العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة (42) .. قصتي مع القات

يمنات

أحمد سيف حاشد

(1)

لم أدخل عالم القات إلا في فترة متأخرة نسبيا.. المرة الأولى التي تعاطيتُ فيها القات كانت في امتحان سنة ثالثة أو رابعة جامعة.. كانت هي المرة الأولى التي حاولت فيها أن أستعين بصديق اسمه القات في مواجهة النوم والشرود أثناء مذاكرتي الامتحانية؛ غير أنه خذلني وخيب رجائي، وشعرت أنه لم يستسغني، وأن لا مزاج له بي، ولم يدخل هو أيضا في مزاجي.. كنت يومها أعاني سهر امتحاني مرهق من اليوم الذي قبله..

يومها كان زملائي الذين أعتدت المذاكرة معهم أو مع أحد منهم، قد تمردوا عليّ، ربما لأنانيتي المفرطة في طريقة المذاكرة، التي استبدُ بها عليهم، وأستحوذ فيها على مجريات القراءة والنقاش.. فتركوني في قترة امتحان فارقة، ربما لأنهم لا يقوون فيها على تحمل تبعات ومشقة مجاملتي التي تعودوها معي في بعض الأحيان..

خالتي التي كنت ألوذ بها لتستمع لي وأنا أقرأ، صارت تملّني، وتكسر همة القراءة لدي قبل أن أشرع فيها.. كانت تدخل في نعاس غالب، بمجرد أن أقرأ أول سطرين من الموضوع، تصيبني الخيبة وأنا أرغمها عنوة على الاستماع، وربما باكراه غير معلن.. لم يعد الشاهي والجوز الذي كانت تفضّله كافيا لحشد يقظتها ومقاومتها لنعاسها الغزير، ومللها الطافح من وهلته الأولى، ومن أول سطر أقرأه على مسامعها.
 
حاولت أعتمد على نفسي هذه المرة لأقرأ وحدي وبمفردي.. كنت كلما حاولت أن أقرأ شيئا من دروس مساق الامتحان المقبل، فيمر النعاس على عيوني لذيذا وناعما، متروع بالمتعة والسحر، ومعبرا عن مدى شغفي وحاجتي له، ثم تمطرني اللحظة بالنوم الغزير والعميق..
 
أحاول التركيز فأشرد إلى مكان بعيد، ولا أعود منه إلا نائم بعمق، أو مجفلا بحمل من النوم الثقيل.. أصحوا من عمق النوم، وأفزع وجودي بتذكير نفسي بامتحان يوم السبت، ولكن لا تستمر يقظتي بعض دقائق، حتى يداهمني النعاس والنوم العميق كرّة أخرى..

انتفضت من عمق نومي متمردا على حاجتي له، وهرولت بانفعال وعجل ـ كمن يحمل ثارا ضده ـ إلى سوق القات في المعلا، وكان يوم خميس، اشتريت قاتي من أول بايع في السوق دون مراجلة، ودون أن تكون لدي أي معرفة أو أبجديات خبرة بالقات و أنواعه أو حتى أسماءه، فضلا عن جهلي بكل تفاصيله.. كلما في الأمر أنني أردت أن أستعين بالقات من أجل أن يعينني على اليقظة والقدرة على الصمود في مواجهة النوم.

عدت إلى البيت.. اتكأت على مسند، لا أذكر هل كان مصغوطا أو محشوا بنشارة الخشب!! أمرت بطلب الشاي .. بدأت بالتخزين، وشرب الشاي المترع بالجوز والنعناع.. شعرت لبرهة بالسلطنة والفخامة، فتحت الموضوع لأقرأ وأستذكر.. وجدت نفسي أكثر شرودا وشتاتا في التفكير من قبل.. وجدت شرودي يلاحقني بزحام الوسوسة.. في اللحظة نفسها لعنت الوسوسة ونعتها بـ”بنت الكلب”.. صرت أقرأ دون أن أفقه شيئا، وكنت في كل دقيقة أحاول أن استجمع قواي العقلية، أو أستعيد بعض عقلي الشارد في مكان بعيد، أو ألملم ذهني المشتت من بُعد قصي، فأفشل فشلا ذريعا، وتصيبني الخيبة والفشل، ويتسرب إلى نفسي بعض الاكتئاب..

ظننت أن القراءة تحتاج مني في مقيلي هذا وقت أطول من الإنتظار ليكون التركيز والاستيعاب على نحو أفضل.. تعاطيتُ المزيد من القات؛ وغالبتُ مرارته، وحاولت أحشي بجمتي بأوراقه العريضة، ولكن كنت كلما حشيت فمي بالقات ومضغته، لا يستقر في بجمتي، بل يذهب سريعا إلى بلعومي ومعدتي.. شعرت أنني صرت أشبه بحيوان يعتلف.. و بعد أن خسفت بثلثين القات إلى بطني، شعرت أنني لم أفشل في القراءة فقط، بل فشلت أيضا في تكوير بجمتي.

أمضيت ساعتين في القراءة دون أن أفقه شيئا مما أقرأ .. امكث في الصفحة الواحدة وقتا أطول يصل أضعاف الوقت المعتاد.. أعيد قراءة الصفحة مرتين، وما أن أحاول أن أستمع لنفسي؛ أكتشف أنني مشوش الذهن ومضطرب الشعور والفكرة.. اكتشفت خيبتي، وأنه لم يعلق في ذهني شيئا مما قرأته يستحق الانتشاء أو الذِكر..

وقبل نهاية اعتلاف ما بقي من قات، بديت أشعر أنني شبعت، وأن معدتي صارت ممتلئة بالقات، وأنني فشلت في تكوير بجمتي، كما فشلت في استيعاب أي شيء مما قرأته..

غير أن الأكثر سوء أن النوم داهمني بغته، فأنزحت قليلا وأرتخيت، ومدد أبو حنيفة ساقيه ورجليه، وغمضت عيناي قليلا وقد أثقل النعاس جفوني ، وغرقت في غفوة عميقة، فيما لا زال بعض القات الممضوغ طريا في فمي..

صحيت صباح يوم الجمعة بعد نوم عميق، لأرمي بقايا قات الخميس الذي نام معي في فمي حتى صباح الجمعة.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى