و أسعد و مروان، و نهايتهم الحزينة و المأسوية، التي تنتهي بموتهم داخل صهريج من حديد، و من ثم سحبهم إلى إحدى مكبات النفايات .. إنها رواية رمزية و فيها صور كثيفة تحكي جانب من معاناة و مأساة الشعب الفلسطيني..

– في لواء الوحدة حاولت أطرق بابا، شعرت في فترة لاحقة أنه ليس بابي .. أول محاولة لي في كتابة القصة القصيرة، كانت في 30 مايو 1984، بعنوان “الانتظار مرة أخرى”، و هي محاولة تكشف عن مفارقة حال الفقراء المتعبين المكدودين المثقلين بالجبايات و الظلم، و الشيخ أحمد و أعوانه و سلطته الظالمة و المستبدة التي ثار عليها الشعب بعد أن طفح به الكيل، و انتصار الثورة إلى حين، ثم اغتيال هذا الانتصار بعد خمس سنيين من الولادة و المقاومة، بتحالف أعاد الأمور إلى سابق عهدها، و إن كان بصيغة أخرى، ثم الانتظار مرة ثانية لفارس قادم يأتي مع الفجر ممتطيا صهوة جواده، و ممتشقا حسام النصر، و حاملا الأماني البعاد و الآمال العراض..

– تم نشر هذه المحاولة المبتدئة في صحيفة الراية بتاريخ 30 سبتمبر 1984، في الصفحة الأدبية، بعد أربعة أشهر من انتظار نشرها .. و لكن خطاء الطباع بتقديم صفحة على أخرى خلافا لترتيبي للصفحات أصابني بالإحباط و الخيبة، حيث بدأت القصة مشوهة و غير مفهومة، الأمر الذي نال كثيرا من فرحتي، و مع ذلك اعتبرت النشر في حد ذاته مكسبا خفف من وقع الخيبة التي اصابتني، لأن النشر كان أمل يتيح لي فرص قادمة لعطاء و نشر أكثر، و لكن عندما ارسلت بعدها بمحاولات عدة في كتابة القصة القصيرة، لم يتم نشرها، و شعرت أن كتابة القصة ليست مجالي، و لست فارسا في ميدانها و لن أكون، أو أنني لا زلت بعيدا جدا عن تقنيتها، و عن امتلاك ناصية القلم فيها، فعزفت عنها بعد فشل و تكرار .. و اليوم و بعد 36 عام أحاول أن أعود إليها، و لكن بعد تراكم معرفي، و طريقة ربما أكثر ذكاء من ذي قبل..

– محاولة ثانية في كتابة القصة القصيرة كانت في 5 نوفمبر 1984، عنوانها “الوفاء حتى الرمق الأخير” و هي دون مستوى النشر كما أراها اليوم، و لكنها كانت و لازلت بعض مني، و التي شبهتُ فيها اليمن بـ”رندة” حبي الأول و اسم ابنتي اليوم، و قد استهللت القصة بامتلاكها قلب محبوبها المسحور بحبها و فارس أحلامها الذي كان من “شرعب” اليمن أو من يمن “العدين”، و أشتهر باسم “مصطفى البرزاني” و هو بطل حقيقي، أنحاز للفقراء و المعدمين و للقيم و المبادئ التي يؤمن بها، و فيها مشاهد عدة بينه و بين السجان، وضابط التحقيق، و ما عاناه مصطفى من ضرب و تعذيب شديد في الزنازين و المعتقلات و غرف التحقيق .. و كيف ظل مكللا بالكبرياء و العناد و التحدي في وجه جلاديه الطغاة، ثم أمام المحكمة التي أستطاع من داخلها أن يحولها إلى متهم، و يتحول هو إلى محكمة .. و أنتهى الأمر به إلى تنفيذ حكم إعدامه .. و القصة تحكي وفائه لمحبوبته “رندة” اليمن حتى لفض آخر أنفاس حياته .. إجمالا كانت تلك المحاولة بعض مني، و ربما تحاكي أشياء في أعماقي.

– في 27 نوفمبر 1984، كتبت محاولة أخرى تحت عنوان “الاستغاثة للمرة الثانية” استهللتها: “الليل يتباطأ و يأبى مبارحة المدينة و كوابيس العصور الوسطى تكاد تكتم الأنفاس .. ثالوث الشر يزيد السماء حلكة و قتامة .. مؤشر الوقت يشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل .. الظلام دامس يخيم بستار كثيف من الصمت المطبق على كل الأحياء الفقيرة التي طواها البؤس بجلبابه الأسود المصنوع من طقوس و بلادة أفكار رجال الدين و أصحاب المال و الثروة .. كل الأحداق الزائغة الملتاعة مشدودة إلى الأفق .. تتوق إلى الآتي .. وجوه الفقراء كالحة تطفح بالشوق إلى المستقبل .. بصيص من الأمل يشق زحام اليأس، و ينفذ إلى وعي و أعماق المتعبين المكدودين ليبدد لديهم كلمة “مستحيل”..

– تبدأ هذه المحاولة بشرح الواقع ثم بصيص الأمل الذي يكبر ليبدد في النهاية ما كان مستحيل .. تم الاستيلاء على المركز الذي يرزح تحت وطأته الفقراء و البؤساء و المحرومين .. يحتضر الليل و يتمطى الفجر على رحاب المدينة، و يطلع النهار ساطعا، و تبتهج الوجوه الشاحبة .. و لكن هذا الحال لم يستمر طويلا؛ فقد داهمت الغيوم السوداء الداكنة سماء المدينة، و غاصت المدينة مرة أخرى بمعاناة شديدة، و مع ذلك ظل الأمل الملتاع لانتصار قادم لا ينطفئ..

– في 25 مارس 1985، كتبت محاولة تحت عنوان “رغما عن مشيئة الأعداء” تحكي رحلة نضال إلى الوحدة تنتهي بإرسال الشمس أشعتها إلى كل ذرة تراب مشطورة لتبعث فيها التجدد و الوحدة و الحياة .. و كنت قد استهللتها بالقول: “كانوا يدركون جيدا إن الدرب الذي اختاروه طويلا و شاقا و سيكلفهم الكثير، و لكنهم مع ذلك كانوا و بنفس القدر على ثقة و يقين من الوصول؛ فالمسافات تتلاشى و إن ترامت في المدى، طالما وجد الأوفياء ذو البذل و العطاء و نكران الذات، الذين يملكون القدرة على المبادرة و الاستمرار في اقتحام المخاطر، و التغلب على الصعاب و المتاعب، من أجل يسعد أبنائهم و أحفادهم..”

– اجمالا كان دوما الفقراء و الشرفاء و الأوفياء هم الأكثر حضورا في محاولاتي القليلة، و كنت أكثر انحيازا لهم، و جل تلك المحاولات يتحدث عن الحال قبل ثورة 26 سبتمبر و بعدها و اغتيال الثورة في 5 نوفمبر 1967. و رغم أن كل محاولاتي تلك في كتابة القصة تفتقد للمعايير الفنية، إلا أنها كانت بعض مني .. من مشاعري و وجداني، و منهم أيضا، و هم الفقراء و المعدمين و كل الكادحين، و كانت تلك المحاولات مسكونة بالنزوع إلى المثل و القيم و الأحلام، و جذوة الأمل المقاوم لخمده..

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى