تحليلات

المدن والمعسكرات في اليمن الحلقة (2،1).. الدكتور حسن علي مجلي

يمنات – الأولى

نبذة تاريخية

رغم أن اليمن قبل قرابة 2500عام كانت تحكمه دول محاور تجارية "ترانزيت" (مأرب, شبوة, تمنة … الخ), وسلطات عسكرية توسعية كالدولة السبئية التي كانت في حالة حروب دائمة مع الجيران بقصد الغزو والتوسع أو الدفاع؛ بجيوشها على مدنها ولم تقم بمحاصرتها كما هو حال اليمن الآن.

ويتضح ذلك من خلال النبذة التاريخية التالية عن بعض جوانب الحياة العسكرية للدولة القديمة التي اخترناها نموذجاً.

المعسكرات في اليمن القديم

تعرف المعسكرات في النقوش اليمنية (مملكة سبأ) من خلال كلمة "حير", وقد ذكرت في عدد من النقوش العسكرية, ويبدو أن هناك تنوعاً في هذه المعسكرات التي يُقصد بها: مواقع تجمع الجند؛ فهناك مناطق  للحشد, ومواقع للحراسة والمراقبة والمرابطة.

ويبدو أن الظروف العسكرية قد اقتضت هذا التنوع, فحشد الجند مطلب تفرضه ظروف المعركة, حيث تحدد منطقة لتجمع المقاتلين, وتكون في الوقت ذاته مؤخرة يعودون إليها بعد انتهاء المهمة أو عند الانسحاب من معركة, أو الاستعداد لجولة ثانية.

أما أمور الحراسة والمرابطة والمراقبة, فإن المواقع المهمة للدولة وحدودها تحتم وضع الحراسات في المراكز المتقدمة خارج المدن وعلى أطراف الحدود. وتعرف الكلمة التي تدل على الحدود من كلمة "وثن" (1)في النقوش, أما كلمتا "نظر" و"قرن" فتعنيان المراقبة والحراسة.

وقد تفرد نقش (Ja576)بعدد كبير من المصطلحات العسكرية, منها كلمة "حير" والتي تعني معسكراً, أي "منطقة الحشد", وهي منطقة متقدمة (معسكر مؤقت) خارج المدن وليس داخلها, وتتحرك منه القوات إلى تلك المنطقة لتكون قريبة من العمليات العسكرية, ولضمان العودة إليها كموقع آمن يتم فيه ترتيب الصفوف والتهيئة والاستعداد.

الحراسة

كانت الحراسة العسكرية, كما يتضح من خلال النقوش (Ja658)و(Ja662)و(Ja576)و(E 32), يتم وضعها حول المدن الرئيسية فترابط لصد هجمات الأعداء الخارجين والقبائل, وعلى سبيل المثال ففي النقش (جام 658) تقدم قائدان عسكريان بصنم للإله الوثني "المقه" حمداً له على أنه وفقهم في كل غزوة غزوها إلى جانب سيدهما "شمر يهرعش" ملك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت", ضد "خولان الددان" وقد أمرهما سيدهما بترتيب حراسة حول مدينة صعدة وليس داخلها وذلك ليأمن جانب عشائر "خولان الددان" بعد حرب قاموا بها ضد الملك, ويوضح النقش أن الملك اتجه في ذات الوقت في مهمة حربية ضد عشائر أو قبائل "سنحان".(2)

الحصار

يعرف الحصار في النقوش بكلمة "صور" النقوش (Ja578)و(Ja629)و(E 32).

والحصار عملية حربية تهدف إلى إحاطة مدينة أو قلعة معادية بقوات عسكرية ومحاصرتها, حيث يعمد المُحاصرون إلى التمركز حول المدينة وعلى جبالها أو تلالها أو القلعة القائمة عليها بهدف إرغام المحَاصَرين على الاستسلام.

 ويتضح من النقوش أن الحصار كان أسلوباً من أساليب القتال المستخدمة من قبل الجيش اليمني القديم ضد الأعداء وليس ضد الشعب والمواطنين في الداخل كما هو الحال في العاصمة (صنعاء) والمدن اليمنية الرئيسية الأخرى (عدن, تعز, الحديدة, المكلا, صعدة …الخ).

التحصين

أهتم السبئيون (منذ قربة 2500عام) بالتحصين, فأقاموا الأسوار والأبراج والقلاع والحصون حول المدن وعلى أبوابها, ولكن جيوشهم كانت ترابط خارج المدن وعلى الحدود ولا تجثم عليها وتحتلها كما هو شأن المعسكرات في العاصمة (صنعاء) وغيرها من المدن اليمنية في وقتنا الراهن.

وقد ظهر الاهتمام بالتحصين وتسوير المدن منذ القرن السابع قبل الميلاد من خلال نقش "النصر" الذي ذكر فيه تسوير مدينة "نَشَق". ولكن لم يصل الأمر باليمنيين القدامى, كما هو الجاري الآن في اليمن, إلى الحد الذي يحتلون فيه المدن بمعسكراتهم أو يطبقوا عليها من جميع الجهات ويصوبون إليها مدافعهم وكأنها دولة محاربة ومحاطة بالأعداء من كل جانب.

الإقطاع العسكري

يتبين من النقش (Ja550)حجم ملكية أحد قادة العسكر الذي صار كاهناً وقد وفق في عقد صلح بين "قتبان" و"سبأ", ويتضح من النقش المذكور أن القائد العسكري أعطى تلك الأملاك (أراضي, بساتين, عبيد) "المقه" قرباناً للإله الوثني, لأنه من عليه بالتوفيق في جميع مهامه.

والثابت, تاريخياً, انه قد وجد في اليمن نوعان من الإقطاع في عهد دولة "بني رسول", إقطاع مدني, وإقطاع عسكري, ويشمل النوع الأولى الأراضي المقتطعة للملتزمين الذين كانت أراضيهم تعود إلى الدولة في حالة مصادرتها لها, أو عندما يعجزون عن الوفاء بالتزاماتهم إزاء حقوق الدولة.

أما الإقطاع العسكري فكان يمنح للقواد وغيرهم من الجنود بدلاً من المرتبات بالإضافة إليها أحياناً, وخاصة في أحوال الجفاف وانقطاع الأمطار أو الأوقات التي كانت تقل فيها إيرادات الدولة بسبب اضطراب الأحوال السياسية, والتمردات القبلية المحلية, أو تمرد وعصيان جنود الدولة ومطالبتهم بمزيد من المكافآت والرواتب. مما كان يؤدي إلى قلة الموارد للدولة وضعف اقتصادها(3).

وكان الإقطاعات من أراضي وغيرها يعطيها سلاطين "بني رسول", على سبيل المثال, كما هو الحال الآن, إلى المقربين إليهم من أفراد الأسرة الرسولية الحاكمة أو كبار قادة الجند والموظفين وغيرهم بمثابة رواتب وفي الوقت ذاته كان يوجد ذلك النوع من الإقطاعات التي كان يمنحها هؤلاء السلاطين لبعض الأعيان مقابل مبلغ من المال يتعهدون بدفعه سنوياً, ومن أسباب ذلك أن معظم الدويلات التي قامت في اليمن لم تكن يمنية فكان الحكام يهمهم جباية الأموال فقط واستنزاف اليمن إلى أقصى حد ممكن(4).

وفي مرحلة الاحتلال التركي لليمن جثم الأتراك بمعسكراتهم على المدن اليمنية الرئيسية وخاصة صنعاء, والتي مازال فيها العديد من الشواهد على أن الأتراك تركوا عقلية الحكم ذلك أن الحكام وطرائقه ضمن الآثار السيئة التي خلفوها, ومن ذلك أن الحكام العسكريين الذين حكموا اليمن بعدهم ما زالوا يتخذون من وسط المدن وقمم الجبال والتلال والهضاب التي تحيط بها أو تتخللها مواقع عسكرية يحكمون قبضتهم على الشعب الخانع لحكمهم.

وقد شهد أيضاً عهد الاحتلال العثماني (التركي) لليمن توزيع الإقطاعات العسكرية من الأراضي وغيرها لعدد كبير من قواد الأتراك وأنصارهم وعملائهم من مشائخ القبائل اليمنيين والموالين لهم وغيرهم.

ولأن الأتراك الغزاة لم يجدوا موضعاً مناسباً لمعسكراتهم داخل مدينة صنعاء القديمة بسبب ضيق المساحات فيها فقد أقاموا المعسكرات ملاصقة لها كما قاموا باحتلال "قصر غمدان" عسكرياً وهو يقع في قلب مدينة صنعاء القديمة ويشرف عليها(5).

ومن الكوارث المرتبطة باحتلال المعسكرات للمدن إبان الاحتلال التركي أنه في العقد الأول من القرن الـ 20عم الجوع (صنعاء) المحتلة والمحاصرة بالمعسكرات من كل جهة, وتصاعدت أثمان المواد الاستهلاكية فارتفع ثمن قطعة اللحم في السوق إلى 400ريال (ماريا تريزا) والقدح القمح إلى 600ريال, وأصدر الوالي التركي أمراً بمصادرة ما لدى السكان من مواد غذائية لصالح معسكرات الجيش التركي. ولكن هذا الأجراء لم ينقذ الموقف, بل زاده تعقيداً وتفاقماً.

وأصبح مألوفاً التهام الجنود الترك لخيولهم العسكرية ولبغالهم وللكلاب والقطط, حتى لقد امتد ذلك أكل سكان المعسكرات الترك لليمنيين بعد اصطيادهم من الطرقات وخاصة الأطفال والنساء. والى هذه الفترة تعود تلك الحالات النادرة لأكل لحوم البشر في المدينة. وقد هلك, نتيجة للحصار العسكري التركي والجوع وأكل البشر, وحتى نهاية الحصار, نصف سكان مدينة صنعاء تقريباً.

وخروجاً من هذا الوضع العصيب قررت القيادة التركية توقيع صك الاستسلام. وباحتفال مهيب دخل الإمام يحيى المدينة (صنعاء) في 31مارس 1905.

 

وحقيقة المعسكرات الآن أنها تعدو أن تكون كما كانت خلال حكم الدويلات الغازية والإقطاعية وحكم  المماليك لليمن ثم الاحتلال التركي, "إقطاعات عسكرية وقبلية", وكل إقطاعية عسكرية لها نظامها الاستبدادي الخاص وميزانيتها وقضاؤها ونيابتها وسجونها وساحات الإعدام الخاصة بها وسماسرتها بل و"بلاطجتها"… الخ(6).

والثابت هو أن سيادة الإقطاع العسكري في اليمن على أيدي العناصر البدوية والقبلية قد أعاق نمو المجتمع ومَيع الصراع الطبقي في آلياته وفعالياته, كذا في مظاهرة وتجلياته.

وعبر التاريخ فإن النظم الإقطاعية العسكرية كانت تدعم وما تزال- رغم إفلاسها السياسي- بموارد مالية دائمة, وعلى الأخص تلك التي تحصل عليها من الميزانية العامة والإتاوات المفروضة على المستثمرين الأجانب والمحليين من خلال اقتصادها النهبي في الداخل, فضلاً عن مواد التجارة المتنوعة نتيجة التداخل بين الوظيفة العامة والأعمال التجارية.

وهو أمر ساعد على تدجيجها المستمر بالجند والسلاح وكافة الإمكانيات اللازمة لكي تستمر قائمة وقادرة على مواجهة الحركات المضادة.

وعلى ذلك فقد كمن الخطر الحقيقي عليها في الصراعات داخل القوى القبلية العسكرية الحاكمة ذاتها. وقد شاركت فيها سائر شرائحها, وهو ما أدى إلى إضعافها وسقوط بعض منها كما لاحظنا في الانتفاضات عامي 2011و2012.

وقد صاحب الصراع بين هذه النظم العسكرية القبلية, أو بين شرائحها دجل مذهبي ودعاوى دينية, زائفة ودعايات عنصرية مغرضة, مما ساعد على تضبيب الجانب الاقتصادي- الاجتماعي الذي ظل, وما زال, مع ذلك حجر الزاوية في الصراع.

ومن المؤسف أن الطبقة الوسطى, وعلى الأخص كبار التجار الفاسدين, شكلت رصيداً احتياطياً لهذه النظم, في الغالب الأعم, نتيجة ارتباط المصالح, فتخلت بذلك الطبقة الوسطى عن مسؤوليتها التاريخية في قيادة القوى الكادحة مادياً وفكرياً لتقويض السلطة العسكرية القبلية الإقطاعية الكومبرادورية(7) .

وفي الحالات التي اصطدمت فيها هذه المصالح- وهي جد نادرة- فقد قادت البرجوازية المدجنة حركات هزيلة ضد السلطة وتبنت أيديولوجيات مذهبية متطرفة- أحياناً- لدعم طموحها المغامرة التي باءت بالفشل, كما أثرت سلبياً على حركات الجماهير والعوام, فحولت نضالها عن مساره الحقيقي إلى مسارات أخرى فرعية وهامشية طائفية ومناطقية ومذهبية… الخ (8).

وقد تنبه إلى ذلك, منذ زمن بعيد, المفكر اليساري المعروف الأستاذ عبدالله باذيب, فأكد أن أصحاب الامتيازات الطبقية والطامحين إلى السلطة استمروا يغذون الطائفية (المذهبية: زيدي, شافعي, سني, شيعي…الخ), ويتشبثون بها حفاظاً على امتيازاتهم تحقيقاً لمطامحهم الخاصة, ويعملون على حجب الصراع الطبقي وتسكينه وإخفائه تحت ستار الصراع الطائفي (المذهبي).

إن كل أصحاب الامتيازات الطبقية (مشائخ القبائل وقواد العسكر والتجار الكبار المحتكرون لأقوات الشعب) والأسر الإقطاعية يتكونون من أناس ينتمون إلى مختلف الطوائف وليس إلى طائفة واحدة بذاتها (9).

إن الذين يلجؤون اليوم إلى تحريك الطائفية والمذهبية والمناطقية وإثارتها واستغلالها أسوأ استغلال يساعدهم في ذلك المسلك الطائفي لبعض الأشخاص من أصحاب الطوائف (المذاهب) المختلفة, إنما يفعلون ذلك لتحقيق رغباتهم الأنانية الخاصة في التحكم والتسلط والاستغلال.

مؤكداً أن الجذور الاقتصادية والاجتماعية الطائفية تكمن في صلب الهيكل الاقتصادي والاجتماعي, ولذلك فإنه لا يمكن القضاء عليها إلا بإجراء تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة في بنية المجتمع اليمني (10).

المدينة الجميلة

يمكن تعريف المدينة بأنها: تجمع سكاني حَضَرِي يقوم فيه المدنيون بأعمالهم ومهنهم المختلفة ويتبادلون فيها مختلف المنافع, تحكمهم, كقاعدة عامة, النصوص القانونية النافذة والأعراف المدنية الحميدة والأخلاق الفاضلة, ويسود حياتهم شعار "القانون يخلق الحق ويحميه".

وصنعاء كانت تعتبر من أجمل مدن العالم وأكثرها مدنية, من حيث موقعها وطبيعتها ونوع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة فيها, وطباع أهلها قبل احتلال العسكر والقبائل المسلحة لها منذ انقلاب 26سبتمبر 1962.

وقبل قرابة ألف عام من تاريخ اليوم, وفي أحد أهم المؤلفات التاريخية عن مدينة صنعاء, قيل أنها إحدى المدن المحفوظة بقدرة الله سبحانه وتعالي, وفي معرض بيان ومدى تعارضه مع الآية القرآنية الكريمة (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً) "سورة الإسراء, 58/17", قال وهب بن منبه: "قد عذبت بالحبشي (الغزو الحبشي) إحدى وسبعين سنة".

ونحن نضيف إلى أسباب العفو عنها من العذاب والهلاك المذكورين في الآية الكريمة, لأن صنعاء في العصر الحديث قد عذبت في بطغيان الحكم العسكري القبلي وأعوانه ما يكفي, أيضاً لشمولها بالعفو الإلهي الكريم!

كذلك ذكر الرازي أن صنعاء إحدى جنات الأرض عند كافة الناس (ص226) (11).

وبصنعاء صدح الشعراء بأجمل الأغاني وأروع الأشعار, ومن الأغاني الشهيرة في هذا الوادي أغنية:

يقرّب الله لي بالعافية والسلامة

                                   وصل الحبيب الأغَنْ

ذاك الحبيب الذي حاز الحلا والوسامة

                                   وكل معنى حسنْ

ثم يعبر الشاعر عن حنينه إلى مدينة صنعاء والتي كانت تسمى قديماً "آزال":

يا ليت شِعري متى الأيام تسمح برجعة

                                      إلى مدينة "آزال"

ونستعيد ما مضى يا سيد أفديك جمعة

                                     نطوي بِساط المِطَال

وأخيراً يصف الشاعر بعض مظاهر جمال صنعاء:

ما مثل صنعاء اليمن

                                 كلا ولا أهلها

صنعاء حوت كل فن

                                ثلاث في ربعها

الماء وخضرة رباها الفائقة بالوسامة

                                وكل وجه حسن

كم يضحك الزهر فيها من دموع الغمامة

                              فيا سقاها وطن (12)

 

المشهد المعاصر

عند مشاهدة الصواريخ والمدافع والرشاشات الثقيلة المصوبة نحو المدينة (العاصمة صنعاء) من كل اتجاه في الجبال والهضاب ومن قمم المرتفعات الموجودة داخل المعسكرات, ومن المساحات المحيطة بدار الرئاسة, وغيرها كذا انتشار المجاميع القبلية المسلحة في أحياء المدينة وشوارعها ومنازلها.. الخ, يشعر الإنسان وكأن السلطة العسكرية القبلية الحاكمة, وأعوانها من النخبة الانتهازية, في حالة حرب دائمة تشنها على السكان المدنيين, أو تستعد لها وكأنها واقعة لا محالة. وكما كان المحتلون الأجانب يحاصرون المدن لإرغامها على الاستسلام؛ فإن المحتلين المحليين للمدن يحاصرونها أيضاً عسكرياً وقبلياً وذلك لضمان استمرار استسلامها لهم والخضوع لطغيانهم وديمومة احتلالهم لها, وقد بلغ الأمر درجة من الخطورة بحيث نادى البعض بإخراج المدن من المعسكرات وليس العكس (13)؟!

يقرر الفيلسوف الانجليزي "هوبز" منذ قرابة أربعة قرون, بصدد الحكم الاستبدادي المتخلف, وهو ذاته (العسكري- القبلي) المتسربل بالأيديولوجية الدينية الكهنوتية, أن كل فرد يواجه في الآخر منافساً وعدواً له, والكل في حالة حرب مع الكل(14).

والقانون السائد في هذه الحالة هو قانون القوة الحيلة. القوة المحض هي التي تحكم علاقات الأفراد بعضهم ببعض, والحق- إذا جاز لنا نستخدم هذه الكلمة- هو حق الأقوى. القوى بإمكانياته المادية أو القوى بمكره ودهائه وحيلته وخداعه.

ثم يضيف الفيلسوف المذكور:

 "وواضح أن الاحتكام إلى القوة المجرد, من كل معيار أخلاقي أو قانوني تمنع كل سلام وتهدم كل استقرار. إنها حالة حرب, الكل في حرب مع الكل.إنها حرب تزرع الخوف, وتجتث كل استقرار, وتعصف بكل أمن, وتحول بين الناس وبين (إشباع رغباتهم الطبيعية) هي حرب " تمنع كل زراعة,كل صناعة, وكل ملاحة, وكل أدب, وكل فن, وكل مجتمع: إن ما يسود في هذه الحالة, وهذا هو الأسوأ في كل شيء, هو الخوف والخطر الدائم بحدوث موت عنيف. ولهذا فإن حياة الإنسان تتميز بالعزلة والكد والتعب, وتكون شبه حيوانية وقصيرة"(15).

ويؤكد عدد من الباحثين انه خلال العقود الأربعة الماضية, شكل الجيش ورديفه الأمني في اليمن (الأمن المركزي) المؤسسة الأساسية للحكم بالاشتراك مع مشائخ القبائل ومعسكراتهم ومجامعيهم المسلحة.

والثابت أنه في البلدان, التي تهتف القوات العسكرية بأسماء حكامها, ظهر توجه حديث لتحويل الأنظمة السياسية إلى أنظمة مدنية, أو مجردة من الطابع العسكري.

فبدأ تأثير ونفوذ الجيوش- كقوات عسكرية- بالتراجع, بينما في اليمن فإن مفصل السلطة الرئيسي لا زال في يد الجيش بقيادة بعض مراكز القوى (العسكرية والقبلية والعشائرية والعائلية(16), كما أن السيطرة على أجهزة الدولة الإدارية لا زالت أسيرة عُصْبة من أفراد العائلة الواحدة أو القبيلة أو العشيرة والبيروقراطيين الكبار والنخب السياسية وأصحاب المحسوبية الاقتصادية وغيرهم من المسؤولين الكبار المرتبطين بمراكز القوى العسكرية والقبلية.

حيث تكمن عملية الحكم اليومي المستبد في سيطرة السلطة المستبدة على المجتمع, أي قدرتها على تطويق العمليات الاجتماعية المختلفة بطوق سيطرة قواتها العسكرية وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية, بل والمجاميع القبلية المسلحة في بعض الأحيان(17).

هوامش

(1)المعجم السبئي ص 166, ومازالت كلمة "وثن" مستعملة في اليمن حتى اليوم لبيان الحدود بين الأراضي في بعض المناطق اليمنية.

(2) نبيل السروري: الحياة العسكرية في دولة سبأ- دراسة من خلال نقوش محرم بلقيس, سلسلة إصدارات جامعة صنعاء رقم 6, 2004(رسالة ماجستير)

(3) الخزرجي: العقود اللؤلئية,جـ1, ص208-187. وكذلك: السمط الغالي الثمين.

(4) الخزرجي: العقود اللؤلئية, م. س, ص 208-187.

(5) ويؤكد أحد المثقفين اليمنيين أنه آن الآوان ليدرك  الحاكم- أياً كان- أن المعسكرات لم تعد أداة حكم صالحة, بل  لم تكن صالحة في يوم من الأيام, ورغم ذلك تظل تلك عقلية الحاكم المستبد أيا كان مستواه في الحكم, أو أياً كان مستوى استبداده, إلا في وقت متأخر جداً (عبد الملك شمسان, صحيفة "الأهالي", تاريخ 26أكتوبر 2012).ٍ

(6)راجع نموذجاً لشكوى المواطنين من المعسكرات: صحيفة "الشارع" العدد المؤرخ 2013/1/8.

(7)قارن: د. محمود إسماعيل: سوسيولوجيا الفكر الإسلامي, الجزء الثالث: طور الانهيار, القسم الأول: الخلفية السوسيو- تاريخية, الطبعة الأولى,1992, ص151, الناشر : سينا للنشر, جمهورية مصر العربية.

(8)راجع في تفصيل ذلك: أحمد جابر عفيف: البيضاني يرد على البيضاني, وملحق به عدد كبير من الوثائق الدالة على صحة ما ورد فيه.

(9)الأستاذ عبدالله باذيب: الطائفية وليدة الإمامة وسلاح الاستعمار, صحيفة "الأمل", العدد الأول, الأحد 6يونيو 1965, 6صفر 1385هـ.

(10)باذيب, م. س.

(11)طالع إن شئت في ما يخص أهمية صنعاء التاريخية وطبيعتها وصفاتها المدنية: "تاريخ مدينة صنعاء "للرازي" أحمد بن عبدالله بن محمد الرازي, تحقيق: د.حسين عبدالله العمري, دار الفكر, دمشق, سوريا, الطبعة الثالثة, 1989.

(12)د. محمد عبده غانم: شعر الغناء الصنعاني,1974, دار الكتاب العربي, بيروت.

(13)راجع أيضاً في عظمة صنعاء كمدينة حضارية وذلك قبل استباحة مدينتها بعسكرتها وقبيلتها منذ عام 1962: "وصف صنعاء" مقتطفات من كتاب "المنشورات الجلية " تأليف: علي بن عبدالله المؤيد (1176هـ), تحقيق: الأستاذ عبدالله الحِبشي, ط1, 1993, منشورات المركز الفرنسي للدراسات اليمنية, تقديم: فرانك ميرمييه بالفرنسية, وبالعربية: إبراهيم السامرائي.

وقد هال المقدم العربي ما جرى لصنعاء, فكتب: "إن النفوس لتبكي والعقول لتضيع في حُمأة هذا الوافد".

واقرأ إن شئت الوصف الدقيق والممتع لمدينة صنعاء وأهلها وبساتينها وفواكهها ومساجدها وهواءها ودورها وطعامها والعلاقات الحضارية بين سكانها ولياليها بالذات في شهر رمضان الكريم وحماماتها, في كتاب لبن رسته الشهير: "الأعلاق النفيسة".

كذلك في ذات الغرض: كتاب ومعجم "البلدان" لـ "أبو الفدا" و:تاريخ اليمن" لنجم الدين عمارة, و"معجم البلدان" لياقوت الحموي, و"مسالك الأنصار" لابن فضل الله العمري, و"تحفه النظار" لابن بطوطة … الخ.

(14)أورد احد المثقفين الحزبيين المخضرمين في معرض حديثه عن المعسكرات في المدن اليمنية عبارات ذات دلالة هامة كقوله:

"لا تزال هناك صواريخ موجودة في أماكن محددة وجاهزة للانطلاق لتصبح (صنعاء) رماداً؟!".

وأن الهدف من إخلاء المعسكرات من المخدن هو: "أن تكون المدن آمنة", ولا يمكن ان تكون كذلك" هناك دبابات ومدرعات وصواريخ في وسطها".

د. قاسم سلام, صحيفة "الحوار", تاريخ 2013/3/3.

(15)إن منظر اليمنيين وهم يحملون الأسلحة الآلية والمسدسات والجنابي (الخناجر) ويسير الواحد منهم وكأنه قلعة حربية صغيرة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك مدى حالة حرب الواحد مع الآخر والكل مع الكل التي تحدث عنها الفيلسوف "هوبز".

(16)من كتاب: (عناصر القانون السياسي والطبيعي),1640.

(17)وقد أعلن رئيس الجمهورية الراهن المشير عبد ربه منصور, ذلك, فأكد انه لا يوجد جيش وطني في اليمن وإنما "مليشيات مسلحة", وهو وصف سياسي لـ "مراكز القوى العسكرية والقبلية". (صحيفة "الأولى", العدد 594, وتاريخ 2012/12/18, الصفحتان الأولى والرابعة.

– قارن: مجلة "مدارات", (يمنية), دورية تصدر كل شهرين عن مركز سبأ للدراسات الإستراتيجية, السنة الثانية, العددان العاشر والحادي عشر, يوليو/ أكتوبر 2011, الكاتب: فيليب دروز- فيتسانت- أستاذ مساعد في مادة العلوم السياسية بجامعة تولوز 14, ويدرس في معهد الدراسات السياسية ف باريس.

زر الذهاب إلى الأعلى