العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. بديلا عن الانتحار!!

يمنات

أحمد سيف حاشد

أحجمت عن الانتحار، ولكني أريد أن أقوم بفعل أقل كلفة ومقامرة.. أريد ضجيج ما أعبّر فيه عن نفسي ورفضي للقمع الذي أجتاحني من أبي.. لن يكون هذا إلا بفعل صارخ مشبع بالتمرد والاحتجاج.. أريد أبي أن يندم على فعله المملوء بقساوة الحديد.. أريده أن يسمع بعض من جنوني، احتجاجا على قمعه.. أريد أن أرد له بعض من جنونه ولو بالقدر المتاح..
 
لا أستطيع أن أبلع قهري وأصمت كحجر أو خشبه.. لا بد أن أفعل شيئا أعبر عنه بأقصى ما يمكن من الاحتجاج.. أريد بوجه ما أن أعاقب أبي واسمعه بعض من احتجاجي المنتفض.. لابد من حملِه على أن يحسُّ مظلمتي وظلمه لي، ولا بأس أن يسمع قصتي كل الناس.. أريد أبي أن يندم بسبب قسوته المفرطة حيالي.. كان غضبي لا زال يركض ويرفس داخلي، والدم يثور ويغتلي في عروقي..

نزلت من الحجرة، وعرّجتُ على باب الدار لأتأكد من أغلاقه بالمزلاج والمرزح، ثم صعدتُ إلى الديوان، وضعت على الجدار المقابل علبة “طاحونية” فارغة، وثبتها بسكين، ثم وضعت أمامي شبه “صندوق” هو عبارة عن ألواح خشبية تستخدم لنقل صفائح الجاز، وتحميلها على الجِمال عند نقلها..

انبطحت خلفه، وحاولت تتبيت البندقية بيدي من خلال ألواحه الخشبية لتقلل من الارتداد أثناء إطلاق الرصاص، واطلقت لرجلاي التمدد في وضع قتالي لم آلفه، ولكن أنطبع في ذهني من صور شاهدتها في مجلات صينية وروسية وصلتني في وقت سابق من خلال أخي المنتمي لحركة القوميين العرب “الحزب الديمقراطي الثوري”، وقريني عبد الباسط أخ محمد سعيد غالب الذي كان ينتمي لأحد فصائل العمل الوطني..

كنت أعرف أن البندقية تركض الرامي خلفها عند اطلاق الرصاص؛ فلزم أن أثبتها على نحو يقلل من إرتدادها.. حاولت أسدد على العلبة التي وضعتها على الجدار، فيما أصبعي جاهزة على الزناد بأمان مفتوح على الاطلاق السريع.. وبمجرد الضغط على الزناد بأصبعي المتحفزة والمتعصبة في نوبة هستره تم اطلاق ما فيه من رصاص..

لم أكن أعرف إن كل ذلك الغبار سيكتظ من الداخل على ذلك النحو الكثيف، ولفترة بدت لي غير وجيزة.. لم أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل!! الحقيقة لا أدري كيف نجوت؟!! وكيف وجدت للمستحيل طريقاً؟! لعل “الخضر” كان حاضرا معي، أو هو الحظ الوفير..

لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من الخارج ويسمع لعلعة الرصاص في داخل الدار، يعتقد أن ثمة زلزال قد حل فيه..

صارت الجدران مخرّمة كوجه أنتشر فيه “الجدري”، فيما رائحة البارود كانت نفّاذة تملأ المكان وتزدحم..

وفي زحام الغبار حاولت أفتش عن علبة “الطاحونية” التي سددت إليها الرصاص، فوجدتها هي والسكين ثابته كما هي في الجدار دون إصابة أو مساس، فيما وجدتُ الجدران كلها مخرّمة قد أصابها الرصاص المباشر والراجع.. لقد تفاجأتُ وشعرتُ بالغرابة أنني لم أصب الهدف الذي سددتُ البندقية إليه، رغم قربي منه أو عدم ابتعادي عنه أكثر من أربعة أمتار على الأرجح.. لقد نجوتُ أنا والهدف، وأُصيب ما عدانا..

النسوة والرجال والأطفال هرعوا إلى الدار ليرون ماذا حدث!! كان أول الواصلين جارنا القريب مانع سعيد.. باب الدار مغلق، وأنا اطمئن الجميع من مفرج الديوان إنه لم يحدث شيء..

الأسئلة تتزاحم عمّا حدث، والدهشة تستبد بوجوه الحاضرين على عجل.. وبعضهم يدقوا باب الدار بقوة ويهمّون بكسره، وأمي تهرع وتتصرف كمجنونة.. تصرخ وتبكي وتنوح؛ بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة..

نزلتُ وفتحت الباب وأطمئن الناس أنني بخير، فيما امي تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بديوان آخر في الدار.. ديوان مظلم ومملوء بحزم الزرع اليابس.. أما أبي فقد هرع من رأس “شرار” ربما لينتقم منّي أشد انتقام، ولكنه لم يجدنِ وأبلغته أمي أنني هربت إلى الجبل..

مكثت يومين في مخبئي السري لا تواسيني فيه غير أمّي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من مائة سؤال ومشكلة..

بيومين أحسست أنني مللت مخبئي وملّني هو الآخر.. طلبت من أمي أن تترك لي فسحة بين أخوتي النيام لأنام بينهم ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي.. ولكن أنكشف أمري بعد ساعة زمن.. يا لخيبة حيلتي وحيلة أمي!!

مر أبي على أخوتي النيام قرابة الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بالنوم. أنا الوحيد بينهم من كنتُ متوجساً ويقضاً وأكاد أسمع دبيب النمل.. سمعته يعد أخوتي ويقول لأمي هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثي على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس بأصابعه، ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وأمي مرتعدة الفرائص تحاول أن تقرأ بكتمانها سورة ياسين، فيما أبي يعد ويتحسس الرؤوس، وما أن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض كالمطرقة، فانقَّضت أمي عليه كذئبه، وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها.. صراخ يمزق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيب أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والأسئلة والفزع..

اقتنصتُ فرصة لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. ركضت وقفزت من فوق الدار.. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة، وربما مادة الأدرينالين التي تفرزها الغدد الكظرية في حال كهذا تجنبنا ما قد يلحق بنا من ضرر محتمل..

***
يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى