العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. أحداث يناير 1986.. هل أنا جاني..؟

يمنات

أحمد سيف حاشد

  • أطللت من نافذة الشقة .. رأيت أطفال يحملون أوعية مملوءة بالماء أثقل من أوزانهم .. أجسامهم نحيلة منهكة، و كأنهم يجالدون أقدارهم الثقيلة التي لا ترحم و لا تشفق لطفل..
  • شاهدت طفلة تحمل ما هو أثقل من وزنها مرتين .. سطل من الماء لا تقوى على حمله فوق رأسها، و لا تقدر على العتل بيديها إلا بحدود العشر خطوات، و كأنها تسحب عمرها التعيس المأسوف عليه .. تستريح قليلا لتسترد أنفاسها التي تكاد تنقطع .. ثم تواصل إيابها إلى بيتها بالماء على مائة مرحلة و ألف خطوة لتنتصر .. هنا للخطوة قيمة حياة إنسان يريد أن يعيش محترم .. العودة بجلب الماء ربما ينقذ أسرة من الموت عطشا .. كانت تعاود بذل جهدها و تتعثر خطواتها و تقل في كل مرحلة .. عودتها بالماء إلى بيتها معجزة..!! كنت أسأل نفسي: متى ستصل بيتها..؟! و هل بالفعل ستصل..؟! ثم يتبدى أمامي السؤال: هل نحن جناة..؟!!
  • شاهدت النساء و هن يجلبن الماء، و يتزاحمن على مورده في المكان المقابل .. شاهدت معاناة حرب لا تكترث بما تجلبه من ويلات على الناس المسالمين و الطيبين .. نساء و أطفال و مسنون يخاطرون بحياتهم لمواجهة العطش الذي أشتد عليهم بعد أيام من الانقطاع .. يخوضون معركتهم حتى لا يفنيهم الموت في بيوتهم مستسلمين .. رأيت المواطنين العزل الطيبين يشقّون بصعوبة في زحام الحرب طريقا للبقاء و الحياة..
  • داهمني السؤال: كيف للضمير أن يتنصل من مسؤوليته في ظرف كهذا..؟! ثم أدافع عن نفسي كمتهم..!: لست من صنع هذا الواقع المؤلم..!! ثم ماذا الذي بيدي لأغيّر من واقع الحال، أو أقلب فيه المعادلة لصالح هؤلاء الطيبين..؟! إن الواقع الآن يفرض معطياته على الجميع، و أنا صرت أعيش جحيمي أيضا، و حياتي بكف عفريت، و المستقبل إن نجوت فهو مجهول و مرهون بمن ينتصر .. الواقع بات أكبر مني بكثير، بل بما لا يُقارن و لا يُقاس، فما عساي أن أفعل..؟! و ماذا بيدي أن أفعله..؟! و هل ما سأفعله سيغير واقع الحال..؟!
  • و رغم دفاعي هذا أستمر وجع ضميري حاضرا يرفض الذهاب أو المغادرة .. ظل الوجع يشتد و يلسعني بالألم كسوط جلاد..؟! و ظل السؤال يلح: هل أنا جاني..؟! و بقي هذا السؤال يقرع مسمعي، و عالقا في ذهني المكتظ بما يراه و يسمع، و وعيي المُرهق بكل ما يحدث و يمور.
  • الاتصالات مقطوعة، و الماء لازال مقطوع و لا أمل قريب بعودته، و المجهول يتربص في كل شارع و منعطف .. و لكن ما ذنب المواطنين العزل الذين ليس لهم علاقة بالحرب لا من قريب و لا من بعيد..؟! بل هم مجنيا عليهم فيها بإمتياز .. يخوضون معركتهم الأصيلة من أجل البقاء على قيد الحياة .. يستبسلون في مواجهة الموت و المخاوف الكثيرة و المتعددة .. كم هي عادلة و إنسانية معركتهم تلك أيتها الحياة..!!
  • تحدّيهم للموت كان على أوجه، و هم يخوضون غمار تلك المعركة الهامة بين الطرفين المتحاربين الساعي كل منهما للفوز و الانتصار .. المواطنون العزل هم الأكثرية الذين لم يشاركوا في صناعة هذه الحرب، و لكنهم أول من يتحملون أوزارها، و نتائجها الكارثية، و ويلاتها و مآسيها التي تدوم .. إنهم أكثر استحقاقا للحياة من الجميع..
  • إن لم تتحد الموت و تخرج لمنازلته، سيأتي يخمد أنفاسك لتموت في جحرك الذي لم تغادره .. في ظروف كهذه إن لم تخرج لمنازلة الموت، و تنال حظك من الحياة، ستموت عطشا و جوعا و كمدا .. سيأتي الموت إليك حتما، و أنت مختبئ ذليل مرتعد..
  • كنت مُرهقا ذلك اليوم، حيث لم أنم الليلة السابقة، و لا نهار ذلك اليوم .. وضعت يدي على رأسي و وجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل و كأنه ليس بعض مني .. حاولت تفقده فوجدته يتساقط نتفا بمجرد تمرير راحة يدي عليه، دون أن أشعر أنه كان نابتا في فروة رأسي .. قررت أن أتركه و لا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة دون شعر و لا فروة .. ظننت أن مرضا خصني و أعطب فروة الرأس..!! سألت الجندي الردفاني الذي معي عمّا إذا كان هو أيضا يعاني ما أعانيه، فوجدته أنه عانى هو من هذا الحال قبل أن أعانيه..

أستمريت بمعركة الصمود مع الحرب .. و استمرت معركتي مع ضميري على نحو شرس .. صرت في مواجهة على جبهتين .. و كانت المعركة مع ضميري هي الأشد .. ضميري الذي رفض أن ينام..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى