فضاء حر

اليمن يحددّ مصير جيرانه .. الصراع حول الدولة في عصر الانهيار العظيم (2-2)

يمنات
في ربيع عام 2012 وصلت صنعاء بدعوة كريمة من وزير الدفاع اليمني الأسبق الفريق الركن عبد الملك السياني، وهو رجل اشهد انه على إطلاع جيد بتاريخ اليمن وآثارها، وفي منزله وسط صنعاء يحتفظ بمجموعة نادرة ومذهلة من اللقي والمقتنيات الأثرية التي لا تقدّر بثمن.
كان في صحبتي المهندس الأردني الصديق عمر شوتر، وكانت هذه آخر زيارة أقوم بها بهدف أن اتمكن من استكمال أبحاثي عن العلاقة بين تاريخ اليمن القديم والتوراة. وهذا ما وفره لي صديقي السيّاني بكل كرم.
كان عمر شوتر، المثقف والإنسان الراقي مهتمّا ومُتحمساً إلى أبعد الحدود للبرهنة على صحة مقولاتي النظرية، ولذا حرص ان نكون سوية خلال ثلاث رحلات متتابعة قادتنا من صنعاء فغرب ذمار حتى تخوم الحديدة.
وفي نهار طيب خلال الرحلة وأثناء استراحة الغداء في منزل السيّاني، فاجأني الوزير الأسبق بعرض وثيقة صادرة عن جهات رسمية عسكرية – أمنية في بلد عربي، كان يحتفظ بها في مكتبه منذ ان كان وزيراً للدفاع.
قال لي بنبرة الأمر العسكري: تفضل؟ انت تكتب عن تاريخ اليمن القديم. يجب أن تكتب عن تاريخ اليمن الحديث أيضاَ؟ ها هي خطة لاقتطاع حضرموت .. اقرأ؟ كانت أمامي وثيقة خطيرة معززة بالخرائط العسكرية تتضمن أوامر أمنية حول كيفية اقتطاع حضرموت وضمّها. قلت لصديقي السيّاني: قد لا يكون الوقت مناسباً للخوض في نقاش سياسي. زيارتي هي للعمل العلمي، لكن يمكنني ان أكون طرفاً في هذا النقاش، فقط لأغراض التحققّ.
اليوم، وحين استعيد أطراف هذا الحديث، اجد نفسي مضطرّا للخروج من حقل التاريخ إلى حقل السياسة.
في الوضع الراهن لليمن، قد تبدو المعركة لكثيرين وكأنها سوف تفجر في الشمال. في الواقع ستكون المعركة الكبرى في الجنوب. بالنسبة للقوى الإقليمية والغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، الشمال اليمني الفقير لا أهمية استراتيجية له. إنه عديم القيمة من منظور المصالح الدولية الكبرى؛ بينما يبدو الجنوب هو (الكنز) حيث باب المندب – الذي يتحكم بشريان الطاقة والتجارة مع العالم- وخزّان الغاز في السواحل. إن كل الضجيج الدائر في صنعاء، ومحاولات تصوير ما يجري وكأنه (ثورة جماهيرية) ضد سيطرة أنصار الله (الحوثيون) لا وظيفة له سوى صرف الأنظار عن مسرح المعركة الكبرى التي تستعد كل الأطراف الإقليمية والدولية لخوضها هناك. في الجنوب، تلوح نذر مواجهة دولية سوف تقررّ مصير اليمن؛ بل مصير جيرانه أيضاً.
لقد تشكلت في المشهد السياسي اليمني فعلياً، ثلاث بؤر للتوتر القبلي والسياسي:
1: البؤرة الأولى في الشمال حيث تفرض هناك حركة أنصار الله سيطرتها على أجزاء واسعة، وهي حركة تبدو متماسكة ومصممّة على إنجاز أهدافها المرحلية.
وبالطبع لا توجد قوى منظمة قادرة على عرقلة تقدمها. مثلاً: حزب الإصلاح (الاخوان المسلمون) تشتت قوته العسكرية وتراجعت قدرته السياسية على التأثير، واصبح فعلياً خارج المعادلة، بينما حلت محلّه في الصراع جماعات مبعثرة من قوى قبلية هنا او هناك، لكنها لا تبدو هي الأخرى قوة متماسكة وموحّدة الأهداف والمصالح. حتى الشارع الذي يثور هذه الأيام ضد الحركة في احتجاجات غير متناسقة، لا يبدو أنه قادر على احداث أي خرق في المعادلات السياسية. الضجيج في صنعاء سيظل ضجيجاً . الطبل والزمر في الشمال والعرس في عدن.
2: البؤرة الثانية في الجنوب (عدن- أبين- الضالع- وصولاً إلى لحج وتعز) حيث تتقاسمه قوى متناقضة ومتصارعة، ليس من المرجحّ أن تتمكن- حتى مع انطلاق عملية سياسية جديدة – من تسوية تناقضاتها. وبالرغم مما يبدو (توحدّاً شكلياً) من حول عبد ربه منصور هادي؛ فإن التناقضات داخل كتلة القوى الجنوبية تظل أكبر وأعقد من أن يتمكن هادي من تسويتها. القاعدة في البيضاء وشبوة وأبين تمثل أبرز القوى التي تتحكم في مسار التطورات المستقبلية في الجنوب، فهي تسيطر على أجزاء واسعة من الجنوب، بينما لا يبدو أن الحزب الاشتراكي والحزب الناصري وحلفائهما في وضع يمكنهم من فرض اي تغيير حقيقي. الحزب الاشتراكي (الحاكم سابقاً) ليس حركة منسجمة وموحّدة.
إن تيار علي سالم البيض المتحالف مع قطر، يحتفظ بقنوات اتصال خاصة مع إيران وحزب الله، فالبيض الذي يتلقى الدعم المالي من قطر، يحظى بحماية حزب الله في بيروت حيث يقيم، بينما يتمتع تيار علي ناصر محمد (الرئيس الجنوبي الأسبق) بدعم طهران وسوريا وروسيا كرئيس توافقي. أما بقايا رابطة أبناء الجنوب والمجموعات الرجعية التقليدية المرتبطة بالخليج، فهي أضعف من أن تستطيع فرض اي حل. وممّا يضاعف من تعقيد الوضع في الجنوب، أن داعش تسللت إلى جزيرة سقطرى (حيث سيّرت قطر اسطولاً من الطائرات كانت تنقل الإرهابيين بشكل سري ومنتظم خلال الأشهر القليلة الماضية). واستطيع أن أتكهن بأنها سوف تصبح معقلاً لداعش خلال وقت قصير. سيطرة داعش على سقطرى، هو نقطة البداية في تحولها إلى قوة رئيسة في الصراع حول مستقبل عدن.
هذا يعني أن المحور التركي- السعودي- القطري بدأ في تأسيس معادلة جديدة للصراع في اليمن ، يمكن تلخيصها بأبسط الكلمات على النحو التالي: يمكن لإيران وروسيا (وأنصار الله) أن يمكثوا في الشمال اليمني، لديهم ساحل الحديدة وحجة.
هذا يكفي. لا تقتربوا من باب المندب؟ سوف ترد إيران وروسيا (وأنصار الله) بالزحف نحو الجنوب. لن تصمد في وجههم أي قوة، سوى داعش ورديفتها القاعدة. كل هذا سوف يكون كافياً لتمزيق الجنوب؟ ماذا يفعل البيض؟ وماذا بوسع الناصريين وبقية اطراف الحراك الجنوبي أن يفعلوا؟ عليهم أن يختاروا: داعش والقاعدة وهادي أم التفاوض مع أنصار الله؟
3: البؤرة الثالثة حضرموت. إن ما يجعل حضرموت (أمّ المشاكل) في اليمن، أن هناك ما يشبه الإجماع الشعبي على الاستقلال كدولة (ما يسمى حضرموت الكبرى). التيار المتحكمّ في الشارع هو تيار رافض (للهوّية اليمنية) ويكاد يكون هو القوة المهيمنة، وهو تيار يستند إلى دعاوى تاريخية زائفة وإلى نوع من (المثيولوجيا – الأساطير الشعبية) التي تصوّر حضرموت (الواردة في التوراة) كمملكة مستقلة عن اليمن التاريخي، ولذلك فهو لا يعتبر نفسه يمنياً وينادي علناً بالهوّية الحضرميّة. ومع أن هذا التيار لم يتبلور في صيغ تنظيمية واضحة وقوية، إلا أنه يشكل قوة حقيقية في الشارع. بيد أن حضرموت لن تتمكن- مهما فعل المعارضون هناك- من تحقيق أحلامها، الا إذا تمّ حسم الوضع في عدن. وهذا ما يبدو مستحيلاً، نظراً لوجود قوى متصارعة داخل عدن لا تسمح بتشكيل أي موقف سياسي استراتيجي يوحدّها من حول أي هدف. إن هروب الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى عدن، ليس عملاً بطولياً قام به الرجل. هناك من دبرّ له عملية –هروب – مثيرة ترافقت مع تفريغ صنعاء من الوجود الدبلوماسي العربي- الغربي، ثم عودة هذا الوجود إلى عدن وبحيث تصبح بديلاً من صنعاء.
إن تهريب هادي مصمم لهدف واحد: أن يعود إلى موطنه القديم عدن ليلعب دوره كزعيم جنوبي بديلاً من دور البيض وعلي ناصر. وكما ان عدن هي بديل صنعاء، سيكون هادي بديل البيض وناصر.
ولئن كان البيض هو مرشح قطر لتحقيق هدف انفصال عدن وسيطرتها على غاز الساحل لتصبح اكبر منتج للغاز في العالم- وتتفوق على روسيا- فإن علي ناصر وهو الأقرب لسورية وإيران و روسيا، سيرمي بثقله لمنع واحباط مشروع الانفصال للحفاظ على وحدة الجنوب. أما هادي ، فلن يكون أمامه سوى ان يظهر ولاء كافياً للسعودية، ويحصل منها مباشرة على دعم مالي لدويلة عدن، وبحيث تؤدي عملية تهريبه إلى تحقيق أهم نتيجة: تنظيم عملية فصل حضرموت لا عدن؟ أي الصراع مع حضرموت بكل الأشكال حتى يحدث انفصالها؟
وهكذا تصبح عدن مسرحاً لصراع ثلاث قوى داخل الحزب الاشتراكي القديم؟ كان عبد ربه في الثمانينات من القرن الماضي- حيت عشتُ في عدن عام 1980 – موظفاً صغيرأً في دائرة تعنى بتوزيع الكتب المدرسية، ولم تكن له أي مكانة في الحزب الحاكم- آنذاك- الحزب الاشتراكي. في عدن تعرفت على بعض قادة الحزب والدولة، ثم تسنى لي أن ألتقي الرئيس علي ناصر محمد- وتوثقت علاقتي به في دمشق بعد يناير 83- وبوجه العموم فقد كنت صديقاً لمعظم قادة الحزب الاشتراكي ومعظم الوزراء، وبعضهم كان ضيفاً في بيتي في دمشق بعد يناير المأسوي.
قلت لصديقي السيّاني: قبل أن يتمكن احد من فصل حضرموت، عليه أن يحل عقدة عدن؟ عدن عقدة الجنوب، لأنها تضمّ مكوّنات وقوى وجماعات، معادية – في الأصل- لأي محاولة وتحت اي ظرف أو بواعث، لفصل حضرموت أو تحويلها إلى (مدينة- دويلة) أو ضمّها إلى بلد آخر؟ حين جاء الرئيس عبد ربه منصور هادي من دائرة توزيع الكتب المدرسية إلى رئاسة الجمهورية بفضل المبادرة الخليجية، فقد جسد تلك اللحظة الفارقة في التاريخ اليمني: كانت اي محاولة لمنع التقسيم ووقوع اليمن في حرب أهلية، تستدعي اختيار شخص توافقي من الجنوب اليمني، لكن قوى إقليمية كانت تريد رئيساً ضعيفاً وتوافقيّا في الآن ذاته ؟ ولم يكن ذلك عملاً برئياً.
كان يتوجب اختيار شخص من الجنوب، يكون ضعيفاً وهامشياً ولا مكانة سياسية له لكي يكون رئيساً، لأن ضعفه سوف يساعد -خلال تطور الأزمة – على حدوث التقسيم وفصل عدن ( وليس الجنوب كله) ثم حضرموت. وكما أن عبد ربه فشل في لعب دوره التوافقي، فسوف يواصل فشله في قيادة (حكم صوري) من عدن، حتى مع الدعم الذي حظي به من الخليج. وليس مستبعداً أن تعود كل السفارات الأوروبية التي أغلقت أبوابها في صنعاء، للعمل من عدن، وفقط من أجل أن يكون هناك عرس وطبل وزمر؛ بينما العريس هو التقاتل والصراع الدامي.
إن (تهريب) الرئيس من صنعاء إلى عدن، هو محاولة يائسة قامت بها أطراف محلية- إقليمية- دولية، لنقل الصراع برمته حول الهدف الحقيقي: من يسيطر على باب المندب؟ أنصار الله أم داعش والقاعدة؟ المعركة ليست في صنعاء؟ انها في الأصل معركة عدن حيث 14 تريليون قدم مكعب من الغاز في السواحل؟ من يستولي على غاز عدن، يمكنه أن ينتقل من عصر النفط إلى عصر الغاز.
وهذا مركز صراع قطري- سعودي: ايٌ من الطرفين المتخالفين- المتخاصمين يمكن ان يستولي على غاز سواحل عدن ويضمها ليصبح دولة كبرى في عصر الغاز القادم؟
بعد استيلاء حركة انصار الله على مراكز القوة والنفوذ في معظم اليمن الشمالي، لم يتبق أمام السعودية سوى التحالف مع تركيا- وليس التحالف مع قطر التابعة لتركيا- لقطع الطريق على ايران وروسيا وحرمانهما من الوصول إلى باب المندب. إن وضع اليد على باب المندب وخزان الغاز في الساحل الجنوبي، يمكنه أن يتحكم في مسار التطورات في المنطقة لا في اليمن؟
مشكلة هادي انه سوف يمزق الجنوب. حضرموت لن تقبل إلا بدولة خاصة. وعدن سوف تمنع انفصالها. هذا يعني أن حركة أنصار الله، يمكنها ان تستفيد من ابعاد الصراع خارج صنعاء وحصره في عدن. لقد بدأت معركة طويلة بين رئيس ضعيف بلا صلاحيات (ومقومات حقيقية للحكم) ضد خصوم أقوياء. ولو افترضنا أن هادي وبدعم من اوروبا وبعض العرب، نجح في الانتصار على أنصار الله، فماذا سيفعل مع داعش في سقطرى والقاعدة في أبين والبيضاء وشبوة؟ وماذا لدى الحزب الاشتراكي بجناحه القطري، من مقومات صمود أمام انصار الله؟ وكيف يمكنه ردع الحضارمة الذين يعملون على الانفصال عن الجنوب، وهم متقاربون مع السعودية بشكل كبير؛ بل إن الحضارمة يعتبرون أنفسهم جزاءا من الامتداد الجيوغرافى للسعودية؟ مصير حضرموت تقرره عدن. لا صنعاء. ولأن حضرموت لن تنفصل الا إذا انفصلت عدن؛ فإنها وبسبب جغرافيتها المتصلة بالجوف، ستجد نفسها وجهاً لوجه مع أنصار الله؟ وماذا لدى حضرموت للصمود أمام أنصار الله الذين يسيطرون على الجوف؟
عدن ليست على وفاق مع حضرموت لا سياسيا وقبليا، وهماً معاً تتماثلان في طبيعة المأزق الراهن. مأزق حضرموت شبيه بمأزق عدن.
نريد الهروب من الهوية اليمنية الجامعة ، لكن ليس لدينا الأدوات والوسائل.
وحدها داعش تملك إمكانية (سرقة) عدن والفرار بها، أو (سرقة) حضرموت وتحويلها إلى كيان حضرمي- إسلامي. ياله من مصير مأسوي؟
لذلك سوف تنحصر المعركة في عدن بين المحورين المتصارعين في المنطقة: المحور- السعودي- القطري- التركي، والمحور اليمني- الإيراني- الروسي. إنه صراع القرن 21 على بوابة العالم.
عن: جريدة الجسر

زر الذهاب إلى الأعلى