فضاء حر

أسباب فشل المرحلة الانتقالية وانزلاق البلاد نحو الحرب

يمنات

طاهر شمسان

تبحث هذه المقالة في أسباب فشل المرحلة الانتقالية وانزلاق البلاد نحو الحرب الراهنة، وقد شيَّدنا معمارها من غرفتين متداخلتين تفضي كل منهما إلى الأخرى حيث خصَّصنا الأولى لبعض الإضاءات النظرية الضرورية لإضفاء الوضوح على الموضوع، وفي الثانية عرضنا أسباب فشل الفترة الانتقالية وانزلاق البلاد نحو الحرب. أما لماذا نتطرق إلى هذا الموضوع الآن بالتحديد فلأن معظم ما كتب حوله حتى الآن إنما كتب لأغراض تعبوية ومن أجل قارئ جاهز سلفا لتصديق كل ما يقال له. ومعظم الذين كتبوا في هذا الموضوع أسرفوا كثيرا في مدح الذات وتزكية النفس وألقوا باللائمة كلها على ما يعتقدون أنه “مؤامرة هاشمية مبيتة تتحين الفرصة منذ عقود للانقضاض على الثورة والجمهورية” وفعلوا ذلك في سياق التنظير للحرب بتصوريرها على أنها حرب كل الخير ضد كل الشر وما إلى ذلك من الثنائيات القاتلة التي تبرر ولا تفسر.

تعريف الفترة الانتقالية:
الفترة الانتقالية عملية سياسية توافقية هدفها تحقيق الانتقال من نظام سياسي سلطوي إلى نظام نظام سياسي ديمقراطي، وهي– وفقا لهذا التعريف – عملية ضرورية موضوعيا ووطنيا ولها طابع إجباري وليست مجرد خيار بين جملة خيارات مطروحة للمفاضلة فيما بينها، والجوهري فيها ليس مدتها الزمنية وإنما مضامين البرنامج الذي يجب انجازه خلال هذه المدة، وما لم يتم انجاز برنامج الفترة الانتقالية خلال المدة الزمنية المحددة فيجب تمديدها أو الذهاب إلى أزمة – وربما إلى حرب- على نحو ما حصل في اليمن صيف 1994 عندما ذهب اليمنيون إلى انتخابات نيابية تنهي الفترة الانتقالية دون أن ينجزوا كل مهامها وبخاصة مهمة دمج الجيش وتحييده في الصراع السياسي.

دلالة التوقيع على المبادرة الخليجية:
بمجرد التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في نوفمبر 2011 كان الرئيس السابق علي صالح قد أقر – أمام أنظار اليمنيين والعالم -بانتصار ثورة فبراير السلمية وقَبِلَ أن تدخل البلاد في فترة انتقالية لتحقيق الانتقال من النظام السياسي السلطوي إلى نظام ديمقراطي برعاية إقليمية ودولية يفترض أنها شاهدة وداعمة وضامنة. ومن بديهيات الأشياء أن النظام السياسي السلطوي المراد الانتقال منه هو النظام الذي قامت الثورة من أجل إسقاطه، أما النظام السياسي الديمقراطي المراد الانتقال إليه فهو – في لحظة التوقيع -النظام الذي يجب أن يتوافق عليه اليمنيون – نظريا – عبر الحوار الوطني الشامل بمحاوره المحددة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

أنواع الفترات الانتقالية:
الفترات الانتقالية على نوعين: فهي إما أن تكون سهلة ووئامية وقصيرة زمنيا تتراوح بين عام واحد كحد أدنى وعامين كحد أقصى، وإما أن تكون صعبة وصراعية وطويلة تتراوح ربما بين خمسة أعوام كحد أدنى وثمانية أعوام – وربما أكثر – كحد أعلى. ونوع الفترة الانتقالية – من حيث السهولة والصعوبة -تحدده الإجابة الموضوعية على ثلاثة أسئلة هي:

1 – ما هي حالة مؤسسات الدولة (الفضاء العام)؟
2 – ما هي حالة المجتمع وتنظيماته المدنية؟
3 – ما هي حالة الأحزاب والتنظيمات السياسية (المفترض أنها أطراف التوافق)؟

برنامج الفترة الانتقالية السهلة:
تكون الفترة الانتقالية سهلة ووئامية وقصيرة زمنيا إذا ورثت عن النظام السلطوي ما يلي:

1 – مؤسسات دولة قوية وموحدة ومتكاملة وقادرة على فرض سلطة القانون بالتساوي في كل أنحاء البلاد دون تفريق وعلى كل المواطنين دون تمييز.

2 -مجتمع متمتع بوحدة وطنية متينة ويحوز على تنظيمات مدنية قوية ومتحررة من تغول السلطة الحاكمة ومن نفوذ الأحزاب.

3 – أحزاب وتنظيمات سياسية حيوية ومتسمة بالخصائص التالية:
أ – وطنية من حيث انتشارها الديموغرافي.
ب – مؤسسية من حيث بنيانها التنظيمي.
ج – ديمقراطية في حياتها الداخلية لا يصادر قراراتها أشخاص ولا مراكز قوى
د – برامجية أكثر مما هي أيديولوجية.
ه – مدركة لمعنى الفترة الانتقالية وواعية بأهميتها ومقتنعة بضرورة تنفيذ كل مهامها وعبورها بنجاح.
وفي هذه الحالة يكون محتوى الفترة الانتقالية هو توافق الأحزاب على الإدارة الديمقراطية للدولة والمجتمع، أي تحقيق الديمقراطية ببرنامج انتقالي يتضمن مهمتين اثنتين فقط هما:

1 – التوافق – بواسطة الحوار – على دستور ديمقراطي والاستفتاء عليه.
2 – الذهاب إلى انتخابات وفقا للدستور الديمقراطي المتوافق عليه.

برنامج الفترة الانتقالية الصعبة:
تكون الفترة الانتقالية صعبة وصراعية وطويلة زمنيا إذا ورثت عن النظام السلطوي ما يلي:
1 – مؤسسات دولة منقسمة أو ضعيفة وعاجزة عن ممارسة السيادة وتطبيق القانون بالتساوي على كامل أراضي البلاد.
2 – مجتمع وحدته الوطنية تعاني من جروح وشروخ، وتنظيماته المدنية شكلية وضعيفة ومخترقة سلطويا وحزبيا.
3 – أحزاب وتنظيمات سياسية غير مؤسسية من حيث بنيانها التنظيمي، وغير ديمقراطية في حياتها الداخلية، وقراراتها تصادر لصالح أشخاص أو مراكز قوى عائلية أو فئوية أو جهوية أو دينية أو مذهبية أو عرقية….الخ

وفي هذه الحالة يكون الجوهري في محتوى الفترة الانتقالية هو التوافق على إعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع على أسس وطنية. لذلك يتضمن هذا النوع من الفترات الانتقالية – إلى جانب التوافق على دستور ديمقراطي -مهاما أخرى يتعذر بغير إنجازها التخلص من النظام السلطوي والذهاب إلى انتخابات نزيهة ضامنة للتغيير والتجديد حتى وإن كان الدستور المتوافق عليه ديمقراطيا 100%. وفي كل الأحوال يعتبر الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية ناجحا إذا انتهت الفترة الانتقالية الصعبة وقد تم تنفيذ البرنامج التالي:

أولا: على مستوى الدولة:
1 – دستور ديمقراطي جاء نتيجة حوار واسع وشامل وخضع لنقاش عام ويحظى بالقبول الشعبي.
2 – قوات مسلحة محترفة وخاضعة لمراقبة ومحاسبة مسئولين منتخبين من الشعب.
3 – منظومة قضائية نزيهة ومنيعة.
4 – جهاز بيروقراطي (خدمة مدنية) فعال ومحايد سياسيا وخال من الفساد.
5 – حقوق إنسان مصانة ومحمية ضد أي انتهاك.
6 – بيئة انتخابية عادلة وشفافة.
7 – اقتصاد نشط.
8 – عدالة انتقالية ومصالحة وطنية.
ثانيا: على مستوى المجتمع وتنظيماته المدنية.
1 – وحدة وطنية متينة.
2 – أحزاب سياسية راسخة مؤسسيا وديمقراطية لا يصادر قراراتها أشخاص ولا مراكز قوى.
3 – مجتمع مدني حيوي ومشارك.
4 – إعلام حر ومسئول اجتماعيا.

برنامج الفترة الانتقالية (حالة اليمن ):
الوثيقة الأهم التي احتوت على برنامج الفترة الانتقالية في اليمن هي المبادرة الخليجية – وآليتها التنفيذية – الموقع عليها من كل أطراف التوافق، حيث ألزمت الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق الوطني ب”الدعوة إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل خلال المرحلة الإنتقالية يبحث فيما يلي:
1 – صياغة دستور جديد للبلاد.

2 – معالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها.

3 – حل القضية الجنوبية حلا عادلا يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه.

4 – النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة.

5 – اتخاذ خطوات للمضي قدما نحو بناء نظام ديمقراطي كامل بما في ذلك اصلاح الخدمة المدنية والقضاء والإدارة المحلية.

6 – اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلا.

7 – اتخاذ الوسائل القانونية وغيرها من الوسائل التي من شأنها تعزيز حماية الفئات الضعيفة وحقوقها، بما في ذلك الأطفال،والنهوض بالمرأة.

8 – الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة لتوفير فرص عمل وخدمات اقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل للجميع.

والملاحظ أن هذا البرنامج تضمن مهاما ثمان غطت حالة الدولة وحالة المجتمع وتنظيماته المختلفة بالإضافة إلى الاقتصاد، كما لم يغفل هذا البرنامج موضوع العدالة الانتقالية.

ومن هذه الزاوية كانت المبادرة الخليجية موفقة في تشخيص الفترة الانتقالية – ضمنيا – على أنها صعبة وصراعية وطويلة.لكنها – أي المبادرة الخليجية – لم تطرح المهام الثمان كبرنامج يجب تنفيذه خلال المرحلة الانتقالية وإنما طرحتها – فقط – كمحاور للنقاش والتوافق بواسطة حوار وطني شامل تصاغ نتائجه في دستور جديد يعرض للاستفتاء العام ثم الذهاب إلى انتخابات تنهي الفترة الانتقالية، والحزب أو التحالف الذي سيحصل على الأغلبية سينفِّذ – بعد الانتخابات وبأثر رجعي – برنامج الفترة الانتقالية الذي تم التوافق عليه وأصبح مضمنا في الدستور الجديد.أما ضمانات التنفيذ الكامل والسليم بعد الانتخابات فلم يتم الإشارة إليها على الاطلاق.

وخلاصة القول فيما يتعلق بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية أنها من الناحية العملية قصرت مهام الفترة الانتقالية -وهي فترة صعبة وصراعية ومحفوفة بالمخاطر – على إجراء حوار وطني شامل يفضي إلى التوافق على دستور جديد للبلاد والاستفتاء عليه والذهاب إلى انتخابات وفقا للدستور الجديد، وكأننا إزاء فترة انتقالية سهلة ووئامية، وكأن مهمة الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق هي فقط تسيير شئون الدولة والمجتمع بوضعهما الراهن ريثما ينتهي الحوار الوطني من انجاز الدستور الجديد. وبهذا تكون المبادرة الخليجية قد تضمنت فهما ملتبسا ومشوشا لطبيعة الفترة الانتقالية الصعبة والصراعية وخلطت بينها وبين الفترة السهلة والوئامية، وهذا يفسر إلى حد كبير تحديد مدتها الزمنية بسنتين، كما يفسر فشلها وانزلاق البلاد نحو الحرب كتعبير عنيف عن هذا الفشل. أما لماذا هذا الفهم الملتبس لطبيعة الفترة الانتقالية فلأن المبادرة الخليجية جاءت لإنقاذ النظام السياسي وليس لتغييره، ولأن الرئيس السابق علي صالح وبعض كبار مساعديه هم من وضع مسودة هذه المبادرة التي أصبحت خليجية.

ولكن لماذا وقَّع تحالف أحزاب اللقاء المشترك على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية دون أن يطالب – أولا – بإعادة صياغتها على النحو الذي يزيل غموضها والتباسها ويضمن عبور الفترة الانتقالية بدون أية مخاطر؟ الجواب: لأن معظم أطراف هذا التحالف لم تكن – كقيادات–موحدة حول رؤية جامعة لطبيعة المرحلة وتحدياتها وكان لكل منها أجندته وأولوياته ومعظمها أراد أن يوجه ثورة فبراير ضد شخص علي عبد الله صالح وعائلته وليس ضد نظامه السياسي، ثم أن بعض هذا القيادات – ومن باب الحرص على سلمية الثورة -رأى في التوقيع على المبادرة الخليجية بصيغتها تلك الخيار الوحيد المتاح سياسيا وسط ضغوط خيارات المواجهة العسكرية الشاملة التي بدت ممكنة حينها بفعل انقسام مراكز قوى النظام والجيش.

شروط نجاح الفترة الانتقالية الصعبة:
عندما تكون الفترة الانتقالية صعبة وصراعية فإن نجاحها لا يعني تحقيق الانتقال من الحالة السلطوية إلى الحالة الديمقراطية فحسب وإنما ضمان المحافظة على هذا الانتقال بعد تحقيقه بالتخلص من أسباب الارتداد إلى الحالة السلطوية مرة أخرى وتمكين عوامل التحول الديمقراطي من المضي قدما نحو الانتصار التام للديمقراطية. ولنجاح الفترة الانتقالية الصعبة شروط كثيرة أهمها:

1 – التوافق على برنامج مُستوعِب لطبيعة الفترة الانتقالية وتحدياتها ويتسم بالتركيز (عدم التشتيت) والوضوح والقابلية للقياس والتزمين والتنفيذ.

2 – قيادة سياسية على قدر كاف من الأهلية المعرفية والاقتدار العملي.

ومن غير المشكوك فيه أن هذين الشرطين لم يتوفرا في الحالة اليمنية، والقول بخلاف ذلك مجانب للصواب بدليل انزلاق البلاد نحو حرب طال أمدها بغير حسم. وبالنظر إلى مخاطر هذه الحرب على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وتداعياتها المأساوية على حياة الغالبية العظمى من اليمنيين أصبح البعض في اليمن يتحدث عن قيادة سياسية فشلت في إدارة الصراع بشقيه السياسي والعسكري ويرمي باللائمة كلها على الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي، وكأن هادي هو القيادة السياسية. لذلك لا مناص هنا من ضبط مفهوم “القيادة السياسية” لتجنب الخلط بينه وبين مفهوم “القائد السياسي”. ولأن القائد السياسي لا يعمل في فضاء مثالي خاص به فإن ضبط مفهوم “القيادة السياسية” ينطوي على أهمية نظرية وعملية كبيرة لبيان مسئولية النخب المحيطة به والمؤثرة عليه.

مفهوم القيادة السياسية:
القيادة السياسية عملية تفاعلية مدخلاتها ثلاثة عناصر هي (القائد + النخبة + برنامج المرحلة)، على أن ينضبط التفاعل بين هذه العناصر لقيم ومثاليات المجتمع وما يتطلع إليه الشعب ويتوقعه من قيادته. ومعروف أن مخرجات أية عملية تتوقف – سلبا وإيجابا -على نوع مدخلاتها. وفي الحالة اليمنية تحددت مدخلات القيادة السياسية عند بداية المرحلة الانتقالية بما يلي:

1 – القائد: وهو الرئيس المتوافق عليه عبد ربه منصور هادي الذي تقلد منصب وزير دفاع حرب 1994 ثم شغل لسنوات طويلة منصب نائب الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وهو بهذا المعنى جاء من داخل النظام السلطوي المراد الانتقال منه وليس من خارجه. ومن جانب آخر يؤخذ على هادي أنه رجل عسكري دخل المعترك السياسي مفتقرا إلى الأهلية المعرفية والاقتدار العملي، والسنوات التي قضاها نائبا للرئيس قضاها مرتهنا لشخص الرئيس السابق الذي نقله – شكليا -من الظل إلى الواجهة السياسية دون أن يهتم بأهليته المعرفية والعملية بقدر ما اهتم بجنوبيته التي أرادها للتعمية على إخراج الجنوب من معادلة الوحدة وتحويله – بحرب صيف 1994 – من شريك وطني بإرادته إلى ملحق بغير إرادته.

وعندما أصبح هادي رئيسا انتقاليا تطلع -بحكم ضرورات المنصب-إلى التحرر من شروط ارتهانه للرئيس السابق وسعى إلى ذلك عمليا، لكنه – بقدر مساحة الحرية التي كان يحققها– كان يجد نفسه عرضة لشروط ارتهان أخرى لمراكز قوى انشقت عن الرئيس السابق ولا تريد أن تكون عونا للرئيس الانتقالي من أجل عبور المرحلة الانتقالية بنجاح بقدر ما تريد أن يكون الرئيس الانتقالي نفسه عونا لها في العبور إلى أجندتها هي لاعتقادها أنها هي صاحبة ثورة فبراير وأنها هي التي جاءت به وجعلته رئيسا للبلاد. وفي الحالتين لم يستطع هادي أن يكون رئيسا انتقاليا متحررا من مراكز قوى النظام السابق التي أشعلت حرب 1994 ثم انقسمت على نفسها ودخلت في تنافس صراعي على الاستئثار الكامل بهذا النظام، فهو لا يستطيع أن يرضي الطرفين معا، وإن أرضى طرفا لا بد أن يغضب الطرف الآخر، ولذلك سعى هو نفسه لأن يصبح مركز قوة ثالث مستفيدا من شقوق صراع الطرفين، ولتمرير أجندته أخذ يعمل بذهنية علي صالح ولكن في شروط مختلفة تماما لم تتوفر له فيها عوامل القوة التي كانت للأول، وقد ظل الأمر على هذا النحو مشكلا بيئة مناسبة لمراكمة عوامل نجاح انقلاب 21 سبتمبر 2014 الذي خطط له الرئيس السابق علي صالح بالتنسيق والتشاور مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة اللتين جمعتهما بعلي صالح رغبة مشتركة في التخلص من نفوذ الإخوان المسلمين في اليمن. وكان الإخوان المسلمون قد استطاعوا بما لديهم من جاهزية أن يطبعوا مظاهر ثورة فبراير بطابعهم وأن يوحوا للعالم بأنها ثورتهم هم وليس ثورة شعبية متعددة المشارب. والخلاصة في هذه الجزئية أن انقلاب 21 سبتمبر كان في جزء كبير منه إقليميا وما كان له أن يتم دون أن تكون الرياض وأبو ظبي موافقتين عليه ومتحمستين له. أما أنصار الله فلم يكونوا سوى واجهة الانقلاب ليبقى علي صالح في الخلف منكرا علاقته بما يجري ولم يفصح عنها إلا حين بدأت عاصفة الحزم.

والسئوال الذي قد يتبادر إلى الذهن: هل كان علي صالح عاجزا عن تنفيذ انقلابه منفردا دون الاستعانة بأنصار الله؟ والحقيقة أنه كان قادرا على ذلك من الناحية العسكرية، لكنه من الناحية القانونية والسياسية كان مكبلا بالتوقيع على المبادرة الخليجية التي جعلته طرفا في التسوية بخمسين في المئة من مقاعد الحكومة. والقيد القانوني والسياسي يسري بقدر أكبر على الرياض وأبو ظبي باعتبارهما أهم الرعاة الإقليميين للتسوية وفقا للمبادرة الخليجية التي تم التوقيع عليها في جدة. إذن كان لابد من طرف ثالث غير موقع على المبادرة الخليجية وغير مكبل بأية التزامات تجاهها وله خصومة أيديولوجية مع الإخوان المسلمين. وقد كان أنصار الله هم هذا الطرف الذي بدا لعلي صالح أنه قادر على استخدامهم ضد الإخوان المسلمين وضد التسوية التي جاءت بها المبادرة الخليجية ثم يأتي هو بعد ذلك ليلعب دور المنقذ من الفوضى القادر على إعادة أنصار الله من حيث أتوا، وبذلك تخلو له الساحة كأخطر راقص على رؤوس الأفاعي لتخرج الجماهير إلى الساحات تهتف “بالروح بالدم نفديك يا علي” بينما ستبدي الرياض وأبو ظبي قدرا كبيرا من الامتنان لهذا الرجل وستقدمان له الدعم الذي يحتاجه لضبط إيقاع الحياة في البلاد. لكن أنصار الله خيبوا أمل علي صالح ومن خلفه الرياض وأبو ظبي وظهروا مثل من كان يبحث عن سمكة صغيرة ليسد بها رمقه فساق الله إليه حوتا ضخما من حيث لم يكن يحتسب.

2 – البرنامج: إذا افترضنا أن برنامج المرحلة هو برنامج حكومة “الوفاق الوطني” برئاسة محمد سالم باسندوة فيؤخذ على هذا البرنامج أنه ليس برنامجا لفترة انتقالية صعبة وصراعية وإنما هو برنامج نمطي لا يختلف عن برامج الحكومات السابقة في الظروف الاعتيادية، وآخرها برنامج حكومة علي مجور.ومعروف عن برامج الحكومات اليمنية المتلاحقة أنها لا تفرق بين برنامج الحكومة ككل وبين البرامج النمطية للوزارات منفردة، ولذلك لا تركز برامج هذه الحكومات على قضايا محددة ذات أولوية وإنما تدَّعي القدرة على عمل كل شيء في ظرف أربع أو خمس سنوات ثم تذهب دون أن تنجز أي شيء.وهذا هو حال برنامج حكومة باسندوة الذي لا فرق بين وجوده وعدمه.

3 – النخبة: لمفهوم النخبة دلالات ثقافية ومعرفية لا تنطبق على هادي ولا على معظم أفراد الطبقة السياسية الفاعلين في المشهد السياسي اليمني، لذلك سنعرِّف النخبة هنا “إجرائيا” على أنها ظاهرة جماعية تشمل كل من له نفوذ وسلطة من نوع ما – سياسية؛ عسكرية؛ قبلية؛ دينية؛ مالية…الخ -ويستطيع أن يمارس التأثير على القائد بحثه على اتخاذ قرار ما أو صرفه عن اتخاذ قرار آخر، بصرف النظر عن حجم ونوع هذا التأثير. ووفقا لهذا التعريف تمثلت النخبة في اصطفافين متصارعين اقتسما حكومة المرحلة الانتقالية مناصفة بينهما بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وهما:

1 – الاصطفاف (أ): وهو ذلك الاصطفاف الذي أعلن أنه يؤيد ويؤآز ويعاضد ويدعم ثورة 11 فبراير الشعبية السلمية ضد نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وقد تألف هذا الاصطفاف من قيادات تحالف أحزاب اللقاء المشترك وشركائه، إضافة إلى شخصيات قيادية انشقت عن حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم بعد مذبحة جمعة الكرامة في مارس 2011.

2 – الاصطفاف (ب): وهو ذلك الاصطفاف الذي قامت ثورة 11 فبراير الشعبية السلمية للإطاحة بنظامه السياسي، ويتألف من الرئيس السابق علي صالح ومن معه من قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم وحلفائه فيما عرف بأحزاب التحالف الوطني الديمقراطي.
وبناء على عرض العناصر المكونة لمفهوم القيادة السياسية يمكننا أن نترجم مدخلاتها ومخرجاتها على النحو التالي:

الرئيس التوافقي هادي ( وهو رئيس جاء من داخل النظام السابق مفتقرا إلى الأهلية المعرفية والاقتدار العملي، وإذا تحرر من بعض شروط ارتهانه القديمة وقع في شروط ارتهان أخرى لمراكز قوى منشقة عن الرئيس السابق، وفي أحسن الأحوال يحاول هو نفسه أن يصبح مركز قوة ثالث) + برنامج حكومة “الوفاق الوطني” ( وهو برنامج نمطي واعتيادي وليس برنامجا لمرحلة انتقالية صعبة وصراعية) + النخبة ( وتتألف من اصطفافين متصارعين كل منهما يسعى إلى نفي الآخر) = قيادة سياسية تحمل مسبقا معظم عوامل فشل المرحلة الانتقالية.

دلالة برنامج حكومة باسندوة:
إذا كان برنامج حكومة باسندوة برنامجا نمطيا واعتياديا فإن لهذه النمطية ولهذه الاعتيادية دلالتين خطيرتين أولاهما أن هذه الحكومة لم تكن من الناحية العملية حكومة وفاق وطني وإنما حكومة تقاسم، وثانيهما أننا إزاء مرحلة انتقالية صعبة وصراعية بدون برنامج انتقالي، الأمر الذي جعل من الصفة الانتقالية للمرحلة صفة شكلية قاصرة على مدتها الزمنية المحددة بسنتين.وقد ظل الرئيس السابق يتحين – على رأس الاصطفاف (ب) – نهاية هاتين السنتين لتصعيد الصراع والطعن بشرعية التمديد للرئيس الانتقالي في إطار مخطط لخلط الأوراق ومراكمة عوامل الانقلاب على العملية السياسية الانتقالية برمتها.

مؤتمر الحوار الوطني الشامل:
واضح من العرض السابق أن برنامج الفترة الانتقالية اقتصر– طبقا للمبادرة الخليجية -على إجراء الحوار الوطني. وفي هذه الحالة يجب أن تأخذ معادلة القيادة السياسية الصيغة التالية:(القائد + النخبة + مؤتمر الحوار الوطني = القيادة السياسية). وطبقا لهذه المعادلة تبدو الفترة الانتقالية على أنها سهلة ووئامية يفضي فيها الحوار إلى نتائج توافقية يتضمنها دستور جديد يطرح للاستفتاء العام ثم الذهاب إلى انتخابات عامة بموجب الدستور الجديد. ولأن الفترة الانتقالية لم تكن – من الناحية الموضوعة – لا سهلة ولا وئامية فقد شكل مؤتمر الحوار الوطني ساحة صراع ظهرت معالمه بوضوح في فريق بناء الدولة، وبوضوح أكثر في فريق القضية الجنوبية الذي حُسم الحوار فيه لصالح الشكل الاتحادي للدولة فيما بقي عدد أقاليمها موضوعا خلافيا. وبدلا من معالجة عدد الأقاليم بواسطة الحوار وتقديم تصورات مكتوبة ومناقشتها باستفاضة وشفافية ثم طرح الخيارات المقترحة للمفاضلة والتصويت في اجتماع عام لكل أعضاء مؤتمر الحوار الوطني، بدلا من كل ذلك تناسى حلفاء حرب 1994 جروح حرب الحصبة ومحرقة جامع النهدين والتقوا – إعلاميا -على تسفيه مقترح الحزب الاشتراكي في دولة اتحادية من إقليمين والمزايدة عليه بقضية الوحدة. ومن المفارقات الملفتة أن الذين كانوا بالأمس القريب يرفضون الحكم المحلي واسع الصلاحيات ويعتبرون الفدرالية تمزيقا لوحدة البلاد هم أنفسهم من ذهب يقسم الشمال إلى أربعة أقاليم والجنوب إلى إقليمين وفعلوا ذلك بذهنية صراعية وخارج آليات الحوار الأمر الذي فتح الأبواب على مصارعها للتحريض ضد هذا الإجراء والطعن في شرعيتة ومشروعيته.

المشهد السياسي خلال الفترة الانتقالية:
عند انطلاق الفترة الانتقالية في فبرير 2012 وحتى الانقلاب عليها في سبتمبر 2014 بدا المشهد السياسي بخطوطه العريضة كما يلي:

1 – نائب الرئيس السابق أصبح رئيسا توافقيا لفترة انتقالية مدتها سنتان، لكن ليس هو من اختار، أو رشَّح، رئيس حكومة “الوفاق” التي يفترض أنه (أي هادي) المايسترو الذي سيجبر الحكومة أن تعزف تحت قيادته على لحن واحد. ولأسباب لا نعلمها لم تكن العلاقة بين هادي ورئيس حكومة الوفاق علاقة سوية منذ البداية، ولم يفلح الرجلان في تنظيم أي لقاء تشاوري بينهما، وقد أعلن الأخير غير مرة أنه ” لم يكن يعلم عن قرارات التعيين التي يصدرها هادي إلا عبر نشرات الأخبار” مثله مثل أي مواطن.

ولم يتوقف الأمر بالنسبة لهادي عند عدم اختياره لرئيس الحكومة وإنما امتد حتى إلى مدير عام مكتب رئاسة الجمهورية (نصر طه مصطفى) الذي عينه هادي في هذا الموقع مكرها لا بطل، ومن رحم هذا الإكراه الناعم خرج “جلال هادي” كحالة موازية من خارج القانون، وبالتدريج تحولت هذه الحالة إلى “عُرفٍ” أصبحت معه مكاتب كبار مساعدي هادي غرفا عائلية بمسميات رسمية. وعلى قاعدة هذا “العرف” تفشت في جسد الشرعية ظاهرة التهافت على الوظيفة العامة المدرة للدخل.

2 – محمد سالم باسندوة أصبح رئيسا لحكومة “الوفاق”. ومعروف عن هذا الرجل أنه قضى معظم حياته السياسية في خدمة مراكز القوى في نظام الجمهورية العربية اليمنية منذ أيام القاضي الإرياني، وفي فترة الغشمي كان هو بين السياسيين الأكثر قربا من قلب وعقل الرئيس، ثم أخلص لعلي صالح حتى أصبح أحد كبار مساعديه في حرب 1994 وأكثرهم حماسا وتنظيرا لتلك الحرب التي لم يرَ اليمنُ بعدها عافية. ولأن لعلي صالح حساباته السياسية الخاصة بمرحلة ما بعد ضم وإلحاق الجنوب تعذر عليه أن يحقق لباسندوة المكافأة التي كان يحلم بها وينتظرها مقابل خدماته الكبيرة وفضَّل عليه عبد القادر باجمال لرئاسة حكومة ” النصر العظيم “. ومن جانبه رأى باسندوة في تفضيل باجمال عليه جحودا ونكرانا للجميل وأسرَّ ذلك في نفسه إلى أن رأى الرياح تأتي بما لا تشتهي سفن علي صالح فغيَّر تموضعه وانتقل إلى المعارضة متشجعا ببعض مراكز القوى التقليدية التي استشعرت شغفه برئاسة الحكومة وتهافته على هذا الموقع لأسباب شخصية لا علاقة لها لا بثورة فبراير ولا بمشروع وطني ولا ببرنامج إصلاحي، ولذلك كان باسندوة شخصية ضعيفة على رأس حكومة “الوفاق” لا يحسن شيئا مثلما يحسن البكاء ولم يكن صاحب سلطة حتى على مدير عام مكتبه (سالم بن طالب) المحسوب على التجمع اليمني للإصلاح عموما وعلى الشيخ حميد الأحمر خصوصا.

3 – حكومة “وفاق وطني” مناصفة بين الاصطفاف (أ) والاصطفاف (ب). وعلى قاعدة هذه المناصفة تباينت مرجعيات الوزراء وأصبح لكل منهم ليلاه، إلا من رحم ربي وكان عليه رقيب من ضمير أو حس وطني، وفي مشهد كهذا تشابه الوزراء على الناس وغدا من الصعب على المواطن أن يميز أو يفاضل بين وزراء الاصطفاف (أ) ووزراء الاصطفاف (ب) حيث الكل في الفساد على مذهب واحد، وقد وجدها الرئيس السابق فرصة لخلط الأوراق وتحريض الأجهزة الموالية على الفوضى من خلال التلويح بما أسماه “ثورة المؤسسات” معولا في ذلك على تغول حزبه في مفاصل الجهاز البيروقراطي للدولة ومصادرته للوظيفة العامة.

4 – برنامج حكومة “وفاق وطني” اعتيادي ونمطي لا علاقة له بمعنى الفترة الانتقالية ومهامها الاستثنائية ولا فرق بين وجوده وعدمه. وبسبب اعتيادية ونمطية البرنامج أصبحت هذه الحكومة عمليا حكومة تقاسم وليس حكومة وفاق.

5 – برلمان خرج من رحم بيئة انتخابية لا تعرف الطهر ولا لها علاقة بالعفة ولا عهد لها بالنزاهة، ورغم انتهاء صلاحيته لم تقترح المبادرة الخليجية صيغة توافقية بديلة له وإنما أبقت عليه كما هو، ورغم أن قراراته أصبحت توافقية إلا أن أغلبيته “الكاسحة” جعلته غير مؤهل لإجبار جميع الأطراف على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا فظل كما هو جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل.

6 – شعب ثائر قيل له: “شكرا على قيامك بالواجب، عد إلى بيوتك واتركنا ندير نيابة عنك ما تبقى من الصراع حتى نستكمل مسار الثورة ونصل إلى الدولة المدنية التي تنشدها”. وبمجرد أن دخل الشعب الثائر بيوته أصبح، ومعه الثورة، نسْياً منسيا، بينما انشغل “حماة الثورة ووكلائها” بجمع الغنائم.
7 – مجتمع وحدته الوطنية ممزقة بحرب صيف 1994 وبحروب صعدة الستة فضلا عن شروخ أحداث يناير 1986، وتنظيماته المدنية شكلية وضعيفة ومنقسمة ومخترقة أمنيا وحزبيا. ومن شروخ الوحدة الوطنية وضعف التنظيمات المجتمعية تسرب معظم انقلاب 21 سبتمبر.

8 –أحزاب سياسية بعضها أصبح ظاهرة صوتية وخارج الجاهزية منذ فترة طويلة، وبعضها غير جاهز أصلا بحكم النشأة المشوهة، والبعض الآخر تصادره مراكز قوى وجماعات مصالح، وعندما قبل المؤتمر الشعبي العام أن يظل علي صالح متسيدا عليه لم يكن في ذلك بدعة من دون بقية الأحزاب.

9 – جيش منقسم بحكم ولاءاته الغير وطنية، وفضلا عن ذلك هو في شكله مؤسسة عسكرية وفي محتواه مليشيات عائلية وحزبية وجهوية، وقد أظهرت محاولة إعادة الهيكلة أن نصيب محافظة ذمار وحدها عشرون ألف ضابط وسبعة وتسعون ألف جندي معظمهم من آنس بينما نصيب محافظة تعز خمسمائة ضابط وحضرموت إثنان وخمسون ضابطا معظمهم في البيوت.كما تبين أن حجم الفساد في كل لواء يتراوح بين عشرين وأربعين مليون ريال شهريا.

10 – قضاء لا يحظى باحترام المواطن وثقته ولا يختلف حول فساده إثنان.

11 – جهاز بيروقراطي فاسد ماليا وإداريا ووظيفة عامة مسيسة ومصادرة لصالح حزب الرئيس السابق.

12 – إعلام يفتقر إلى المهنية وإلى الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية الاجتماعية والوطنية.

13 – عدالة انتقالية تبدو مستحيلة.

14 – أوضاع أمنية مختلة وخارج السيطرة حتى داخل العاصمة.

15 – رئيس سابق– رغم الثورة الشعبية التي طالبت برحيله، ورغم حصوله – وكل من عمل معه طوال سنوات حكمه – على حصانة ضد الملاحقة القضائية، ورغم انتقال السلطة إلى نائبه – إلا أنه بقي حاضرا في المشهد السياسي ومحتفظا برئاسة حزبه الحائز على نصف الحكومة ومعظم البرلمان و90 % من السلطة في المحافظات والمديريات والملتحم – منذ أكثر من ثلاثة عقود – بعشرات الأجهزة العميقة الموالية والمتحكمة بكل مفاصل الدولة في المركز والمحليات.

16 – رغم الطابع الانتقالي والتوافقي للمرحلة سلك الرئيس السابق نهجا معارضا طافحا بالذاتية والنرجسية والفوضوية والرغبة الجامحة في الثأر .

17 – بسبب نهج الرئيس السابق وما يحوزه من أجهزة عميقة موالية وحزب ملتحم بكل مفاصل الدولة تحولت الفترة الانتقالية إلى فترة للمكايدات والثارات والاغتيالات والإرهاب والتخريب ومراكمة عوامل الفشل لخلق مزاج شعبي ساخط على الفترة الانتقالية التي تسيدها “كلفوت” والسفير أحمد علي، حيث حوَّل الأول ليالي اليمنيين إلى ظلام دامس، بينما كانت صور الثاني تباع في أرصفة شوارع صنعاء وتغطي – بمنتهى الجرأة – واجهات سيارات الجيش وكأنه صاحب العاصمة الذي لا ينازع والمالك الحصري للقوات المسلحة.

18 – اقتصاد منهار وخدمات مدمرة إلى درجة فقد معها الناس الثقة بالغد.

وفي ظل هذا المشهد أصيب الناس بالإحباط وشاع بينهم شعار “سلام الله على عفاش”. وفي هذا المناخ حاصرت القبائل مداخل العاصمة من كل الجهات معيدة إلى الذاكرة حصارها لهذه المدينة واجتياحها عبر التاريخ، ما يعني أن الدولة المدنية في اليمن مستحيلة ما دامت عاصمتها واقعة تحت رحمة العصبيات وعرضة للحصارات والمداهمات والاجتياحات المسلحة.

من العرض السابق تعرّفنا على الدور الخطير الذي لعبه علي صالح المدعوم سعوديا وإماراتيا، لكن ليس من العدل تعليق كل شيء على مشجب هذا الرجل وتبرئة مراكز القوى المنشقة عنه، ولبيان مسئولية هذه الأخيرة سننظر كيف تفاعلت مع الرئيس الانتقالي ومع حلفائها في اللقاء المشترك:
التفاعل بين القائد والاصطفاف (أ):

لن تكتمل الصورة بغير إلقاء الضوء على التفاعل الذي تم بين القائد ممثلا بالرئيس الانتقالي وبين النخبة السياسية التي أيدت ثورة فبراير وعاضدتها ممثلة بالاصطفاف (أ)، وقد رأينا مكونات هذا الاصطفاف طافية على سطح المشهد السياسي على النحو التالي:

أولا: مكوِّن التجمع اليمني للإصلاح، والمحسوبون عليه، والمدعومون منه.
1 – محمد عبد الله اليدومي (رئيس الحزب ومستشار الرئيس)
2 -عبد الوهاب الآنسي (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس ورجل أعمال واسع الثراء)
3 – علي محسن الأحمر (صاحب نفوذ عسكري وقبلي وصاحب ثروة مهولة “ثابتة ومنقولة” ومستشار الرئيس)
4 – حميد عبد الله بن حسين الأحمر (صاحب سلطة مالية وتأثير حزبي ونفوذ قبلي)
5 – عبد المجيد الزنداني (صاحب سلطة دينية ورئيس هيئة علماء اليمن ورئيس جامعة الإيمان)
6 – نصر طه مصطفى (مدير عام مكتب رئاسة الجمهورية)
7 – صالح سميع (وزير الكهرباء).
8 – عبد الرزاق الأشول (وزير التربية والتعليم)
9 – علي العمراني (وزير الإعلام)
10 – حورية مشهور (وزير حقوق الإنسان).
11 – القاضي العرشاني (وزير العدل)
12 – محمد السعدي (وزير التخطيط والتعاون الدولي)
13 – عبد القادر قحطان (وزير الداخلية)
14 -صخر الوجيه (وزير المالية)
15: محمد سالم باسندوة (رئيس حكومة الوفاق)
16 – سالم بن طالب (مدير عام مكتب رئاسة الوزراء)\

ثانيا: مكوِّن الحزب الاشتراكي اليمني.
1 – ياسين نعمان (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)
2 – محمد المخلافي (وزير الشئون القانونية)
3 – واعد باذيب (وزير النقل)
4 – جوهرة حمود (وزير دولة).

ثالثا: مكوِّن التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.
1 – سلطان العتواني (أمين عام الحزب ومستشار الرئيس)
2 – علي اليزيدي (وزير الإدارة المحلية)

رابعا: مكوِّن التجمع الوحدوي.
1 – عبد الله عوبل (وزير الثقافة)

خامسا – مكوِّن حزب الحق.
1 -حسن أحمد شرف الدين (وزير دولة)

سادسا: مكون إتحاد القوى الشعبية.
1 – عبد السلام رزاز (وزير المياه والبيئة)

سابعا: مكوِّن حزب البعث.
1 – عبد الحافظ نعمان (أمين عام الحزب، وزير التعليم المهني)

ثامنا: مكون إتحاد الرشاد السلفي.
1 – محمد العامري (رئيس الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق القضية الجنوبية)
2 – عبد الوهاب الحميقاني (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة)

تاسعا: مكوِّن حزب العدالة والبناء.
1 -محمد علي أبو لحوم (رئيس الحزب ونائب رئيس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني)
2 – عبد العزيز جباري (أمين عام الحزب وعضو مؤتمر الحوار الوطني في فريق بناء الدولة)

عاشرا: مكون الحراك الجنوبي المشارك في الحوار.
1 – ياسين مكاوي (عضو الحوار الوطني ومستشار الرئيس)

حادي عشر: مستشارون:
1 – عبد الكريم الإرياني ( نائب أمين عام حزب المؤتمر ومستشار الرئيس)
2 – فارس السقاف (مستشار ثقافي للرئيس)
3 – محبوب علي (مستشار إعلامي للرئيس)
ثاني عشر: مقربون من الرئيس هادي.
1 – محمد ناصر أحمد (وزير الدفاع)
2 – أحمد عوض بن مبارك (أمين عام مؤتمر الحوار الوطني)
3 – محمد الشدادي (عضو هيئة رئاسة مجلس النواب وعضو مؤتمر الحوار الوطني)
4 – محمد مارم (رئيس فريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني)
هذه هي أسماء ومواقع مكونات الاصطفاف (أ) – كما طفت على سطح المشهد السياسي-وكان معولا عليها مع الرئيس هادي أن تتعاون وتتظافر من أجل نجاح الفترة الانتقالية وإفشال مخططات الثورة المضادة المتوقعة.

أما إذا نظرنا إليها من حيث ما تحوزه من سلطات وقدرة على التأثير الفعلي في قرارات وخيارات القائد فيمكن إعادة ترتيبها نوعيا على النحو التالي:

المجموعة الأولى: التجمع اليمني للإصلاح + الرشاد + العدالة والبناء.
المجموعة الثانية: مقربون من هادي + الحراك + مستشارون.
المجموعة الثالثة: الاشتراكي + الناصري + القوى الشعبية + البعث + التجمع الوحدوي.
المجموعة الرابعة: حزب الحق.

وللتفاعل بين هذا الاصطفاف والرئيس الانتقالي (القائد) أربعة احتمالات نوجزها كما يلي:

1 – إما أن يكون القائد إيجابيا في تفاعله مع الاصطفاف (أ) ومنضبطا لقيم ومثاليات المجتمع ومستوعبا لتحديات الفترة الانتقالية وحريصا على تجاوزها، والاصطفاف (أ) أيضا مثل القائد إيجابي ومنضبط ومستوعب وحريص.وهذه عملية تفاعلية ضامنة لمعدلات نجاح عالية جدا تتلاشى معها فرص الثورة المضادة في تحقيق أهدافها الانقلابية.
2 -إما أن يكون القائد إيجابيا ومنضبطا ومستوعبا وحريصا، والاصطفاف (أ) سلبي. وهذه عملية تفاعلية تحتمل نجاحا نسبيا يحسب -في حال تحققه -للقائد.
3 -إما أن يكون الاصطفاف (أ) إيجابيا ومنضبطا ومستوعبا ومخلصا، والقائد سلبي. وهذه عملية تفاعلية تحتمل النجاح الكلي أو الجزئي في بعض مهام المرحلة، والفشل الكلي أو الجزئي في البعض الآخر. ومن الطبيعي أن يحسب النجاح – في حال تحققه – للاصطفاف (أ).
4 -إما أن يكون القائد سلبيا وغير منضبط وغير مستوعب وغير مخلص، وكذلك الاصطفاف (أ) مثله سلبيي وغير منضبط وغير مستوعب وغير مخلص. وهذه عملية تفاعلية نتيجتها الفشل الكارثي.
وبما أن الفشل الكارثي هو الذي حصل بالفعل، بدلالة انزلاق البلاد نحو الحرب، فمعنى ذلك أن الاحتمال الرابع هو الذي تحقق، وبالتالي هناك جزء كبير من مسئولية الفشل يقع على القائد والاصطفاف (أ). وإذا أمعنا النظر في مكونات هذا الاصطفاف سنجد أن قاسمها المشترك الأعظم هو معارضتها للرئيس السابق، وما عدا ذلك فهي غير متجانسة، ثم إنها متفاوتة من حيث كم وحجم ونوع السلطة المتاحة وما توفره من قدرات على ممارسة النفوذ والتأثير على القائد، ومن غير الجائز المساواة بينها في تحمل مسئولية فشل المرحلة الانتقالية. ومن غير شك هناك خفايا وأسرار تحتاج إلى مكاشفة مسئولة تجنب اليمنيين مساوئ ومخاطر تجريب المجرب وتكرار الوسائل والأدوات الفاشلة. ولكن كيف تم قياس التفاعل بين القائد والاصطفاف (أ).
معيار قياس الإيجابية في التفاعل بين القائد والاصطفاف (أ):
يكون التفاعل بين القائد والاصطفاف (أ) إيجابيا إذا كان الطرفان مدركين لتحديات الفترة الانتقالية ومتحمسين لنجاحها، وحصل بينهما تكامل وتعاون قوي أفلحا معه في التوصل إلى ما يلي:
1 – التحديد الدقيق للتحديات والمخاطر التي تهدد نجاح الفترة الانتقالية.
2 – ترتيب هذه التحديات بحسب خطورتها.
3 – إختيار الوسائل والآليات الفعالة والملائمة للتغلب على هذه التحديات.
4 – التحديد الدقيق للفرص المتاحة لنجاح الفترة الانتقالية.
5 – إتخاذ القرارات اللازمة في التوقيت المناسب للتغلب على التحديات وإضعاف المخاطر، وتقوية الفرص.

ومن الطبيعي أن يقطع هذا التعاون – في حال حدوثه – الطريق أمام الاصطفاف (ب) المتربص بإضعاف مواطن قوته بوسائل قانونية ونظامية وبآليات شفافة تستمد مشروعيتها من شرعية التوافق الوطني، مسنودة بتأييد الشعب المتطلع إلى التغيير.

أما وقد تبين أن القائد والاصطفاف (أ) غير مدركين لتحديات الفترة الانتقالية وغير متحمسين لنجاحها على النحو الذي يحقق تطلعات الشعب فمن الطبيعي أن ينعدم التعاون بينهما، وهذا تفاعل سلبي له أسباب كثيرة من بينها:

1 – غياب الرؤية الجامعة.
2 – عدم كفاية الأهلية المعرفية.
3 – ضعف الاقتدار القيادي.
4 – تعدد الأجندة وتضاربها.
5 – الاستغراق في تحقيق مكاسب شخصية وحزبية وفئوية وجهوية.
وهذه كلها كانت مقدمات لنجاح الاصطفاف (ب) المعطِّل بالنظر إلى الأجهزة العميقة التي يمتلكها رئيس سابق ظل في الحكم ثلاثة وثلاثين عاما أمضاها في شخصنة الفضاء العام ومصادرة مؤسسات الدولة.

وفي الختام:
القول بأن ما يجري في اليمن اليوم هو نتاج مؤامرة هاشمية متربصة تتحين الفرصة للانقضاض على الثورة والجمهورية هو قول تعبوي يأتي في سياق صب المزيد من الزيت على النار. والحقيقة أن ما يجري ليس له سوى تفسير واحد وهو أن مسار التطور التاريخي الموضوعي لهذا البلد لم يُفضِ إلى بناء دولة لكل مواطنيها. ومنذ 1962 تعددت الجهات المعيقة لبناء الدولة في اليمن ولا توجد جهة واحدة تستطيع أن تبرئ نفسها، غير أن أكثر هذه الجهات خطراً وفتكا بمشروع الدولة الوطنية هو نظام علي عبد الله صالح بتحالفاته المختلفة، وبخاصة تحالف حرب 1994. ولكن ما هو الحل؟ والجواب: لو اجتمعت أفضل العقول في العالم لإنتاج أفضل مبادرة لحل أزمة اليمن لما كان لهذه المبادرة (الأفضل) أي قيمة عملية ما لم تكن أطراف الأزمة جاهزة للتراجع عن مشاريعها الخاصة الصغير لصالح المشروع الوطني الكبير ممثلا بدولة لكل اليمنيين. ومع ذلك سنحاول في مقالة لاحقة التطرق إلى تفاصيل الحل الذي نراه.

من حائط الكاتب على الفيسبوك 

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520.

زر الذهاب إلى الأعلى