أخبار وتقارير

عبدالكريم مريد.. ومأساة عمر عنوانها (ارجع لحولك كم دعاك تسقيه)

المستقلة خاص ليمنات

عندما يطوي خريف البعد والحرمان آخر صفحات الربيع..
الجو ربيع غائم والفجر البسام ينثر شذى فله ويرش عطر الطل على صدور الخمائل وأعناق الزهور.. أشعة الشمس بحنو مشوق يقبل رونقها خدود الأوراق المبلولة بقطرات الندى وأكف النسيم تداعب هفهفاتها الرفافة جفون الروض فتتراقص خصور الرياحين نشوانة على إيقاعات ريح الصبا وألحان العبير.. وفي الأفق الساطع ألقاً تجنح غيمة ضاحكة تحتضن فوح الربيع وتبتسم في وجه المطر الهاطل على خدود السفوح.. المدى الغائم يبوح بأسرار السحاب الغوادي ويغني قصائد عشقه الحالم بكمنجة رعود السماء المفتوحة وبموسيقى القطرات المتساقطة طق طق.. وعلى خلفية المشهد المبلول ثمة عاشق يقف على حافة الاحتراق وتجفف حرارة العطش آخر أوراق الخريف الذابلة في غصن عمره الذاوي ليسقط ضحية للظمأ عند خاتمة المشهد..
بالضبط هذا ما يصور لنا تفاصيله شاعرنا المعتق بالحنين والمسافر بأجنحة الشجن عبدالكريم مريد حين تزهو به أنغام أيوب طارش وتشاركه تلوين تضاريس اللوحة القاسية فتاة قروية رمى حبيب القلب الغائب بزهرة ربيعها الطري في مزبلة التناسي والهجران الطويل فانطوى هاجر العمر وغادرت أحلام السنين وهي تناديه وتستغيث (إرجع لحولك كم دعاك تسقيه).. ولكن دون جدوى يتبدد الصوت المبحوح ويضيع الصدى في متاهات صحارى السراب..
ها هو الربيع يكسو بحلته السندسية وجه القرية والروابي المحيطة.. تصحو عصافير الغبش ذات فجر مسابقة شموس نيسان الظل والعطر والندى لتملأ بتغريدها الأرجاء.. تغني ومثلها يغني الزرع والوادي وراعي الأغنام الذي يخرج من (المسب) شبابته ليشاركها فرحة استقبال نيسان فسحر الطبيعة يبعث على الغناء والإنشراح..
الجو صفا والطير فوق الأغصان..
يرقص يغني منتشي وفرحان .. بكَّر غبش سابق شموس نيسان
راعي الغنم بالظل وقف شحنتر.. سحر الطبيعة منظره مؤثر
من فرحته رمى العصا وخرَّج.. من المسب زمَارته يزمر
نيسان وورد الروض في كمامه .. يرقص يغني للنسيم سلامه
نوب العسل تحوم علوه تحنن.. من أجل يتفتح ترشف غرامه
مشهد آخر تجسده صبايا القرية المتقاطرات أسراباً حول مورد الماء كأسراب الحمام وفي ساعات النهار الأولى الكل نشوان تغمره الفرحة ووحده شاعرنا مريد من يقف مطلقاً تناهيد الأسى من قلب كل عاشق فارقه حبيبه:
نيسان وفي المسقى الملاح تلعب.. وسط الغدير تغسل ثياب وتشرب
عند الهجير تملا الجرار بالما.. أسراب بعد اسراب حمام تسأب
نيسان وانا، وينوه حبيبي غايب.. قلبي يشا منظِّر الكشايب
نيسان انا محروم من المسرّات.. والله ورّاني الخريف عجايب
ولفن الشكوى تبذل ضحية الفراق غاية جهدها.. تخيلوا فتاة في ميعة ربيع الأنوثة والشباب تتذوق عسل اللذة من شهد الوصال وتنعم بحنان القرب ومتعة التلاقي البخيلة وعقب أيام معدودة من زفافها إلى أحضان الشاب صاحب النصيب فجأة يأخذه قدر البحث عن لقمة العيش بعيداً فيسافر ويتركها وحيدة شريدة تتجرع مرارة الحزن تسامر نجوم الليل وتسابق طيور البكور بالسؤال عما إذا كان (الطَبَل) قد جلب لها من عنده ما يطفي ثورة الأشجان وما أتعسها وهي تشكو لنا وضعها البائس بالقول:
قلبي حبيبه راح آه يا عذابه.. صابر وطال صبري على مُصابه
سرح وخلّانا مع الهواجس.. والحزن والحسرة على غيابه
وانا بنص الليل والنجم سامر.. أسرح مع الأفكار والخواطر
غبش اقوم قبل الطيور اسائل.. أين الطَّبَل لو لي معه رسائل
وكما يبدو في ظاهر السياق الذي أبدعه شاعرنا مريد أن الشريدة المنتظرة قد بدأ القلق والشك ينالان من ثقتها بعد فوات ميعاد تلقي الجواب من الحبيب المسافر.. ولاحظوا حالة القلق هذه تغرقها في دوامة الحيرة وتدفعها لجلد الذات بطرح الأسئلة معدومة الرد والجدوى على نسق..
مو به تأخر ما وصلش خطُّه.. مو أخَّرُه عن عهد انا حفظته
قلبي تعب من غيبته وسكوته.. لا عاد اجاني الرد ولا استلمته
وا قافلة وا سارية أمانة.. بالله أوصفوا له الحال في غيابه
ياااه كم هو بديع هذا الختام الذي تقطع به سيل تساؤلاتها الحائرة.. إنها تريد أن تختصر شرح معاناتها التي لا توصف لتجعلها بشكل آخر أبلغ مخاطبة القافلة السارية بما مضمونه (لن أشرح ما بي ويكفي أن تصفوا للخل ما شاهدتموه بعيونكم ففيه الغنى عن شرح ما لا يوصف من المآسي والعذاب)..
وعلى مسرح الحياة الكئيبة يواصل شاعرنا عبدالكريم مريد تجسيده الرمزي لثنائية الشكوى والاغتراب ومن خلف شرشف الطهر والعفة يترجم لغة الأنوثة الصامتة ويفك طلاسم اشتهاء الجسد.. فتاة أخرى تطوي السنوات براعم أحلامها وها هي تنتظر على درب اللاعودة.. تحاول دفن أنوثتها في ثوب الحياء وهي تشعر في قرارة نفسها أن أجمل أيام العمر تذهب منها سدى ودون رجعة.. يتملكها الشعور بالظمأ في خضم قحط التجافي والغياب ويستوطن فضاءات وجدانها إحساس الجفاف المتأصل الذي يوحي لها شعورها الداخلي بأن الطبيعة من حولها صارت تشاركها ذات الإحساس.. ومن أعماق الروح تجتر تنهيدة مضمخة بالدمع والدم وتقرع بأكف الالتياع أجراس العودة في أذن أسير الغربة الذي تضعه على مشارف النهاية لتناديه (هيا إرجع لحولك)..
إرجع لحولك كم دعاك تسقيه.
ورد الربيع من له سواك يجنيه والزرع أخضر والجهيش بالاحجان
أي رجوع هذا الذي يسقي ويروي وينعش وإلى أي حول.. وإن حسبناه كذلك فكيف لنا أن نجد حولاً يشكو نار العطش وينتظر السقيا ومن حوله ورد الربيع اليانع ينتظر الجنى وخضرة الزرع وجهيش الأحجان ؟. إنه وبلا شك ظمأ من نوع آخر لا تطفئه الرسائل والصدارات ومحال أن يرتوي حول المحبة بغير الوصل في الأحضان.. ولهذا نجدها باكية يستبد بها الهيام ولسان حالها يهمس في مسمع عزيز الأمس الغائب بشكوى الحال:
في غيبتك ذيب الفلاة حايم.. على المواشي والبتول نايم
وانت على الغربة تعيش هايم.. سعيد وغيرك مبتلي بالاحزان
ما اشاش مكتوبك ولا الصدارة.. قصدي تعود حتى ولو زيارة
قا دمعي تَرَّك في الخدود أمارة.. والوحدة زادت في القليب أشجان
وحدها (ما اشاش) مجيئها هنا يكفي لفهم ما تخبئه خلفها من سخط وحنق عارمين ومثلها أخاديد الدمع التي حفرتها سنين السهد على صفحات الخدود فهي تتحدث بمكنون ما أخفته الهائمة عن أعين الناس خشية الملامة.. ومع ذلك يبقى للحسرة رجع صدى ولحلم العودة شوق في فسحة الآتي من الأيام وهي تسترجع الشكوى وتكرر:
غبني على عمري جرى سنينه.. أما الفؤاد قد زاد به حنينه
ليتك تعود تشفيه من أنينه.. وينجلي همّي ونصلح الشان
نعم (ليتك تعود ) .. وما أحيلى الرجوع لحضن التلاقي بعد طول الفراق وما ألذ التصافي بعد مر الخصام وما أجمل أن نعود أحبة إلى عهود الأمس لنبذر في تليم الحاضر أحلام بكرة ونرويها بالصدق والحنان.. على هذا النحو من العودة يرجع بنا الأستاذ عبدالكريم مريد إلى حقيقة الصورة بهيئة عاشق غزلان من الطراز الأول.. وهل من غزلان ترتع حشاشة المهج غير تلك المتخطرة على قدمين.. وحق على من وقع في متاهات عشقها أن يصد عنها أطماع من يشهر بوجهها النبال..
حرام عليك ترمي الغزال يا رامي.. بالله عليك رد النبال ردّه
أنا الذي ساهر عليه منامي.. كم طال ليلي ما عرفت رقده
هكذا يسطر شاعرنا الموله سور العشق لغزالة من بنات حواء.. وكم منا جرحت فؤاده غزالة آدمية بسيوف الرنا وصوارم الرموش البواتر.. كم منا تمنى أن يقف هذه الوقفة ليقول لمن خطف قلبه وولى هذا المقال:
آه يا شريك روحي عليك سلامي.. من قلبي المجروح أنَّه ونهده
يا ليتنا عندك تسمع كلامي.. نستعمل الصمت والوتر نشده
فقدان انا لنظرة اللثامي.. واحن على شم الخدود وورده
حيران انا هايم في غرامي.. بعد السلا والأنس والمودة
وحسب أسير البعد أن يلفظ آهاته كما يلفظ المحتضر آخر أنفاسه وهو يردد تنهيدة الختام:
يا غارة الله نحَّلُوا عظامي.. بُعْد الحبيب كالماس جرحني حدّه
حيران انا هايم في غرامي.. بعد السلا والأنس والمودة
صفوان القباطي – [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى