فضاء حر

أوباما الحائز على جائزة نوبل للكلام

يمنات

في طريق عودتي من شبوة إلى عدن أواخر يونيو 2010، مررت بمقبرة كل قبورها تقريبا حفرت حديثا.

كانت تلك هي المرة الأولى التي أمر فيها بمقبرة حديثة في الغالب، لكن هذا لم يكن أهم ما فيها بالنسبة لي. الأهم تمثل في قبرين صغيرين ومتجاورين بقيا مفتوحين على السماء الزرقاء الواسعة منذ تم حفرهما قبل نحو 6 أشهر من لحظة رؤيتي لهما.

كنا- صديقي الصحفي في الجارديان غيث عبد الأحد وأنا- عائدين من مدينة الصعيد في شبوة حيث كنا قد التقينا بالراحل فريد بوبكر بن فريد، الشيخ العولقي الحكيم الذي شعرت أثناء لقائنا به أننا في حضرة قَــيْـل يمني قديم.

كان المرحوم بن فريد قد طلب من أحد أعيان "آل كازم"، وهو شيخ ثمانيني من "آل عنبور" ينتمي إلى منطقة المعجلة في مديرية المحفد بأبين مرافقتنا إلى منطقته التي كانت قد تعرضت لهجوم صاروخي أمريكي بخمسة صواريخ كروز أبادت قريتين صغيرتين يقطنهما البدو الرحل عن وجه الأرض. وقد كانت المقبرة مدخلنا إلى تلك المجزرة.

تقع المقبرة وسط بقعة ترابية مستوية ومنخفضة على يمين الطريق الإسفلتي الذي يربط بين شبوة وأبين، وأول ما استقبلنا في تلك المقبرة قبران متجاوران يبدو أنهما حفرا لطفلين صغيرين بقيا مفتوحين هكذا.

لفتا انتباهي بشدة منذ البداية، لكني جلت في المقبرة وفي الحديث مع العجوز الثمانيني ولم أسأل عنهما إلا ونحن نغادر.

"ليش هذين القبرين مفتوحين؟"، سألت المسن العنبوري.

 

بعد حوار قصير بيني وبينه، عرفت أنهما حفرا لطفلتين إحداهما في الخامسة والأخرى في الثالثة من العمر. وهما شقيقتان. "وهذا قبر الأم"، أشار المسن إلى قبر كبير مغطى بالتراب. لكنه لم يكن قبر الأم وحدها بل كان قبرا لثلاثة قتلى، كان يضم الأم مع طفلتيها أيضا.

كانت القنابل العنقودية التي حملتها صواريخ الكروز الأمريكية الخمسة قد مزقت سكان قريتي "آل عنبور" و"آل حيدرة" إلى أشلاء، وقد اختلطت أشلاء الأسر ببعضها. وهذا ليس سوى الخبر السيء فقط.

الخبر الأسوأ أن أشلاء السكان اختلطت بأشلاء ماشيتهم، وقد شاهدت بعيني كيف اختلطت ملابس الضحايا بعظام الماشية في القريتين داخل الجبال، على بعد حوالى اثنين كيلومتر من المقبرة والطريق.

حمل الأهالي هذه الأشلاء مختلطة مع بعضها إلى المقبرة حيث أمضوا وقتا في عمليات (فَـــرْز) لها لا يدري أحد إلى أي مدى كانت ناجحة. لكن كان من الواضح أنهم فشلوا تماما في إجراء العديد منها (من عمليات فرز الأشلاء أقصد)، وقد كان فرز أشلاء الأم عن أشلاء طفلتيها إحدى عمليات الفرز الفاشلة هذه.

 

كان الأهالي قد حفروا قبرا كبيرا للأم الشابة التي قال لي المسن العنبوري إنها كانت في العشرينيات من عمرها، وإلى جانب قبرها حفروا قبرين صغيرين لطفلتيها. لكنهم فشلوا في التفريق بين أشلاء الأم وأشلاء طفلتيها، فاضطروا الى دفن الأشلاء مختلطة ببعضها في قبر واحد: قبر الأم. وهكذا، بقي قبرا الطفلتين مفتوحين يحدقان في السماء الزرقاء التي تمخرها طائرات البريديتور كعينين لا تغمضان.

لم يكن ذلك هو القبر الوحيد الذي ضم جثة وأشلاء أكثر من قتيل واحد. فقد أخبرني المسن وآخرين من الأهالي عن دفن العديد من القتلى في قبر واحد. وكان هناك قبور ضمت أشلاء ناقصة، ضمت جذوعا مقطوعة وأذرعا وأقداما مقطوعة، وضمت أشلاء جثث ممزقة دون رؤوس. وقد تذكرت هذا كله وأنا أقرأ في مجلة النيوزويك عن مأدبة عشاء فاخرة أقامها الرئيس الأمريكي باراك أوباما لبعض مشاهير الإعلام الأمريكي أتذكر أن جون ميشام وفريد زكريا المحررين في نيوزويك وقتها كانا في مقدمتهم.

مأدبة العشاء تلك كانت كما أتذكر بين 7 و10 ديسمبر 2009 إن لم تخني الذاكرة، أي قبل أسبوع من مجزرة المعجلة التي حدثت في 17 ديسمبر من العام نفسه. ولقد قرأت كلاما جميلا نقل على لسان السيد باراك أوباما من تلك المأدبة عن العدالة والسلام باعتبارهما هدفين إنسانيين نبيلين ترمي إلى تحقيقهما الحرب العالمية ضد الإرهاب التي تشنها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى في عدة بلدان بينها بلدي: اليمن.

مأدبتا أوباما- مأدبة العشاء الفاخرة في بلده ومأدبة الكروز المشينة في بلدي حدثتا في شهر واحد- بعد شهر واحد من حصول أوباما على جائزة نوبل للسلام، الرئيس الأمريكي الأسود الذي كنت قد سعدت بوصوله إلى البيت الأبيض أيما سعادة وكأن من وصل إلى سدة حكم القوة العظمى في العالم ليس رجلا أمريكيا فحسب بل العدالة الإنسانية والكونية شخصيا.

 

لقد كنت مخطئا للغاية، فالظلم لا لون له ولا جنسية ولا عرق ولا دين له تماما مثل العدالة التي لا لون لها ولا جنسية ولا عرق ولا دين. وقد قلت في نفسي يومها: "ما أجمل كلامك في مآدب العشاء التي تقيمها في بلدك الكبير والقوي أمريكا، وما أسوأ مآدب القتل الجماعي التي تأمر بها في اليمن، بلدي الصغير والضعيف الذي لا حلفاء له ولا أصدقاء ولا أخوة يا أوباما". وتذكرت المثل الأمريكي القائل: "لا تنظر إلى ما يقوله المرء، بل إلى ما يفعله". لهذا، أخشى عواقب احتفالات أوباما بفوزه بولاية جديدة في بلده، أخشى عواقب مآدبه التي سيقيمها في بلده على البلدان الأخرى، أخشى مثلا من مآدبه التي سيقيمها خلال فترته القادمة في بلدي الممزق والحزين والمعرض للفتك على الدوام.

من حائط الكاتب في الفيس بوك

زر الذهاب إلى الأعلى