فضاء حر

من هزم الجيش في حرب صعدة؟ (2)

يمنات
حركة الحوثيين لا تدين في تأسيسها للحوثي فقط بل لجوَّاس أيضاً
“جوَّاس”، هذا الإسم الذي حضر في الجولة الأولى من حرب صعدة وغاب بعدها، استُدعِي مجدداً إلى المواجهات الأخيرة بين الإصلاح والحوثيين في عمران وهمدان حيث بدأ إصلاحيون وغيرهم يلوحون به بإعتباره “بطلاً” و”تهديداً” للحوثي. لكن هذا يؤشر على عدم إدراك الطرف الأول للأسباب التي جعلت من الأخير ما هو عليه الآن من قوة، وجعلت من الجيش والدولة ما هما عليه اليوم من ضعف.
ل”جوَّاس” حضور خاص في حرب صعدة ارتبط كلياً بواقعة محددة تؤرخ لنهاية الجولة الأولى من تلك الحرب. ففي 10 سبتمبر 2004، وصل الجيش أخيراً إلى الكهف الذي كان يتحصن فيه الحوثي في أحد جبال “مران”، وأجبروه ومن معه على تسليم أنفسهم. خرج الرجل من كهفه رافعاً ذراعيه وهو في حالةٍ يُرثى لها جراء القصف المكثف بالنيران والغازات على الكهف، وفقاً لأكثر رواية معروفة حول الواقعة. وتضيف هذه الرواية الفصل الأخير من فصول نهاية أولى جولات الحرب الذي لعب فيه “جواس” دور “البطولة”، وكانت “بطولته” على هذا النحو: صوب مسدسه إلى رأس حسين الحوثي وأعدمه بعد تسليم نفسه!
لقد أنهت عملية الإعدام تلك حياة حسين الحوثي، لكنها شكلت بداية حركته التي يمكننا القول إنها لا تدين في تأسيسها له فقط، وإنما ل”جوّاس” أيضاً (والحديث هنا عن “جواس” ليس طبعاً بوصفه شخصاً بل باعتباره رمزاً للجيش والدولة، سواءً في واقعة الإعدام أو في فرضية تأسيسه الحركة). وحين نصف الحوثي ب”مؤسس” جماعته، علينا أن نضع في اعتبارنا دور موته المأساوي في هذا التأسيس. فقد مثل مصدر إلهام وحشد لحركته من بعده أكثر مما مثلته حياته و”ملازمه” الأيديولوجية. وبالمقابل، أشرت على أن الطرف الذي انتصر عليه لا يتصرف بهوية جيش دولة قدرما يتصرف بهوية عصابة (إذ كان يفترض به القبض على الحوثي وتقديمه للمحاكمة بدلاً من إعدامه دون محاكمة). وهكذا، ف”جواس” لا يمثل رمزاً لإنتصار الجيش والدولة على الحوثي كحركة بل رمزاً لفاتحة هزائمهما أمامه.
وهزائم الجيش والدولة في حرب صعدة لم يلحقها بهما الحوثي، بل هما (الجيش والدولة) من ألحقا الهزيمة تلو الهزيمة بنفسيهما، وقد شكل تصرفهما بهوية أخرى غير هويتيهما ك”جيش” و”دولة” العنوان العريض لكل هزائمهما في تلك الحرب (وغيرها من المواجهات والحروب). وإذا كان إعدام الحوثي قد مثل رمزاً على هزيمة الجيش و”الدولة” من حيث تمثلت إبتداءً في عدم تصرفهما كجيش ودولة، فإن استعانة الجيش والدولة ب”البشمرجة” قد شكل أحد المحركات الرئيسية لهزيمتهما في تلك الحرب، وأكد أن تخليهما عن هويتيهما لم يكن مجرد هفوة أو صدفة بل كان أمراً متعمداً وممنهجاً منذ البداية.
وعودةً إلى 10 سبتمبر 2004، نجد أن “جواس” وجنوده لم يخوضوا وحدهم آخر مواجهات الجولة الأولى من الحرب، بل كانت كتائب “البشمرجة” معهم. ويحتفظ “علي”، وهو أحد مقاتلي “البشمرجة” الأوائل في تلك الحرب، بذكرى سيئة من تلك المواجهات، حيث قتل أبوه مع ثمانية من “البشمرجة” الآخرين أثناء هجوم لهم على كهف قريب من الكهف الذي قتل فيه الحوثي بعد أيام، وظلت جثثهم هناك تسعة أيام حتى تعفنت، حسب إفادته لصحيفة “الشارع” في أول أعدادها. ولم تنته مأساة “علي” هنا: فحين عجز الجيش و”البشمرجة” عن السيطرة على الجبل الذي كان يتحصن فيه الحوثي ورجاله ودخول الكهف الذي كانت فيه جثة والده ورفاقه، هاجم شقيقه الكهف بهدف إخراج جثة أبيه، ولكن الحوثيين أردوه وألحقوه بوالده.
“دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ” هو كتاب ل”اريك دورتشميد” يعرض بشكل شيق تاريخ الحروب في العالم منذ حصان طروادة وحتى حرب الخليج الثانية ويؤكد على أن الصدفة والغباء لعبا دوراً كبيراً وحاسماً- لا يقل عن دور التخطيط والذكاء- في تحديد نتائج تلك الحروب وتحديد مسار التاريخ. ولعل هذا أيضاً ما تؤكده حرب صعدة التي يبدو لي أنه ما من حرب لعبت الصدفة والغباء دوراً في تحديد مسارها ونتائجها أكثر منها، وأكبر مخاوفي أن تواصل “الصدفة” و”الغباء” إدارة هذه الحرب حتى النهاية: فاستدعاء إسم “جواس” للمواجهات الأخيرة مثلاً لا يؤشر فقط على عدم إدراك الطرف الذي يواجه الحوثي اليوم لأسباب هزائم الجيش والدولة في مختلف جولات الحرب، بل يؤشر على أن هذا الطرف ماضٍ في الهزيمة حتى آخر رمق في الجيش و”الدولة”، وهي نتيجة متوقعة كثيراً في ظل واقع أن الإصلاح خاض كل مواجهاته الأخيرة مع الحوثي بنفس الطريقة ونفس الوجوه التي خاض بها نظام صالح جولات صعدة الست، وخسر بسببها الحرب. (وهذا ما سأحاول توضيحه أكثر في تناول آخر).
من حائط الكاتب على الفيس بوك

زر الذهاب إلى الأعلى