العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. حذائي المهترئ

يمنات

أحمد سيف حاشد

حالما كنت صغيرا، لطالما استهلكتُ حذائي حتى آخر رمق فيه .. لا أتركه حتى يلحق به كل ممزق .. لا أرميه حتى تنقطع أنفاسه إلى الأبد، فأجعله في كوة أو زاوية من البيت، بما يشبه الذكرى، و ربما لعوز أشد أبحث فيه عن الفردة التي لازالت تقوى على الاستخدام، أو بقي فيها ما يمكن استخدامه كقطع غيار .. إذا انقطع “سير” فردة حذائي أعيد تثبيته بمسمار أو أكثر كان يجري استخدامهم لهذا الغرض على أيامنا تلك .. كانت أحذيتنا الهالكة أشرف و أغلى من وجوه بعض ساستنا هذه الأيام..

بين ترك حذائي المنتهي و شراء آخر، كانت تمر أياما و أسابيعا و ربما أشهرا، و أنا أضرب بأقدامي الأرض دون حذاء .. مشيت بقدمين عاريتين لفترات غير قليلة .. عرفت قداماي الشوك مليا، و عانتا من آلامها التي كانت في بعض الأحيان تدوم لفترات قد تطول..

كان “الهوك” و هو دبوس رفيع، يساعدني على إخراج الشوك من قاع القدم .. و أحيانا كانت خالتي هي من تساعدني و تتولى إخراجهن .. خالتي التي لا تلبس الأحذية، ربما بسبب عيب خلقي في قدميها، و كانت تجيد إخراج الشوك بألم أقل .. أرتق بـ”الهوك” ” قميصي المفقود أزراره .. كنّا نكبر و نتمنى أن تكبر معنا ملابسنا و أحذيتنا إن طال عمرها .. عندما تنسلخ فردة حذائي استخدم مسمارا أو أكثر؛ لأطيل عمر خدمتها و بقائها..

على أيامنا لم تكن لأحلامنا أحذية .. كانت أحذيتنا تهلك ونحن نحاول إطالة عمرها، و كان حذاء الشَّيطان هو الذي لا يبلى ولا يهترئ كما جاء في المثل .. يوم شراء الحذاء كان بالنسبة لي يوم بهيجا و يوم هلاكه كان يوم حداد .. أقدامنا كانت أحيانا لا تقوى على لبس الحذاء بسبب الجراح التي فيها..

لم تكن الأحذية في أيامنا نغيّرها إلا لهلاك أو ضرورة، و ليست كشعارات و ولاءات هذه الأيام .. شكرا لذلك القائل: “سأقذفُ جواربي إلى السماءِ تضامناً مع مَنْ لا يملكون الأحذيةَ و أمشي حافياً..” و أصاب من قال: “نحن نعيش أَوْج عصر التفاهة، اللباس فيه أهم من الجسد..” و لم يجانب الصواب ذلك الذي قال: “صاحب هذا الحذاء اشرف من جميع لصوص السلطة”.. أما أنا فلا أحب من يقرؤون شخصيتي من خلال حذائي .. أنا أعشق الشرف العالي و البساطة وإن كانت بحذاء مهتري أو حتى دون حذاء .. الأناقة لا أبحث عنها و لا أكترث بها إلا بالقدر الضروري أو اللازم، و ما عداه أجد نفسي مستريحا لقول الشاعر:

ليس الجمالُ بمئزرٍ .. فاعلم وإن رُدِّيتَ بُردا

إِنّ الجمالَ معادنٌ .. وَ مَنَاقبٌ أَورَثنَ مَجدا

اليوم بالمال كما قال أحدهم: “يمكنك شراء أي شيء: “البرلمانيين، السياسيين، القضاة، النجاح و الحياة المثيرة..” و لكن هناك من لا يملك غير حذاء مهتري أو حتى لا يملك قيمة حذاء، و لكن لن تستطيع أن تشتريه بأموال و كنوز الأرض كلّها.

***

حضرت الصباح إلى “قرية العِقام”، و بمعيتي الرفيق راجح علي صالح و آخرين .. شاهدتُ السيارة عالقة، بل مُعلّقة كشاة مخلوسة، و بتعاون ابناء القرية تم بمشقة و حذر اصلاح وضع السيارة التي كانت مهددة بقلبة أخرى .. ثم أستمر العمل  بجهد مثابر لاستكمال شق طريق فرعية مستحدثة في المدرّج، لإخراج السيارة إلى الطريق العام..

لم يكن حضوري إلى المكان صباح ذلك اليوم لافتا .. لم أكن مميزا عمن هم بمعيتي في السيارة التي استأجرتها، و كانت سيارة عادية غير لافتة .. لم أكن أختلف في هيئتي عن الموجودين .. كان البعض لازال منهمك في العمل، و لا يعلم بوصولي إلى المكان، و بعضهم بجواري لم يعرف أنني المرشح، ربما لغياب ما يميزني عمن حولي .. بعض أبناء القرية كان يسأل عن المرشح الذي يشقون طريقا لسيارته العالقة، و لا يدري أكثريتهم أنني أجوس بينهم، واقف محاذيا لهم..

عندما عرف أحدهم أنني المرشح، تملكته الدهشة و الاستغراب، و بدلا من أن يحيّيني أو على الأقل يجاملني، تطلّع نحوي، و قال بتلقائية لمن هم جواره: “ما معوش صندل سعما الناس وشطلع مجلس نواب”..

رأيت بعضهم يمعن النظر إلى “صندلي” .. بعضهم تعاطف معي، و بعضهم استغرب، و قليل ربما سخر أو هكذا بدت لي بعض الوجوه .. أما أنا فلم أدرك حال حذائي إلا في تلك الهنيئة العابرة، و لكن هذا لم يمنع من مرور مجنزرات بعض النظرات الثقيلة على قدميي التي كانت تنتعل تلك الحذاء البائس..

لم أكن أعلم بحال حذائي إلا في تلك اللحظة الثقيلة .. كانت ذابلة كوردة مهملة داستها الأقدام، أو كشمعة تلاشت و استنفذت صلاحية بقاءها .. أحسست بصمودها الذي فات .. كانت مهترئة الحواف و الجوانب .. وجهها مكرمش في بعضه، و مقروش في بعضه الآخر .. قاعها مفلطح و مضغوط إلى الحد الذي أحسست أنها مثقلة بهم من تحمله .. صبرت عليه أكثر من صبر أيوب .. مجهدة و متأكلة..

ما كان واجبا عليّ أن أعرفه هو أن للصبر حدود، و للاحتمال قدرة .. و لما كان لروحي عليّ حق، و لبدني عليّ حقّ، فلحذائي أيضا كان عليّ حق .. و حقّ لحذائي أن يعاقبني، و هذا ما حدث بالفعل؛ لقد عاقبني و لحق بي بالغ الحرج..

***

مشهدا مماثلا حدث لي لاحقا أيضا، إلا أن الأخير كان أكثر إيغالا في الانكشاف و الحرج، فعند دخول الحملة الدعائية أوجّها أراد القدر أن يوقعني مرة أخرى..

كانت الدعوة لحضور مباراة أهلية في مدرسة “الفلاح” في “غليبة الأعبوس” و جميع المتنافسون الرئيسيون في الانتخابات سيحضرون هذه المباراة، و سيحضر أيضا جمع من المواطنين..

حضرت أنا والأستاذ طاهر علي سيف و الدكتور عبد الودود هزاع و ثلاثتنا كنا المتنافسون الرئيسيون على المقعد الانتخابي في الدائرة .. يبدو أن الدعوة كانت لتجسيد الروح الرياضية في التنافس الانتخابي، و إبراز تعاطي التحضر و الرقي بين المتنافسين، أو هكذا ظننت..

قبل أن أصل بوابة مدرسة الفلاح، اختلع أحد “سيور” حذائي التي تثبت قدمي بفردة الحذاء، حاولت سحبها دون أن ألفت نظر من حولي، و لكن السحب كان يثير الغبار بسبب احتكاك الحذاء بالأرض، و كانت هيئتي تبدو لافتة إن لم تكن مضحكة .. حملتُ فردة بيدي و استبقيت الأخرى بقدمي، و كان المكان المخصص للجلوس قريب .. و في المكان تصافحنا و تعانقنا أنا و طاهر و الدكتور عبد الودود هزاع و جلسنا إلى جوار بعض..

و خلال المباراة نظرت خلسة نحو حذائي .. كان يشبه حذاء شاقي أو رعوي لا يهتم و لا يكترث بأناقته و أناقة حذائه، شاقي يكتفي أن حذائه يحميه من الشوك فحسب .. تلك هي حاجته من الحذاء، و ما عداها ربما يراها فائض عن حاجته، لا يهتم به و لا يبالي فيه، و في مقدمة ذلك أناقته التي هي بعد رقم المائة في سلّم قائمة احتياجاته غير المُلجئه..

وجدت حذائي يكشفني و يفضحني، و يحكي بؤسي و شقائي، الذي أحاول أن أداريه أحيانا عن الناس .. كنت أداري عن نفسي قلة حيلتي التي لا أريد أن أراها، و لا يراها غيري من الناس..

كان وجه حذائي بين الأحذية عبوسا و متآكلا و هالكا، فيما جواره كانت أحذية المرشحين، فاتنات تخطف الانتباه و تشد البصر، و فيها البصر يغوي و يزيغ .. كانت أحذيتهم لامعة و جديدة، وكأنهم لا ينتعلونها في أقدامهم، و لا تلامس قيعانها السفلى خشونة الأرض و حبات التراب..

أحسست لحظتها كطفل يريد أن ينفجر بالبكاء .. أعادتني اللحظة إلى أحد الأعياد، و هو عيد كان فيه أقراني يلبسون الجديد، و كانت ثيابي بالية تحكي ما يثير غصتي و شفقة العيان، و في أعماقي كان يوجد حزن أقمعه بشدة .. أحسست أن إنسان داخلي يريد أن ينفجر بالبكاء كطفل صغير .. و كنت أقاضي القدر في داخلي؛ لأنه لا يساوي بين فرص مرشحيه حتى بالأحذية..

انتهت المباراة و تفاجأت بمناداة المرشحين الثلاثة للنزول إلى الميدان، و الاصطفاف إلى جانب بعض لتكريم الفريق المنتصر و السلام على الوصيف .. لحظة مربكة و حذاء فاضح .. خضت معركة مع نفسي و مع حذائي حتى يبدو كل شيء على ما يرام..

المرافقون معي ممن كانوا في قيادة حملتي الانتخابية، و منهم محمد فريد، و ردمان النماري، طيروا ما حدث، للأستاذ محمد عبد الرب ناجي، و هو رئيسي و قدوتي، و قد وجه على الفور بشراء أحذية على حسابه الخاص، و كنت في اليوم الذي تلاه قد صرت أرتدي حذاء جديدا..

بعد 17 عاما من عضويتي في مجلس النواب أحد أعضاء فريقي الانتخابي في يوم زواج ابنيه عاتبني بأنني تكبرت و لم أعد ذلك الذي عرفوه، فأريته حذائي و قلت له: “حذائك أفضل من حذائي..” و لم أرد أن أزيد أن أبنائي لازالوا دون زواج إلى اليوم لأنني لم أستطع تزويجهما أو مساعدتهما .. أضع لديهما مبلغا من المال، ثم تشتد الحاجة و إلحاحها، و ما ألبث أن أبدأ بصرفه و أفشل في إعادته..

***

يتبع..

ملاحظة

الصورة الأولى عن تلك الحقبة التي تحدثت عنها

الصورة الثانية تكشف البيئة التي تنشأت فيها .. أخي وأخواتي وابن أخي بدون أحذية..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى