أدب وفن

عندما تستيقظ صبايا الريف على زقزقة عصافير الغبش

المستقلة خاص ليمنات

 على خدود الزهر يطبع السحر قبلات الندى الناعمة وعلى صدور المروج الخضر ينقش الطل سطور عشقه الشفاف وبلحن البلابل يراقص نسيم الصباح غصون البان على إيقاع الشقشقة والتغاريد..

في مستهل مهرجان الغبش تستيقظ الوديان الهاجعة من سبات أحلامها وتغسل شواهق الجبال وجوه أنكابها بغمام البكور.. يبتسم الأفق الرحب فاتحاً ذراعيه لاحتضان الفجر الوليد فيزهر الشدو وتنداح مواويل الطيور والبشر على امتداد الضوء والمدى وزرقة السماء زخات عطر وخرير جداول موسيقى تنساب في وجدان الزمن الظامئ والتواق لألق إشراقة وترنيمة فجر جديد..

ومعلوم في منطلق مسرحية الغباشيش أن تستوقفنا الأطياف والصور والمشاهد المبللة بالندى والمضمخة بأريج الكاذي والأزاب والرياحين لتطوف بأرواحنا فضاءات العشق الممتدة على مساحة إرتماء الشوق والحنين وتوقظ في ذاكرتنا بلابل الوجد النائمة وتنبت ريش أجنحتها لتغادر أعشاش الأسى والنسيان..

صفوان القباطي- [email protected]

أولى المشاهد في مسرحية الغبش يرسم ملامح سحرها سفير الأشجان المتجول في عالم الحب والعواطف الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان الذي جمعته صدفة اللقاء العابر بفاتنة من بنات الريف ذات صباح وهي في طريقها إلى الحقول فألهبت في صدره جحيم الغرام وتركته يغالب عواصف الوله والإفتتان ويذري شجون عمره الهائم وهو يصف لنا ما يعتمل في خلجاته من لواعج الوجد والإلتياع.

بكر غبش بالطل والرشاشي..

بكَّر بكور قبل الطيور ماشي

حالي وسط ململم الحواشي..

أخضر من الله لا مطر ولا شي

على المراعي تحت ظل الاشجار..

فوق المروج الخضر بين الازهار

عند المراعي في ضفاف الانهار..

ربا الهوى وشب في دمه نار

بكَّر غبش ساني القوام أهيف..

لا طارح الخنة ولا مشرشف

يسبي القلوب بنظرته ويخطف..

ساجي الرنا قلبي عليه رفرف

بكَّر وعاد الطير وسط الاعشاش..

والفجر طالع بالشعاع رشاش

يمشي بخفة للنهود رعاش..

من خطوته فوق التراب أنقاش

بكَّر وطل الصبح ملء خده..

وفرحة الأحلام فوق نهده

والحقل يفتش له طري ورده..

وانا وروحي والفؤاد بعده

وفي مبسم الفجر يعود الفضول العاشق المستهام ثانية ليسكب ضوءه وعطره وابتسامات عشقه مطلقاً نبضات قلبه وأشواقه وضمَّات عناقه الدافئة عبير ذبذبات غرام جارف عبر الأثير لينبري معها الفجر شاهداً بتفرد شاعرنا في طبعه الضوئي الشفاف وسمو روحه العاشقة لسر معاني الجمال..

في مبسم الفجر مبلول النسيماتِ..

سكبت ضوئي وعطري وابتساماتي

ونبض قلبي وأشواقي وضماتي..

يعانقنك ويعطنك سلاماتي

من مثلنا حب كم أشواق كم حب..

كم يا ناس حبوا ولكن حبنا ثاني

كأنما ذاب كل الماس في حب قلبينا..

فأرواك من ضوءه وأرواني

شفرش لك الورد تحت الفجر وافرش..

بأزراره أماكن بها حضنك تلقاني

واجمع لك الضوء من عيني يراعي لأطيافك..

إذا النوم بعض الحين أغواني

مشهد آخر يتكرر على طريق مورد الماء في وادي العبول بالمقاطرة.. وصدفة سعيدة تسوق ميتم صباحه الشاعر عبدالرب مقطري إلى (المدرج) حيث كان ساجي العيون يحمل الجرة لجلب الماء من الغيل وهناك كان الموقف المشهود..

ساجي العيون بكَّر مخف عطشان..

متحمل الجرة يردد الدان

نازل عبول يطفي لهيب الاشجان..

والشمس مشرق فوق كل الاركان

باهي الجبين قابلني في المدرَّج..

النهد يرقص في خطاه ويرتج

والوجه من لمس النسيم تضرَّج..

ولؤلؤات الطل فوق الاوجان

ما ألطفه لما وقف لي أجزع..

وقال صباح الخير والسن يلمع

لا به غنج لا لا ولا مدلع..

حسنه بديع وللقلوب فتان

وهذا الاستاذ راشد محمد ثابت عند زيارته للقرية في العام 1989 أثناء الترتيبات للوحدة وبالتحديد في يوم عيد الأضحى وهو ذاهب لأداء صلاة العيد في منطقة مارة بالشويفة مر في وادي الهجر قبيطة ولاحظ الصبايا من الصباح الباكر يأتين من قرى بعيدة لغرف الماء من بئر (غيل حلميت) الواقع في قرية الريد الهجر (مكان السد حالياً) ولشدة الجفاف كانت الصبايا تقوم بجلب الماء على رؤوسهن ثم يمشين في الوادي بخفة مجموعات مجموعات حيث سبق وأن توافدن على مورد الماء منذ منتصف الليل وعندما شاهد ذلك المنظر استوقفه الخيال من قلب الطبيعة التي تتحرك في رحابها العادات والتقاليد المتحكمة بعلاقات الشباب والصبايا وتخيل الحبيب الذي لا يجد فرصة اللقاء بمحبوبته إلا في مورد الماء فارتسمت في ذهنه الصورة المعبرة عن لواعج الاشتياق للحظة التلاقي وكتب قصيدة “بشاش الحبيب” التي يقول مطلعها:

يا حلا يا ورش في صبايا الغبش..

يا حسن عالغيد مجهوش

من بريق الصدور يجتلي صبحنا..

يجني سنا خل موروش

لك قليبي (هرَع) يحتضن طلعتك..

في داخله حب منقوش

يا هوى عمرنا في ربيع الهناء..

رجِّع لقلبي شبابه

هات كأس السلا عذب أقداحنا..

للحب طيِّب شرابه

واغمر افراحنا من سنا وعدنا..

والصد ننسى عذابه

وفي مكان ليس بالبعيد هذا شاعرنا أحمد الجابري هو الآخر يمر في الوادي بجانب بير (أملح) القريبة من مدينة الراهدة وهو في طريق سفره إلى عدن فيشده منظر الصبايا اللواتي خرجن (يسأبن) الماء في لحظات الغبش وبينما هن يتهامسن فيما بينهن بأحاديث ليل القرية شرع بمخاطبتهن بما سرى في خاطره من الهواجس بتلك اللحظة متسائلاً:

يا صبايا يا صبايا فوق بير الماء والدنيا غبش..

من يسقي في الهوى قلبي ويروي لي العطش

لاجل روحي يرتوي بالحب رشني رشش..

واسكبين العطر من قطر الندى حالي الورش

يا هوى الأيام يا عمري ويا ذوب الشموع..

ما ظما مثل ظما روحي ولا مثلي ولوع

لملمين الشوق من قلبي ومن بين الضلوع..

لا ظمي شرويه من حبي وشسقيه الدموع

الهوى فني يلوعني ويضنيني الأنين..

شفني وجدي واضنى في الهوى روحي الحنين

من لقلبي يا صبايا واشتري عمر السنين..

واعطي عمري للهوى عمري فدى للعاشقين

ولإشراقة فجر الحالمة الباسم لا يبخل الشيخ عبدالحميد الشائف بتوزيع تحيات الصباح المعطرة بصوفية النقاء على صبايا الأجينات وقاصرات الطرف من غواني حوض الاشراف..

صباح الحور والجرَّة والانهار..

صباح النور والبهجة والاخبار

كلام الليل عند البير دوَّار

صباح الطل في خدك لآلي..

صباح الخال فوق الخد حالي

صبا كالفجر نبَّهني دعى لي

صباحك يا صبايا حوض الاشراف..

صباح اهيف نهب قلبي تحلاَّف

خفيف الظل روحاني وشفَّاف

صباح المشرفات على العوينات..

صباح المرسلات بالأجينات

صبايا قاصرات الطرف عينات

من جانبه وقبيل انطلاق مواكب الرعيان إلى صدور الجبال وعلى رجع صدى موال (يا الله صباح الرضا بالباكري) يصدح البتول الهائم عثمان أبو ماهر بوحي الأمنيات متمهجلاً:

يا ليتنا راعي مع حالي المقل..

شسري غباشش قبل طير الحجل

وأرتشف عذب ماء غيل الجبل..

ماء اللما حل ذي طعمه عسل

ويشارك الدكتور سعيد الشيباني الرعية أهازيج الصباح في قلب الحقول المتموجة بالغلال بكل همة وحماس..

اليوم والله.. واليوم دايم..

قا صربوا الدخن والذرة قايم

يا شهر نيسان أين المسايل..

أين الغمامة من الأصايل

السحب سود مثل الحواجب..

والسيل سقى كل الشواجب

ومثله يفعل الدكتور سلطان الصريمي الذي يرسل بدوره الدعوة لطيور الغبش لتشاركه فرحة الزراع الغامرة بصباح يوم الذري..

وا ساجعة بكِّري.. باكر معانا ذري

زفي إلى خاطري.. صوت المعنَّى الطري

باكر ذري والغمام.. تحمل سلام الزهور

لشعبتي والحمام.. تزف تهاني الطيور

وبلهفة مفارق مزقت روحه خناجر الآهات يحزم الأستاذ عبدالله سلام ناجي لواعجه وأشجانه ويضعها في قلب قبوة الكاذي ليهديها للحبيب بعد أن شقت بينهما الأسفار وعبقت مسافات الحنين برائحة الذكرى وامتلأت خمائل الأماني بحماحم الشوق للقاء..

قطفت لك كاذي الصباح بكمه..

افتك وروِّح يا حبيب شمُّه

عرفه يفوح بكل جبل ووادي..

وأنت أنت يا فؤادي غايب تهيم

لا الدار وسع ضيقك ولا البوادي

كل الخبوت سريت به وهمَّيت..

وكل بحر جزعت به وغنَّيت

ما احد سمع منك دعا ولا جاب..

إلا الحبيب اللي تركته بالباب

روِّح قيام مثل الحمام..

لما تعود شلقى هناء وراحة

فوق الغصون أيما تكون..

بسائلة والاَّ براس ضاحة


وا (امُّاه) قولي لابي ما عادنيش راعية

مسكينة بنت الريف منذ الصباح الباكر وهي تجلب الماء والحطب.. ترعى الاغنام وتكد في زراعة الأرض حتى إذا ما غابت الشمس أغاروا عليها من كل جانب وطالبوها بالرواح والعودة سريعاً إلى المنزل قائلين (ليل) وبالرغم من أنها قد لا تنام معظم الليل لوجود أعمال تنتظرها في المنزل بعد عودتها إلاَّ أنها وفي وحشة سكون الليل وقبل حتى أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود تنفض غطاء النوم عن جسدها المنهك بالعمل الشاق طوال النهار لتصحوا كالعادة على صرخات الأهل المتلاحقة (اليوم قومي شرق) لذلك نلتمس لها العذر عندما نجدها تشكو مآسيها وتستغرق بلذة التمني هائمة بالملالاة:

يا ليتني وردة بمدرب السيل..

ما احد يقول لي لا شرق ولا ليل

يا ليتني عيلة والا حمامة..

والاَّ غراب اسود فوق الدقامة

لكن ومع كل ما تقاسيه من المعاناة وبرغم ما تحتمله من التعب والنصب لا تسلم فتاة الريف من سخرية البعض وتعليقاتهم إذا حاولت إظهار بعض ملامح ألمها أو اشتكت يوماً مرارة واقعها البائس بدموع السنين.. حيث تجدهم يتشفون منها بالقول:

بكَّرت محتر.. راكز المشفر..

مشفره الاعلى.. خلف الاسفل

بكَّرت عوراء.. ما معه الاَّ عين..

والعين الثاني.. قا كليه الذبَّين

إنهم يريدونها جارية تخدم رغباتهم وتسير وفق ما رسموه لها.. تمنحهم الطاعة العمياء والولاء المطلق وتظهر لهم الرضا والقناعة وإن لم تك راضية.. يريدونها قطعة من جماد لا تحس ولا تبكي ولا تتألم بل ويطالبونها فوق كل هذا بإظهار السلا والفرحة رغم أنفها مرددين:

أسعد صباح اللي تبكر..

 سالية ما هيش ضجر

أسعد صباح اللي تبكِّر..  باللحوحة والكدر

أسعد صباحك يا المليحة..  أينه كنتي سارحة

ومع الأسف إذا حاولت استخدام سلاح الكيد فقد يصل بهم الحال حد قذفها واتهامها بالفحش والفجور كقولهم على سبيل المثال:

وبكرت حبلى وحامل.. يعلم الله هو لمن

وبكرت تمشي على شق.. يعلم الله من نزق

زر الذهاب إلى الأعلى