العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. كلية الحقوق .. الايدلوجيا

يمنات

أحمد سيف حاشد 

• في الأمس كنت مُستلب الوعي ومُغيب التفكير ربما إلى حد بعيد.. اليوم صرت أحزن وأرثي لكل المستلبين والمغيبين عن الوعي.. أشعر كم هم ضحايا ومغرر بهم.. أشفق عليهم.. أتمنى تحريرهم، وأعمل على مقاومة التدجين والاستلاب والانتماء للقطيع.. لقد أيقضني الواقع بصدماته المتكررة.. لم أعد ذلك الذي يسلّم عقله لغيره، ليشكّله أو يعيد صياغته على النحو الذي يريد..

• وفي الوقت الذي لازلت فخورا ومعتزا باستمرار انحيازي للفقراء، ومقاومة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ومع هدف تحقيق العدالة الاجتماعية، صرت أيضا حقوقيا، وصاحب رأي.. لا منتمي.. متمردا على واقعي.. مناهضا للفساد، ومقاوما للاستبداد والطغيان.. أقاوم التأطير الذي يكون على حساب حق التفكير ونقد الواقع.. منحازا للمستقبل.. أنشد الحرية الفكرية والاجتماعية إلى أقصى مدى ممكن، وأرفض قمعها.. كما أرفض الحروب وهذا النظام الدولي غير العادل، وضد فرض هذا الواقع الرأسمالي البشع، وأجنداته المتوحشة على العالم.. طوباوي، وحالم إلى حد بعيد.. هذا هو أنا أو ما أزعمه أو ما أتمنى وأروم أن أكون عليه..

• في الجامعة كانت تستهويني ما تسمى أيديولوجية الاشتراكية العلمية.. أشتاق لموادها الدراسية شوق المحب الغارق فيها من أخمس قدميه حتى شعر رأسه.. أحس بذاتي وأنا أحضر دروسها مع زملائي.. معارف جديدة شيقة أكتسبها وأضيفها إلى معارفي، وأشعر بنهم لمعرفة المزيد، فيما المزيد يجعلك تستمرئ الغرق وتتطلع إلى الإكثار من المعرفة، وتشعر في الآن نفسه، كم أنت أمام عالم المعرفة ضئيل ومعدوم!! معارف أحس بفائدتها وأستمتع بها، وأشعر برغبة تتوق إلى تحقيق المزيد، حتى بديت أحيانا أمام نفسي أشبه بتاجر جشع لا يرضى بالقليل، مقارنة مع فارق اختلاف صنف البضاعة.. أقرأ ما هو مقرر، وأقرأ خارجه، وأحرز في امتحانات موادها، أعلى الدرجات والمراتب..

• خلال دراستي في كلية الحقوق أحرزت أفضل النتائج والدرجات النهائية في مواد هذه الأيديولوجية، والمواد المرتبطة بها، أو المتكئ عليها، حيث حققت نسبة 96% في مادة الاشتراكية العلمية، 94% في الفلسفة، 90% علوم سياسية، 95% قضايا نظرية، 100% تاريخ الثورة اليمنية، 98% تاريخ الدولة والقانون، 88% نظرية الدولة والقانون..

• كانت تعجبني معرفة قوانين الفلسفة الماركسية ومقولاتها، ويسعدني أن أقارن ما هو نظري بما يُعتمل في الواقع.. أراقب تطبيقاتها على الطبيعة والمجتمع والوعي.. قانون وحدة وصراع الأضداد، وقانون تحول التراكمات الكمية إلى تغيرات نوعية، وقانون نفي النفي، ومقولات العام والخاص والصدفة والضرورة وغيرها.. أشعر أن تلك القوانين والمقولات تعمل عملها في كل شيء، وبنفس القدر أشعر إن الفلسفة عالم كوني متسع، وعلم حكيم ،ومُبهر ومُمتع في نفس الوقت..

• كنت متعصبا إلى حد ما، وربما أدّعي أن أيدولوجية الاشتراكية العلمية هي الأيديولوجيا الصحيحة بين كل أيديولوجيات العالم، وأنها تملك الحقيقة وحدها، وتجيب على كل الأسئلة، وأن أول سمات العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ولكن كنت أيضا أعتقد وبحسب الأيديولوجيا نفسها التي أعتنقها أو أميل إليها، إن معيار الحقيقة هو الواقع، وأشعر أن ثمة خلل موجود في النظرية، وأن هناك ما هو نظري يتعسف الواقع، ويتعارض مع كثير من الوقائع التي ينضحها هذا الواقع..

• وبدافع أيديولوجي وعاطفي، كنت أمارس القمع على بعض الشكوك التي تنتابني في بعض الأحيان، ولاسيما فيما له صلة بالواقع السياسي والاجتماعي، وكان تكرار بعض معطيات الواقع، والوقائع على نحو ما، واستقراءها، ومقارنة وقائع سابقة بأخرى لاحقة، وإسقاط ما هو نطري عليها، تجعلني أشعر بحجم التناقض والتنافر وتبيان الفجوة بين ما هو نظري وواقعي.. أشعر أحيانا أنه لمن الخلل الكبير تعسف الواقع بالنظرية، التي أُريد أن يكون الواقع بمقاسها.. وفي أحايين قليلة، ولكنها مؤثرة أحس بمطرقة كبيرة تضرب رأسي وتهشم النظرية المستقرة فيه..

• أقرأ عن الصراع الطبقي، والأحزاب الشيوعية، ودكتاتورية البروليتاريا، والبرجوازية الصغيرة، واليسار الطفولي، ويراودني الشك، وتأتي الوقائع لتنسف ما أعتقد.. أسأل نفسي: كيف لحزب اسمه حزب العمال البولندي (الشيوعي) الذي يدّعي أنه يمثل الطبقة العاملة، وكذا الحكومة البولندية التي يختارها هذا الحزب أن يجتمعا معا في التصدّي للحركة النقابية، أو نقابات العمال، بل ويفرضان في مواجهتها الأحكام العرفية.. كيف نسلب من النقابات حق تمثيل العمال، وعدد أعضاءها أكثر من عدد أعضاء الحزب الذي يدعي أنه يمثل العمال..

• وفي موضوع آخر أستغرب وأنا أرى الصراع السياسي المحتدم على أشده في الجنوب لا يسير على قوالب الصراع الطبقي الذي في النظرية، حيث لم يكن الصراع بين فقراء وأغنياء، وإنما كان بين الفقراء أنفسهم.. كان الرفاق يقتلون بعض بتهمة اليمين الانتهازي وتارة بتهمة اليسار الانتهازي، واليسار الطفولي، واليمين الرجعي، والبرجوازية الصغيرة، فيما جلهم إن لم يكن كلّهم مناضلين ضد الاحتلال، وفقراء ومعدمين، وأغلبهم جاء من ريف لطالما شهد الفاقة والجوع والعوز..

• كان يتبدّى لي إن الصراع السياسي الذي يشهده الجنوب ليس له علاقة بدكتاتورية البروليتاريا ولا بالصراع بين الطبقات، وأن أي تيار يصف خصومه بالبرجوازية الصغيرة وبالطفولية والانتهازية والفوضوية وغيرها من تلك الوصفات الجاهزة في الكتب، إنما هو مجرد مبرر أو ذريعة لا تسد، بل هي غطاء سياسي لتصفية طرف لخصومه أو اختلاف..

• أحببت عبد الفتاح اسماعيل، ولكن أيضا أتذكر أن سالمين فيه من المزايا ما يجعلني أحبه.. فهو رجل شعبي بسيط وكرازمي وحيوي ومنحاز للبسطاء ويعيش بساطتهم.. والحب هنا لا يعني بأي حال التقديس، وعدم ارتكاب الأخطاء، أو إنعدام النقد، والتخلي عن الموضوعية، وعدم كتابة التاريخ بحياد وزهد..

• أتذكر القاص محمد عبد الولي، وأسأل لماذا قتلوه وعشرات من رفاقه المناضلين الأفذاذ في الطائرة التي تم تفجيرها في الجو.. أحزن وأنا أسمع قصة قحطان الشعبي الذي طالت إقامته في السجن حتى مات.. أحزن لتصفية عبد اللطيف الشعبي، وأنا أسمع عنه كل خير.. وكثيرون هم غيرهم.. مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية كلها دامية وقاسية، انتهت بكارثة.. باتت الثورة كما قيل “تأكل عيالها” كلّما جاعت، حتى صارت شرهة ونهمة مع كل دورة عنف جديدة، لتنتهي بكارثة يناير 1986 المشؤومة..

• صرت اليوم أظن أنه من أجل أن يكون المرء حرا يلزمه ضمن ما يلزمه أن يتحرر أيضاً من القمع والأيديولوجيا أو على الأقل يتخفف من ثقلها وكوابحها وقوالبها الجامدة أو المتصادمة مع الواقع.. وأن محاولة تفصيل الواقع على النظرية فيه كثيرا من التعسف، إن لم يكن ذاك هو المستحيل، وإن الأيديولوجيات الإسلامية باتت وبمختلف مسمياتها، خطر على الحقوق والحريات، وعلى حاضر ومستقبل الشعوب، والواقع اليوم يؤكد هذا على نحو مستمر.. إن الحرية هي من تؤسس وتخلّق الإبداع والمعرفة والمستقبل الأفضل، وهي ما تحتاجه شعوبنا بدلا من فرض النظريات عليها بالقمع والقوة..

• بت على قناعة أن التشدد والتطرف والأيديولوجيا تعيق وتكبح العلم والمعرفة، بل التطور برمته، ولا سيما عندما تكف عن الحراك والتطور أو تستعيض عن حركتها وتطورها بالتصلب والجمود والرتابة ومحاولة فرضها بالقوة أو حتى بتزييف الوعي واستهداف المفكرين والنشطاء والمثقفين الذين يناضلوا من أجل الحرية، وتحسين أحوال الفقراء، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس على تخدير الناس بالأكاذيب وتزييف واستلاب العقول بما هو غير موجود، ومنع وقمع الأفكار الأخرى التي تناقضها أو لا تتفق معها، رغم سلميتها وعيا وواقعا وممارسة..

• وبين الأمس واليوم دم وندم .. صار اليوم أثقل من الأمس.. صار اليوم ثقيلاً ومثقلاً بتوحش الرأسمالية والأيديولوجيا الدينية والإسلام السياسي وبعض من يدعون برجال الدين الذي يريدون أن يفرضون على الشعوب أيديولوجياتهم وتصوراتهم للحاضر والمستقبل.. صار اليوم أكثر تعاسة من الأمس.. وصار استغلال الشعوب بأوجه، وصار القتل لله وباسم الله باذخا وعبثيا ولا طائل منه..

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى