أخبار وتقارير

كلفـــة التكفيــر في اليمــــن

 يمنات- خاص – الصحيفة الورقية – وضاح الجليل

الغريب في أمر التكفير أن اليمنيين يتعاطون معه كمسلمة، أو كأحد إشكاليات الحياة التي لا بد أن يواجهوها يومياً، ولذا لا أحد يكترث بشكل كافٍ أو ملفت لتداعيات التكفير وأخطاره، سقط الكثير من الضحايا نتيجة لوصمهم بالكفر، وما زال البلد ينتظر أكثر من ذلك في ظل استمرار الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخانقة، وتوفر الإمكانيات والأدوات اللازمة للصراع وبينها التكفير.

يطلُّ التكفير مجدداً على اليمنيين، والحقيقة أنه لم يغارد، لكنه كمن يستريح بين ظهرانيهم مؤقتاً أو أنه يتحين الفرصة ليعلن عن وجوده، يبدو التكفير أشبه بكلب حراسة في مكان ناءٍ، يصمت طالما لا شيء غريب يمر قريباً منه، لكن أنفه حساسٌ جداً للروائح، وبمجرد أن تداعب رائحة غريبة أنفه يعلو نباحه وتلمع أنيابه، هكذا يفعل التكفيريون، لا شيء يعكر مزاجهم تقريباً إلا الأصوات التي لا ترضى عنها تنظيماتهم وقياداتهم، وحكامهم.

لم يكن ثمة ما يستحق أن تحدث كل تلك الجلبة لمجرد كلمة وردت وحيدة على تقدير محذوف في كلمة الزميلة سامية الأغبري في مهرجان إحياء الذكرى العاشرة لاستشهاد جار الله عمر؛ فالزميلة سامية متدينة ولا مشكلة لديها مع الدين أو الأديان الأخرى حتى، لكن ليست هذه القضية، وليس هذا هو العنوان الذي يطلبه التكفريون، كان في كلمة الزميلة سامية ما هو مزعج لهم ولقادتهم بشدة.

تظهر الأغبري كأحد الناشطين في الحزب الاشتراكي الرافضين لاستمرار الشراكة بين الاشتراكي والإصلاح في إطار اللقاء المشترك، خصوصاً بعد ما شهده البلد من تغيرات هامة وخطيرة في المستويات السياسية، وهي التغيرات التي كشفت عن عودة الإصلاح إلى صباه، أي إلى عهده القديم في الإقصاء وإلغاء الآخر، بل والتغني بأمجاده القديمة في التكفير، وذلك ما حضر فعلاً في تصريحات عبد الوهاب الديلمي ومحمد اليدومي القياديين في تجمع الإصلاح بشأن فتوى تكفير الحزب وأهالي الجنوب في صيف 94م، والحرب التي شُنت عليهما تحت مبرراتها، لم ترتفع أصوات كثيرة ضد هذه البجاحة، وكان صوت سامية أحد تلك الأصوات القليلة، في حين مارس غالبية الاشتراكيين في القيادة والقاعدة صمتاً انتهازياً، وكان ذلك أحد الأسباب التي جعل من الأغبري ضمن القائمة الاشتراكية التي لا يرضى عنها الإصلاحيون في القمة والقاعدة، ظهر الإصلاح من خلال أقوال اليدومي وكأنه يضع الاشتراكي أمام الأمر الواقع، الذي ليس عليهم التذمر منه، ولاحقاً تتابعت كتابات وأنشطة سامية ضد الممارسات الإصلاحية، وقبل أسبوعين وجد التكفيريون في هذا الحزب فرصة سانحة لهم لوضعها أمام حقيقة الخطر الذي ينبغي أن تشعر بالقلق إزاءه كون تصرفاتها غير مرضيٍ عنها في تنظيمهم.

الغريب والملفت للانتباه في الأمر أن تجمع الإصلاح نفسه لا يعبأ بتوضيح مواقفه من ممارسات أعضائه من القمة إلى القاعدة؛ تلك الممارسات التي تستهدف حياة الناشطين وحرية الناس وحياتهم الشخصية، وهو الأمر الذي يؤكد موافقته الضمنية على تلك الممارسات، مثلاً؛ لم يتنصل الإصلاح من تصريحات الديلمي واليدومي، كذلك الأمر بالنسبة لاستهداف سامية الأغبري، وقبل ذلك ثمة كثير من المواقف المشابهة.

 

تكفير النقاط العشرين

كتب ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني مقالاً مطولاً وبمقدمة طللية للرد على عارف الصبري عضو الكتلة البرلمانية لتجمع الإصلاح صاحب كتيب «الحوار عمار أم دمار» الذي هاجم فيه عدداً من الناشطين السياسيين والحقوقيين أعضاء اللجنة الفنية التحضيرية للحوار الوطني وبينهم ياسين نفسه إضافة إلى ماجد المذحجي وأمل الباشا ورضية المتوكل، وتضمن الكتاب مواقف تكفيرية خطيرة لهم، بسبب مواقفهم داخل اللجنة وخارجها، لم ينسَ الدكتور أنه أمين عام حزب يفترض به أن يتخذ موقفاً آخر من مثل هذه التصرفات والممارسات؛ لكنه لجأ إلى الكتابة فقط، كأنه لم يرغب في إثارة أية مواقف تربك اللقاء المشترك، أو تسبب خللاً فيه.

وكالعادة تجاهل الإصلاح موقف عضو كتلته البرلمانية، وما يمكن أن يؤدي إليه هذا التحريض الذي تضمنه الكتيب الذي ورد فيه قدح للحوار الوطني، وما تضمنته النقاط العشرون المقدمة من اللجنة إلى رئيس الجمهورية كمقدمات لا بد منها للدخول في الحوار، والتي عدَّها الصبري نقاط الحزب الاشتراكي مع تلميحات وإشارات إلى ماضي هذا الحزب الذي لا يروق له ولأقرانه، وما زالوا –كحال الديلمي مثلاً- يتعاطون معه بنفس الذهنية السابقة على حرب 94م، وذهب الصبري أبعد من ذلك في نقده لما قررته النقاط العشرين من اعتذار للجنوب وصعدة، بل إن تعاطيه مع المبادرة الخليجية أظهره كمن لا ينتمي إلى تجمع الإصلاح أحد أقطاب التسوية السياسية التي تمت بموجبها.

في السابع من الشهر الجاري أنهت محكمة الصحافة والمطبوعات إجراءات محاكمة القاضي علي علي السعيدي، وأعادت ملفه إلى النيابة العامة بعد شهرين من بدء محاكمته بتهمة الردة، والتي جعلت حياته عرضة للخطر بسبب مطالبة النيابة بإعدامه والتفريق بينه وزوجته وفصله من الوظيفة العامة.

يعمل السعيدي مديراً عاماً للموازنة والتخطيط في مجلس القضاء الأعلى، وتعود خلفية القضية إلى وجود خلافات في العمل استدعت خصومه توجيه تهمة كيدية بالرد والكفر، حيث كان زملاؤه ومرؤوسوه في العمل يعلمون بتوجهاته الفكرية منذ سنين سابقة، لكنهم استغلوا نشر أفكاره على مواقع في الإنترنت ومن خلال الفيس بوك ليتولوا رفع دعوى كيدية استمرت عامين قبل أن تنهيها المحكمة بفعل ضغط الناشطين والمجتمع المدني.

قبل عام بالتحديد كانت حملة تكفير واسعة النطاق تنال أربعة من الكتاب والناشطين على خلفية كتاباتهم في الصحافة والإنترنت، بشرى المقطري تم تكفيرها بسبب مقال لها عن مسيرة الحياة الراجلة من تعز إلى صنعاء وما تعرضت له من انتهاكات، في حين استهدف الصحفي فكري قاسم وسامي شمسان ومحسن عائض على خلفية كتاباتهم في الموقع الاجتماعي على الإنترنت «فيس بوك»، وكان مبرر تكفير الأربعة الإساءة للذات الإلهية وقيم وعادات المجتمع، لكن هذه الحملة التي شارك فيها أكثر من سبعين «عالماً» من «علماء» اليمن الدينيين، وصدرت في فتوى ممهورة بتوقيع السبعين «عالماً»؛ كانت تحمل في دوافعها مبررات أخرى سياسية تجاه المستهدفين بها، فمقال المقطري تعرض لمواقف الأحزاب والقوى الاجتماعية من مسيرة الحياة وما قامت به من انتهاكات وتنكيل ضدها، في حين كانت كتابات الثلاثة الآخرين تمضي في نفس السياق تقريباً، وكان أسوأ ما في حملة التكفير هذه؛ أنها تحولت مباشرة إلى عملية تحريض في ساحة التغيير التي نشرت الفتوى فيها، وتمَّ تعليقها على جدرانها.

 

حتى الحب لا ينجو

قبل خمسة أعوامٍ انشغل اليمنيون لمدة أسبوعين أو أكثر بفتاوى تجريم الاحتفال بعيد الحب لكلٍ من القاضي «محمد إسماعيل العمراني» والنائبين البرلمانيين «محمد ناصر الحزمي» و»هزاع المسوري»، وحينها اعتبر «مقبل الكدهي» عميد معهد التوجيه والإرشاد اليمني صدور فتوى في هذا الشأن عن القاضي «محمد بن إسماعيل العمراني» حجة قاطعة ومانعة، ورأى «يحيى النجار» وكيل وزارة الأوقاف حينها إن الاحتفال بهذا اليوم بدعة فارغة ليس من تقاليد الشعوب العربية والإسلامية، وجاء ذلك بالتزامن مع رفض التكفيريين إقامة حفل فني للمطربة السورية «أصالة نصري» في عدن في توقيت مناسبة عيد الحبِّ، وهجمة أخرى أكثر شراسة تحت قبة البرلمان ضد النائب والناشط الحقوقي «أحمد سيف حاشد» وصحيفته «المستقلة» بحجة نشر الصحيفة لتحقيقات صحفية عن مواضيع –عدَّت مجرَّمة- كالعادة السرية لدى الفتيات، وما شابه ذلك.

 

الأدب كافر باستمرار

يطال التكفير في اليمن كل شيء تقريباً، وكان للأدب والأدباء نصيب وافر منه، ففي ثمانينيات القرن الماضي تعرض الدكتور حمود العودي للتكفير والمحاكمة بسبب كتاباته الفكرية التحليلية لتاريخ اليمن الاجتماعي، واضطر حينها للهرب عبر الحدود إلى اليمن الديمقراطية الشعبية بعد استباحة دمه من قبل التكفيريين، ولم يتمكن من العودة إلا بعد قيام دولة الوحدة، وكان الشاعر عبد العزيز المقالح تعرض للتكفير بسبب العديد من قصائده وكتاباته، وتعرض الشاعر عبد الكريم الرازحي للتكفير بسبب ترجمته حكاية للأطفال.

لم يتوقف تكفير الأدباء والكتاب في ذلك الحين؛ إذ استمر لاحقاً وما يزال، فعقب مشاركته في ملتقى الشعراء العرب في ربيع 2006م تعرض الشاعر علي دهيس للتكفير بسبب القصيدة التي ألقاها في الملتقى، وتزامن ذلك مع كتابته عدداً من المقالات والتقارير الصحفية التي تنتقد التوريث الذي يمارسه رأس النظام، ونهب الأراضي والممتلكات في محافظة الحديدة، وبعدها بثلاثة أعوام تعرض الشاعر علي المقري للتكفير للمرة الثانية –بعد أن كان تمَّ تكفيره في تسعينيات القرن الماضي إثر نشره بحثاً عن الخمر والنبيذ في الإسلام- وجاء تكفيره الثاني من على منبر خطبة الجمعة وعلى لسان ناصر الشيباني وزير الأوقاف الأسبق.

 

تكفير وسلب هوية

ونشط التكفير في تلك الفترة التي شهدت مدّا لقوى التكفير والجماعات السلفية بمقابل المد اليساري الذي شهدته البلاد بدعم وتأييد من الحكم الاشتراكي في جنوب البلاد، وفيما بدأ المد اليساري بالانحسار لأسباب كثيرة منها انهيار المعسكر الاشتراكي، ودخول دولة الجنوب الاشتراكي في وحدة اندماجية مع دولة الشمال ذات الهويات العصبية والدينية المتعددة؛ تنامى دور الجماعات التكفيرية خصوصاً مع الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد عقب الوحدة بفترة وجيزة، وأدى تصاعدها إلى نشوب الحرب التي قادها حكام صنعاء وجنرالاتها ومشائخها وشيوخها ضد الحزب الاشتراكي وكافة القوى التقدمية، وما تبقى من دولة الجنوب، وكانت فتاوى التكفير والتحريض الديني ضد الاشتراكي والجنوب بصفة عامة هي وقود تلك الحرب التي انتهت باجتياح الجنوب وتحويله إلى تابع للمركز وقواه التقليدية التي سلبت الجنوبيين كل شيء تقريباً، ابتداءً بالأراضي والجمعيات التعاونية والمشاريع الاقتصادية والثروات الطبيعية في البر والبحر، وليس انتهاءً بالهوية.

في أحد صباحات صيف العام 2009م خرج عدد كبير سكان من مدينة كريتر في محافظة عدن حاملين الفؤوس والمطارق، وجلبوا معهم جرافة لهدم مجسم كبير لمبخرة كبيرة نصبت في وسط المدينة كرمز لأحد أهم معالم هوية المدينة كانت السلطات قامت بإنشائه من أجل امتصاص بعض من الغضب الجنوبي المتصاعد ضد ما يسمونه بـ»الاحتلال الشمالي»، وكان مبرر غضب سكان كريتر أن السلطات تتعامل معهم باستخفاف، فهي تبني مجسمات ترمز إلى القوة والشدة والعنف في صنعاء، لكنها تبني مجسمات تشير إلى عادات النساء واهتماماتهن في عدن. كان هذا مؤشرا أن من اجتاحوا الجنوب نجحوا في اجتثاث هويته وثقافته، وإن كان هذا الجنوب يرفض وجودهم.

أسفر اجتياح الجنوب عن مصائر كارثية عانت منها اليمن برمتها، بيد أن تلك التداعيات ظهرت جلية وواضحة أكثر على هوية مدينة عدن وتاريخها المدني، وأمعنت السلطات في سلب المدينة الكثير من ملامح هويتها، وتدريجياً بدأت النساء في المدينة يتخلين عن حريتهن الشخصية التي اكتسبنها خلال العقود الماضية إبان الاحتلال البريطاني وحكم الحزب الاشتراكي قبل حرب 94م لصالح الرجل، وانتشرت الأزياء التي لم تكن منتشرة إلا في المحافظات الشمالية حتى وصل الأمر إلى النقاب، وفي نفس الوقت اتجهت السلطات إلى منع الاختلاط في المدارس، وإلزام المواطنين والنساء خصوصاً بثقافة وافدة، وفرضت جماعات ومليشيات مؤدلجة على الجميع التزام الكثير من العادات القادمة من الشمال.

رفض المتشددون الدينيون في حزب الإصلاح والقوى الحليفة أو الرديفة له الوحدة مع الجنوب باعتباره «ماركسياً كافراً»، ثمَّ انتقلوا إلى خطة بديلة تعاونوا فيها مع أركان المركز الحاكم للبلد في صنعاء باستهداف الاشتراكي وكوادره بالاغتيالات الممنهجة والتي أسفرت عن مقتل مئات الاشتراكيين، وقبل ذلك كانوا وقفوا ضد دستور دولة الوحدة باعتباره دستوراً علمانياً غير أنهم أخفقوا في ذلك.

وبرغم أن عقدين من الزمان يوشكان أن ينقضيا منذ حرب 94، إلا أن تداعياتها وتداعيات الفتوى التي كانت مبرراً لها ما تزال قائمة، ولعلَّ في اغتيال جار الله عمر قبل عشرة أعوام وعودة سلاح التكفير حالياً بعض الإشارات والدلالات على أن تداعيات تلك الفتوى التي أنجزها عبد الوهاب الديلمي وسانده عبد المجيد الزنداني وغيرهما ما تزال قائمة إلى اليوم، فاغتيال جار الله جاء وفقاً لفتوى أخرى مهدت الطريق لها إحدى الصحف المحسوبة على النظام الحاكم، وتمَّ الاغتيال في قاعة انعقاد المؤتمر العام لتجمع الإصلاح، ومنذ ذلك الحين ما تزال حادثة الاغتيال مشوبة بالكثير من الغموض، ولم يُفصح عن الواقفين وراءها، وشارك تجمع الإصلاح في خلق ذلك الغموض، مع وجود دلالات وإشارات كثيرة إلى تورط عدد من قياداته في الأمر تحريضاً أو تدبيراً.

وطال التكفير حتى الصحفيين، وكانت أشهر قضية استهداف تعرض لها صحفي ما تعرض له سمير اليوسفي في العام 2000م إثر إعادة نشر صحيفة الثقافية التي كان يرأس تحريرها رواية «صنعاء مدينة مفتوحة» للروائي الراحل حمد عبد الولي، والتي رأى التكفيريون أنها تتعدى على الذات الإلهية، وحصل عدد كبير من الصحفيين على نصيبهم من التكفير لاحقاً ولأسباب مختلفة.

ونالت الصحفية والأكاديمية الراحلة رؤوفة حسن حظاً من الهجمات التكفيرية، وكانت أكثر النساء اليمنيات تعرضاً للتكفير خصوصاً بعد تنظيم مركز الدراسات النسوية الذي كانت ترأسه مؤتمراً حول الجندر أواخر القرن الماضي، وأثيرت ضجة كبيرة حول هذا المؤتمر وتم تكفير المركز ورئيسته واستهدافهما بشكل واسع في حملة بدا واضحاً أنها لم تكن تنتصر للدين بقدر ما تنتصر لمراكز قوى نافذة، وهو ما كان غالباً الدافع الأهم في غالبية حملات التكفير.

لا تتوفر إحصائيات أو دراسات توثيقية لهذا الأمر، غير أن التكفير أصبح جزء من حياة اليمنيين، ويتجه لأن يتعاظم دوره في حسم الصراعات أو تأجيجها مع دخول اليمن مرحلة جديدة يبدو فيها النزاع المذهبي في أفضل حالاته، وعلى وشك أن يصبح عنوان مستقبل اليمن، وهو الأمر الذي يتطلب وقوفاً جاداً أمامه.

زر الذهاب إلى الأعلى