فضاء حر

الإحسان: فهم الإسلام الصحيح

• يرى أهل الله أن الإحسان مشتق من الحسن وهو نهاية الإخلاص وجاء في الحديث الصحيح عندما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال أخبرني عن الإحسان ؟ فقال:" الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ويتضح من الحديث أن الإحسان مرتبة أعلى درجة من درجات الإيمان وهو ثمرة من ثمرات الإيمان العميق وهو عند أهل الله قيمة من قيم الإسلام العظيمة ومبدأ من مبادئه السامية وهو من أرقى القيم التي تعارف عليها البشر مؤمنهم وكافرهم. والإحسان في العبادات أن تعبد الله كأنك تراه أي قيامك لوظائف العبودية مع شهودك إياه ومراقبته سبحانه وتعالى في جميع تصرفاتك القولية والعملية والقلبية وأول مقامات الإحسان هي الإحسان في حق الله عز وجل ومن الإحسان الرضا في مقادير الله فيظهر الرضا والقبول في المنع والعطاء. ومن الإحسان التوحيد في العلاقة بين السبب والمسبب فإذا سألت فاسأل الله طالباً منه معتمداً عليه ويتضمن الإحسان عند أهل الله معاني واسعة تدور كلها حول صلاح الإنسان وفلاحه في كل أموره في عباداته ونفسه وأهله ومجتمعه وكل ما حوله من حيوان ونبات وجماد وله أثار عظيمة في التصالح ورأب الصدع وتضميد الجراح وزرع التصافي والإحسان قولاً وعملاً وسلوكاً يرجع إليه أصول الأخلاق والآداب وهو غاية الغايات ومحط ذوي الهمم العالية . 

• ويقول أهل الله إن الإحسان ينطلق في جميع الميادين الواسعة فينشر الخير والبر في كل ما يحيط بالإنسان أو يمر به فالمحسن عنصر صالح ومسلم مستقيم مع نفسه ومع الآخرين فما يصدر عنه إلا ما يحبه لنفسه ويرضاه للآخرين والمحسن شخصية مهذبة راقية يستبطن بين جوانحه مكارم الأخلاق وهي تدور عنده بين العدل والإحسان وفق ما جاءت به الشريعة فعنده إذا كان العدل أساس الحكم وقيام الدول فإن الإحسان هو سبيل رقيها ورفعتها وتقدمها ومن هنا فإن الإحسان بحسب أهل الله هو دعوة الإسلام الخصوصية بإعتباره قيمة فوق مرتبة العدل فإذا كان العدل موقفا وجوديا يتعلق بالوجود البشري الإنساني في العالم فإن الإحسان موقف شهودي فيه رؤيا وشهود "الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " بمعنى أنه موقف جمالي رحماني يشهد العالم كحقيقة ربانية رحمانية أي يظهر من خلالها الإلهي من حيث كونه رحمة وجمال بالعالم. فإذا كان العدل يؤسس جذريا لعلاقات الوجود من حيث الحقوق فالإحسان يراد له أن يكن مؤسسة لعلاقات جمالية بين الموجودات ومن هنا يتضح ان الإسلام يبني العلاقات على أساسى وجودي شهودي- أي "قانوني / أخلاقي" فهو يقر أن يأخذ الإنسان حقه عدلا "العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص" ولكنه يبيح له العفو إحسانا "فمن عفى وأصلح فأجره على الله" وهو يحث هنا على العفو كقيمة أخلاقية أعلى من قيمة القصاص العدل وإن كان مطلوبا. وقيمة العفو هنا مثلا كقيمة أخلاقية هي مرتبة جمالية شريفة عالية لأنها تحتاج الى قوة النفس واحتمال الأذى والصبر وصولا الى الإصلاح. وللإحسان حدود فهو غير مطلوب في حالة إنتفاء العدل أي عند وقوع الظلم الظاهر والمقصود عندها القصاص أولى من الإحسان بل يعتبر القصاص هنا نوعا من الإحسان إذا كان المقصود به رد الظالم عن ظلمه. 

• ويمثل الإحسان عند أهل الله مدخلا للإسلام الى العصر الحديث الذي تتحدد صفته الأساسية باعتباره عصر تعامل الإنسان مع الوجود والكون ومع الآخرين والمجتمع فالإحسان يرفض اللاعقلانية والجمود والأسطورة على المستوى المعرفي ويرفض على المستوى السلوكي والتنظيمي الظلم والاستعلاء والديكتاتورية والتعدي على حقوق الإنسان لإن الإسلام كدين يهدف الى ترقية وتنمية تلك العلاقات بين بني الإنسان ويفتح الباب واسعا أمام الإنسان في تحقيق هذا الهدف وبناء تجربته في التاريخ فهو بذلك دين متجدد بتجدد حياة الإنسان وتعدد تجاربه التاريخية في مختلف العصور. ومع الإلتزام بالدين كشريعة وقانون عام يمثل الروح العامة والذات الكلية للأمة الإسلامية كأمة ذات خصوصية إنسانية مفتوحة وليست عرقية أو جغرافية أو قومية أو ثقافية وهذه هي صفات العصر الحديث والمسماة بالحداثة وهي – كما هو ظاهر- لا تتناقض مع الإسلام في شيء فهي تتفق مع الإسلام في أساسه العدلي الفطري وتستطيع أن تكون سياقا تاريخيا جديدا لتجديد الدين وفي هذا السياق يمكن تجديد مفهوم الإحسان كمفهوم على ثلاثة مستويات هي الأولى : الإحسان كعلاقة معرفية وجدانية تعتمد على العقل والقلب معا بمعنى تضامن المعرفة الحسية والعقلية معاً بالكون مع "الإيمان والإعتقاد" بالله الذي يؤدي الى استشفاف الوجود الإلهي في الوجود الكوني وهي رؤية جمالية تصفي التجربة الإنسانية المعرفية من جفاف وقسوة المادية المجردة من الروح الإنساني . والثانية : الإحسان كعلاقة عملية تؤدي الى تطوير تجربة الإنسان العملية والفنية وترقية علاقته بالبيئة والطبيعة باعتبار أن الإحسان هو إتقان العمل وتجميله وسكب الروح فيه فيأتي العمل المادي حاملا الروح والثقافة قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " قال المفسرون أي يجمله ويحسنه .والثالثة: الإحسان كعلاقة إجتماعية أخلاقية تقوم على احترام الآخر وتنمية العلاقة معه عن طريق الحوار الفكري الذي يؤدي الى التجانس والتوحد الوجداني بدون تمييز قال تعالى:"وأحسن كما أحسن الله إليك.." وقال:"وادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" وهي علاقة كما هو ظاهر تحترم الإختلاف والتعدد ولا تستثني من الإحسان والحوار السلمي الاّ من يتخذ من الإسلام موقف العداء الفعلي – أي المقاتلين وهؤلاء هم أهل الحرب والذي يجب فيهم الجهاد الحربي أما فيما عدا ذلك حتى "الكفار" المسالمين الذين يختلفون مع الإسلام في العقيدة الأساسية ماداموا أهل سلم ومودة فأن الإحسان يشملهم وهم أهل الدعوة بالحسنى. بهذه المفاهيم يمكن اعتبار الدين الإسلامي دينا إنسانيا حديثا غير متناقض مع اتجاهات هذا العصر الحديث بل هو أكثر تطابقا مع اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة 

صحيفة الجمهورية :الثلاثاء 14 أغسطس-آب 2012م – 26 رمضان 1433عـ

زر الذهاب إلى الأعلى