العرض في الرئيسةفضاء حر

عن الشهيد البريء

يمنات

ماجد زايد

عاطف الحرازي، أبن جبل حبشي ومحافظة تعز، أبُ لأبنتين كالورد في بزوغهما، رؤى، وريّا، وقلوب من الأمنيات الشاهقة بينما تغشاهما في كل الصباحات حينما تودعان والدهما بحرارة من الحب لا تكاد تنتهي حتى تعود مجددًا، عاطف، أبن الخامسة والثلاثين، يعيش مع والده ووالدته وإخوته وأبناءهما، كأسرة واحدة وسماء واحدة في بيت هو عمادها وعائلها ومتكفلها، والده رجل كبير في السن، كذلك والدته وتاج حياته وسنينه، له أخ متوفي تاركًا أيتامًا وأبناء، وأخ أخر يعاني من أمراضٍ في الكبد، وأخ أصغر مازال يدرس ويأخذ مصروفه من عاطف، وأخ أكبر منه لكنه مريض أيضًا، وحده عاطف من كان عائل البيت وعمادها الوفي والحنون، كان يصرف على أسرته، ويعيل أيتامها، ويهتم بدراسة أبناءها وأفرادها، ويتفقد كل حاجياتها ويومياها..

إلتحق عاطف بجامعة الحديدة، ودرس في كلية الطب قسم التمريض، ليتخرج منها بدرجة البكالوريا عام 2011، كواحد من أولئك الشباب المكافحين والقادمين من الريف، شاب جاء من القرية للتعلم والدراسة، في صباحه يذهب للجامعة، وفي مساءه يعمل ويبحث عن لقمة عيشه وتكلفة دراسته، مقاتلًا، طموحًا، حالمًا، ومرهف المشاعر والأحاسيس، وفي أعماقه شاعر متمكن، وواصف من زمن العاشقين، وأديب لا يتوقف عن التفكير في الوداع، قال في إحدى قصائده ذات يوم:

وحاولت التـــــجلد غــير أني
فقدت تماسكي وصرخت أهلي
ولم نهنأ سوى بضع الليــــالي
ويسقينا الوداع دموع طفلي
لقد آن الرحــــيل فلا تمــــلي
دَعيّ الأحزان عنكِ واسـتهلي

كان بالفعل يودع أحبابه وأصدقاءه وأقاربه في معظم أبياته وأشعاره المتكررة، كان يعيّ جيدًا معنى الرحيل، وضرورة المواجهة والغياب..

عقب دراسته الجامعية، إلتحق عاطف بالعمل في معظم مستشفيات مدينة إب وتعز، كأحد الممرضين الإستثنائيين، كملاكٍ في توصيفه ومعاملته مع مرضاه، ليعمل ليلًا ونهارًا، ويزور أسرته بين فينة وأخرى، حتى إلتحق بمنظمة أطباء بلا حدود في مدينة إب ومن ثم في مديرية القاعدة، وهناك تعرفت عليه وعلى شاعر وطبيب، ومغرم بالناس والوطن، ومتابعًا حريصًا لمستجدات القضايا والأحداث، شغوفًا بأغاني أيوب طارش الوطنية ومعظم الفنانين والأغاني الخالدة، كان يحفظها ويرددها في معظم الأوقات، وفي جلساته يعيد تصوراته عن معانيها ومشاعر الفنان فيها، ليشرحها ويتحدث عنها، حفظ قصائد. الفضول، وألحان مرسال وترانيم سالم والحداد، وأغاني الثورتين المجيدتين، ومزجهما في حياته كأنهما صوته المتردد في أعماقه وخيالاته..

لكنهم قتلوه، وقتلوا معه سعادة الرفاق، والأصدقاء، وهدموّا من بعده بيتًا وأحلام الصغار مع الكبار، كشروا عن أنبابهم ودمروا قلب والده وأقرباءه، ثم أحرقوا بالحزن فؤاد أمه الى ما وراء الأبد، قتلوا عاطف وحطموا بالقهر أرواح أبناءه وأيتامه وعياله الصغار.. وكل أولئك البشر في قريته مازالوا يتحدثون عنه وعن كرمه وشغفه بمساعدتهم في ماضي المدينة والريف، وحياتهما المتقلبة مع الحرب والشقاء، كان شباب القرية يجتمعون في حضرته حين يعود الى القرية، يجلسون بجواره، يستمعون عنه مستجدات الأحداث، كان الأمل القادم يتهيء لهم من بين شفتيه، لكنه قد رحل وقُتل مغدورًا دون ذنب، سوى لأنه مواطن من شعب اليمنيين المستباح..

هانذا أتخيل والدته الأن، بينما تتراءى الفاجعة، دون أن تصدقها، قلب الأم وحزنها هو أصدق ما ينبض في كل الحكايات، بينما يذرف القلب دموعه على هيئة ذكريات، مرارة الزمن البعيد تختبئ بين حناياها، أوجاع السنين ومرارة الأيام وخوف الدهر بكل تفاصيله وعبراته، لكنها تحاول التماسك والتصبر، للحظة واحدة ثم تنفجر عيناها بينما تقول; هل مات عاطف؟ ليش قتلوه؟ لا، لا، يمكن عادوا ما ماتش! لا أحد يجيب، الجميع منهمك في غمرة الخوف والبكاء، كأنه زمن طويل من البؤس والشقاء، ليست الذكريات قاسية بقدر ذلك الظلم والغدر والإجحاف بحق شاب لم يغترف من الذنب شيئًا، الظلم هو أسوأ ما قد يصنعه الإنسان بالإنسان، وفي المقابل لا عزاء بوسعه الرفق بوالدة مكلومة ومغدورة بفلذة كبدها وفؤادها.!

والد عاطف، رجل كبير ومناضل قديم، مازال يتظاهر بالتماسك والوقوف، هكذا يتحدث مع نفسه في غمرة الفاجعة، واقفًا بشموخه، ورجولته الماضية إبان حصار السبعين يومًا، حينما كان أحد المقاتلين فيه، يقف الى المفجوعين، يصبرهم ويعدهم بالإنتقام من القتلة، قليلًا قليلًا، ثم لا يبقى مكانه، كأنه منشغل بمجريات القضية، يذهب ويحاول أن يتأخر، لكنه لا يلبث حتى يعود مسرعًا، ليتخيل الفاجعة من ملامحها في ذات المكان، يهرب منها مجددًا، ثم يععود ويعود، ولكن عاطف بمفرده لن يعود، وماهي الاّ ثواني حتى يتخيل نجله بينما روحه تفيض من داخلها، بينما كان يواجه المجرمين، كأنه يصرخ وهو خائف، يتشبث بصديقه القريب، يترنح ليسند طوله، لكنه يعجز، يتمتم بأدعية خائفة لا يعرف من أين جاءت، يراقب المحيط، يرفع يديه، يلتفت، ينظر في وجوه الآخرين لا يرى غير الظلام والموت، يتذكّر، يقاوم، ينهار، يرتجف، يموت مرة أخرى، ينهض من الموت، يتأمل الموت، يلامس ذرات التراب في كل مكان، يريد أن يصرخ، يريد النجاة، يتوقف عن الصراخ، عن الأمل المزيف، يتذكر الموت، يريد أن يموت تمامًا، أن ينتهي كل شيء.. ينهض الأب من مكانه، مسرعًا للهروب من لوعة الخوف والخيالات المرعبة، يتمنى الموت على هذه الأوهام القابضة على أنفاسه وروحه.. تمر لحظات، يعود عاطف كأنه يبتسم، كأنه يودع المكان، يقسم الأب في حضرته وإبتسامته; لن تدهب روحك يا ولدي بلا ثمن، لن تقتل مظلومًا دون إنتقام..، روحي بروحك، ورأسي الشائب لن يلبث دون رأسك..

إنتهت حكاية عاطف، تمامًا كما إنتهت حكاية عبدالملك، إنتهت الى الأبد.. ولكن الجميع فيها يقسمون بأن العدالة ستتحقق ولو إنهارت لأجلها كل السماوات.

رحمة الله عليك يا عاطف..
لك الخلود والجنة، وروحك باقية هنا كمعجزة لن تترك المجرمين، عليك السلام أيها الشهيد..

قد تكون صورة لـ ‏‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏طفل‏‏ و‏أشخاص يقفون‏‏

من حائط الكاتب على الفيسبوك

 للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى