العرض في الرئيسةفضاء حر

من ارشيف الذاكرة (8)

يمنات

أحمد سيف حاشد

تفوق وكلفة حب تساوي نزيف الروح وأكثر

(20)

سنة أولى .. الأول في الدفعة .. امتياز

بقدر ما تعطي تحصد .. بقدر الجهد المبذول تكون الثمار .. بقدر اجتهادك ومثابرتك تكون النتيجة..

في السنة الدراسية الأولى بذلت جهد بحجم التحدّي أو هكذا أظن، وجاءت النتيجة إحرازي للمركز الأول في الدفعة بامتياز، كما أعطى البخل والتشدد في منح الدرجات ما جعل هذا التفوق ألذ وأمتع. فضلا أنه كان غير مسبوق في الدفع السابقة من عمر الكلية.

عندما تجد مجهودك يثمر ما يساويه من النجاح، من حقك أن تفرح، ومن حق الفرح أن يغمرك بنشوته، ولاسيما عندما تعبر محطات الفشل والإخفاق والمُحبطات وتتجاوز الصعاب والعقبات التي تعترض سير نجاحك أو تحول دون أن تحقيق مزيد من النجاح والتفوق.

و مع ذلك أستطيع أن اقول لست ذكيا بما يجعلني مفاخرا بهذه النتيجة إلى ذلك الحد، ولكن استطيع الزعم أنني كنت مجتهدا ومثابرا ومواظبا وعنيدا لتحقيق مثل هذه النتيجة..

و أظن أن من جملة أسباب تحقيق مثل تلك النتيجة هي أنني كنت أحاول اطلّع في جزئية أكثر مما كان الاستاذ مطّلع فيها، أو حتى يكون قد أطلع عليها ولكن كانت في زاوية من ذاكرته ثم يسمعها مني دون الآخرين .. وبهذا أجد نفسي لا أتميز عن أقراني ولكن أستطيع أن أضيف شيئا يجعل الدكتور مبهورا أو يشعر ببعض الإعجاب المعلن أو الكتوم بسبب ما أحاول أن أميز نفسي عن زملائي أو هكذا اعتقد.

و خلاصة ما تعلمته من هذا التفوق والنجاح أنه بإمكان الفاشل في محطات عديدة أن يعوض هذا الفشل في محطات أخرى تجلب له كثير من النجاح بل والتفوق أيضا..

تعلمت أن الظروف العابسة أو البائسة يمكنها أن تكون أيضا دافعا أو ملهما لكثير من النجاح..

تعلمت أن كل شخص فينا يمكنه أن يجد ما يميزه إن بحث عن هذا التميز أو اجتهد في الحصول عليه..

كل شخص فينا لديه ما لا يجده عند غيره، ومن يفشل في أمر فهذا الفشل ليس آخر العالم بل لدى هذا الفاشل القدرة على التفوق في أمر آخر أن سعى إليه واجتهد .. المهم أن نكتشف أنفسنا ونعمل ونجتهد من أجل التفوق في هذا الأمر أو ذاك ولا نيأس ولا نستسلم للإخفاق أو الفشل .. والأهم من المهم هو النجاح والتفوق أن يقترن بشرف الوسيلة ونبل الهدف.

(21)

بنت الوزير

“1”

“هيفاء” نسمة بحر.. “هيفاء” روح الله.. “هيفاء” أسرار جمال الأرض، “هيفاء” تسبيحات صوفي مسكون بالواحد، وشلال غفران لا ينضب..

“هيفاء” ملكوت الله وتسبيحات الكون باسمه، وصلاة عوالمه لجلالته.. وأنا قليل الحيلة في قاع بير جفت أندب حظي البائس.. كيف أقارن والفارق كالفرق بين مخلوق وخالقه.. الفارق أكبر كالفرق بين ذرّة رمل ومجرَّة.. هي بنت وزير عالٍ وأنا إنسان بسيط جدا ومسحوق حد العدم.. أنا إنسان لا زلت أعيش خواي، وبؤس أسمع صريره في صلب عظامي، وأعيش فراغا في عاطفتي بحجم الكون وأكبر.

قبل سنوات وأنا دون الـ16عام سكنت على سطوح “مصباغة” في المعلا.. كل يوم تضحي الشمس على ظهري وتشويني في الرابعة، ويلهطني شد الحر، من يرحمني من غضب الشمس؟! وحبيبات الحر تسلخ جلدي، وتشوِّه جسدي المنهك، ولا تترك مكانا فيه إلا وأصاب فيه الحر مكمن أو مقتل..

كنت أذرع الشارع وأجوس، أتمنى أن أجد من يتبناني عام أو شهر.. فراغ عاطفي يهرس عظمي.. أبحث عن بيت تأويني وأسرة حانية تهتم لأمري.. كنت أرى من يملك في عدن بيتا من طوب أو بردين أو كوخا من قش أشبه بمن أكمل دينه ودنياه وظفر بفردوس الجنة على الأرض.. أما أنا يا الله لا مأوى لي ولا فرش.. وعندما ظفرت وكأن الدنيا غفرت، وجدت بيتا آوي إليها لم تكتمل بعد، كانت تشبه بيت الفئران، فيما بيت من أحببت في منزلة الله وجواره أو تحت ظلاله وإن دنا من وصفي الفحش أنزل درجة .. جوار سدرة المنتهى أو أرفع .. هكذا بدا لي الفرق بين الاثنين..

يا لفارق يقسم ظهري ويا لطلب يجعل فمي مكتظ بلساني المعقود بخرس الصخر والأحجار لمجرد تفكير غامر ومغامر في أن أطلب يدها ولو حتى في الحلم المشفوع بالنوم الغارق في العمق..

يا إلهي.. أنا ابن الدباغ، كيف يمكن أن أجمع شجاعتي وأفكر بطلب اليد ويدي مقطوعة بالحاجة.. أنني أشبه بمن يفكر بالثورة على مقدَس متجذر في عمق الوعي، ومتأصل في عمق الوجدان في وسط جامع غارق بالتهويم والتحريم الأشد غلاظة..

أي جنون هذا يمكنه أن يحمل فقيرا مهروس بالفقر ليتجرأ بطلب يد فتاة تعلوه الدرجة ضوء بألف سنة مما نعُد..

ماذا سأقول لها ولأهل العد إن سألوني هل لديك فلة أو بيت؟! سؤال يصعق جبلا ويقذف في وجهي خيبات الأرض جحيم جهنم..

هل أنا باغ يارب لمجرد تفكير في طلب لا أملكه وبحب أبعد من عين الشمس.. عالق بالفرقد.. يبدو أن الله قد كتب لي في لوحه المحفوظ حظّي العاثر بالفقدان والمصلوب بشقاء البؤس وغياب يصل حد المعدوم.

القاضي في بداية الشباب

“2”

الحب من طرف واحد

كم كنت كتوماً يا “هيفاء”، وسرِّي في الحب أخبي لاعجه من الريح في قاع البير.. مهما كان الحيل جبلاً أو صخراً صلداً، فالحب المكتوم يا “هيفاء” يهد الحيل.. لا يعلم سري مخلوقا، وكتماناً يتلظّى في أعماقي كالبركان..

سنتين يا “هيفاء” بالصمت أمضغ خيباتي بالطول وبالعرض.. أداري عواصف أشواقي عن الأعين.. والشوق المجنون يشعل حرائقه في شراييني، وصقر يتحفز محبوسا في قفصي الصدري بين ضلوع تأكلها النيران.

تيَّمنا الحب الناقص غصبا عنّا، فكتمناه بالسر وبالتقية، واحطناه بأسوار العزلة.. البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عزّ من ذلٍ ومهانة.. ما أقسى هذا الحب يا “هيفاء” وما أشده على من حب.

في جحيم الحب الناقص صليت منفردا دون جماعة، ومن أبحث عنها لا تسأل عني، ولا تدري أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها.. الحب يا لله بدون تكافؤ فُرصه، عدالة تشبه أسنان التمساح.

“جازم” أستاذي ورفيقي ومسؤولي الحزبي طرق يوماً باب القلب المثقل بالحب وبالأعياء.. سبر أغواري كخبير وطبيب مختص، وأشار بلمح سؤال: لماذا لا تفكر بواحدة منهن؟! فشعرت بأن مجس طبيب أصاب وجعي والداء.. كيف نفذت إلى أعماقي يا رفيق المبدأ والنقد الذاتي؟! كيف سمعت صوت نبضاتي وخفقات القلب؟!!

لم أعترف لرفيقي بالأمر، وحاولت أكابر على جرحي الغائر في أعماق الروح، وأنكر دوائي والداء، فيما النار كانت تشب في كل كياني، وأنا أحاول أن أخمدها في لحظة ارباك، فيما كان الخجل يطويني كقرطاس..

كيف أطلب يدها ويدي مخلوعة من الكتف!! كيف أطلب يدها وحالي أضيق من خرم الإبرة!!

كيف يمكنها أن ترضى بي للعمر وللمستقبل، وأنا أذوي مكسوراً مهزوما أمام الشمس كشمعه.. محسوراً منحسراً لا جاه لا مال لا بيت يليق بملكة.. كيف يمكنني أن أنسي هذا الحب اللاعج وهي تطل بوجهي كل صباح وتزورني في الحلم كنسمة بحر.

“3”

عندما تكتب للريح..

“هيفاء” كانت عيناها جميلة وناعسة وعميقة.. في عينيها أسرار خالقها وسحر الله في أرضه وملكوته.. هيفاء استحوذت على كل جمال حورياته.. جمال غير مفخخ بالموت والدواعش..

وإن كنتُ ضحية لتجربة عاشها طرف دون آخر في حب أسموه بالحب الناقص فربما ليس ذنبنا، وربما بعضها أو جلها كانت من صنع مقادير أقدارنا.. ولكل مقادير ضحايا وخيبات..

خلق الله “هيفاء” حلم لي بعيد المنال، فيما خلقتي تعيس وخائب.. لا أجيد إبحارا ولا عوم.. حظي عاثر وعسير في معظم الأحيان.. أبحر في رحلة التيه دون ماء ولا زاد.. لا أملك في البحر العاصف إلا لوحا من خشب دون شراع، ومجدفاً واحداً ويتيم، وذراعا وحداة عسرا وأخرى مقطوعة من الكتف، وفي الحب خلق من الخيبات لي ما ليس له عدا ولا حصرا..

كتبت عن عينيها في نشرة حائطية.. كتبت عن عيناها بدم قلبي النازف والمثقل بالحب والتعب والأرق.. كتبت عن بحر عيناها العميق، وعن حبي الضارب في الخيبة، وخيبة بحَّار مضطرب أكثر من اضطراب البحر الذي يحاول عبوره، ولا يملك لعبوره إلا لوح ومجداف ويد واحدة..

شاهدتها تقرأ.. يا إلهي!! الآن أريد أن تقرع أجراس كنائس العالم.. الآن أريد أن أعلو كل المآذن وأصلي للرب ألف ركعة.. “هيفاء” تقرأ ما كتبتُ.. أردت أن أجعل من ذلك اليوم عيد قيامة للحب.. ولكن بحجم ما ظننت كانت خيبتي..

بعد خمس دقائق شاهدتها تغادر .. شعرت كأنني كتبت ما كتبت للريح العابرة دون صفير.. بدت لي بليدة الفهم ومتبلدة المشاعر، حيث لا تسمع ولا ترى ولا تحس ولا تجس، أو متغابية لا تريد أن تحس أو تفهم أو تكترث بضحية، وربما كنت أنا البليد والغبي مجتمعين حال كونني لا أفهم كيف أوصل إليها رسائلي، وما يعتلج من حب كثيف وعاصف في أغواري وأعماقي المشتعلة بالحب..

كنت أظنها ستقرأ ما كتبت وتعيد قراءته عشر مرات.. ولكن لا أدري إن كانت مرت على العنوان مرور الغبي أو أنها توقفت دون أن تقرأ أو تكترث، وكان وقوفها مجرد استطلاع عابر سبيل وغير معني بالبحث عن الضحية..

يومها غادرت الكلية ولم أكمل دوام اليوم، وشتمتها في نفسي وشتمت نفسي أكثر وأنا لا أجيد الشتم..

لعنتها ولعنت حظي ولعنت الغباء ولعنت أكثر خجلي العاصف والمتلاطم بالخيبة.

“4”

تردد وخوف..

كنت أعيش مشاعر متناقضة كموج بحر يلتطم ويعترك مع شاطي من صخر أو طقس مضطرب أو زوبعة تركض كحال رجل تلبسه الجن في نوبة غليان.. كنت أشعر بمشاعر تتقاذفني وحدي كأسير في زنزانة أضيق مساحة من مد اليد ، لا أجد فيها فسحة نفس واحد لأفكر أو أجمع شوارد تفكيري من أرجاء التيه..

تقاذفني الإقدام وتردد اكبر.. زحام من حزن وفرج يشق طريقه في الضيق، وحصار من هم يسد الطرقات.. وأمل في وجه جدار اليأس يحاول يحفر ثغرة بحثا عن نور.. وتضيق الجدران أحيانا حتى تلصق بي فأبدو كمصاب بالصرع.

كنت عندما أشاهدها أشعر بقلبي يقفز من بين ضلوعي كعصفور يخرج من قفص أو سجن.. يحتفل بمقدمها ويرقص على إيقاع خطوات الحلم الراقص، وتشتد لحظات إرباكي وتظهر جلية للسطح العاري فأقمعها كطاغية أو دكتاتور لكني أفشل..

عندما تتجاهلني أشعر بتشظي وتناثر أشلائي .. وبحزن يضرب في بالغ أعماقي والوعي، وأرى قلبي قد ذُبح كعصفور أو أنكسر كإبريق صار نثارا أو وقع من سطح عالي وأرتطم بالقاع الصلد..

كنت أريد أصارحها بحبي الجم، ورغبة تعصف بي وطلبي لعقد قران وزواج يدوم العمر.. ولكن كنت أتأنِّي لألتقط رد إشارة يساعدني على استجماع شجاعة من أطراف الدنيا لأكون جريئا بعد الآن.. وعندما لم أجد ردا أو بُدا أتردد خجلاً والخوف يقمعني من أن ترفضني، وهذا الرفض كنت أراه سحقا لي لن أتعافى منه بقيامة..

في إحدى المرات كانت تؤشر لزميلتها فيما كنت أظن أن تلك الإشارة هي لي.. كانت إشارة صارخة كبرق في ليل مسود.. كاد قلبي يقع أو يسقط دهشة.. يا هول مفاجأة أكبر من قدر قادم وبشارة نبوة وولادة.. هل يمكن يا الله أن يكون عبوري للضفة الأخرى بهذا اليسر .. بدت لي صارخة الاستدعاء!! حبيت أن أتأكد إن كنت المقصود بإشارتها، فتبين إنها ليست لي بل لزميلاتها الواقفة خلفي.. في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني مرات عشر .. تمنيت أن يخسف بي الرب وبالأرض التي تحت أقدامي إلى سابع أرض.

راوحت في منطقة الحيرة وترددت كثيرا .. ثم يداهمني الشك وظننت أن الرفض سيكون سيد موقفها أما لغياب الود أو لفوارق طبقية، فضلا عن مانع آخر فأنا أكبرها في العمر بعدد أصابع يد تخنقني بعد أن عاجلني الزمن ليضع الفرق خمسا أراها أكبر من عمر الشمس.. وأنا لا أستحمل رفضا يسحقني ويهزمني لآخر يوما في العمر.. لا أريد أن أتهور فتطويني كالرمة وترميني بكبر أو تكسرني كزجاج لا يعود لسابق عهده .. تحاشيت كسرا لا يجبر ضرره..

“5”

أنا وصديقي محمد قاسم

الحب الصامت والخجول والمقموع في ذواتنا يا صديقي هو حب بالغ العفة والصدق والإيثار.. تضحية بالغة من طرف واحد.. حب ناقص نصفه، ولكنه عظيما في جلالته وقدره عند المحب .. حب مدفوع بجسيم التضحية حتى بلغنا فيه من العذاب حد الجحيم..

هذا الحب يا صديقي عشناه وغرقنا فيه حتى العمق وأبحرنا فيه إلى أقاصي التيه..

هذا الحب يا صديقي وإن كان معاقاً ومصلوباً ومعذّباً إلا أنه تجذَر فينا إلى حد التماهي وعيا ووجدانا وذاكرة..

هذا الحب الذي كابدناه يا صديقي وواريناه تحت الضلوع ناراً تصطلينا من الداخل كبراكين جهنم، عوَّضنا إرادة وإصرار على النجاح في ميادين أخرى، ولم نهدر العمر سُدا.. كتمنا آهاتنا ووجع العذاب، ولم نبح بسرنا وسر من نحب إلا لحظات انفلات عقاله في الحلم عند نومنا العميق.

كانت لصديقي محمد قصة حب مشابهة لقصتي.. كنت أشعر أن ما يملكه صديقي محمد من الحب يكفي أن يوزع على كل نساء الأرض ويزيد.. يا بخت من أحببت يا صديقي!! إنه حب عظيم، وبقدر عظمته يكون العذاب شديد..

كنت يا صديقي أسمع أصدقاءنا المقربون يحتسون الحش، فقررت أن أكتم قصتي عن الجميع بما فيهم من احببت بعد أن تعذر افهامها بحبي وادركني اليأس.. ظللت أعيش قصتي والنزيف بكتمان شديد وربما كان يعني افتضاحي كمن يستدعي الحكم بإعدامي بطريقة “داعشية”.

نعم يا صديقي محمد، الحب الصامت أجل وأعف وأقدس.. يعيش داخلنا مشتعلا ومتأججا ونحن نداريه عن الأعين ونحاصره في الوعي واللاوعي والوجدان وتحت الضلوع..

إن حُبَّنا يا صديقي يشبه البركين المتأججة والمضطرمة تحت قشرة الأرض تظل مشتعله وإن تراكمت على سطحها طبقات الثلج وجبال الجليد..

هذا الحب بقدر ما سبب لنا يا صديقي كثير من العذاب إلا إنه ألهمنا إلى مغالبة التحدِّي وإيجاد ذواتنا واقتحام دروب نجاحات أخرى.. لقد أصبحت أنت دكتورا وأستاذا في أكاديمية، فيما أنا شقِّيت طريق آخر، ولم نستسلم للموت، ولم نقضِ بقية العمر نبكي على اللبن المسكوب، بل استطعنا بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل والعبور إلى المستقبل رغم المعوقات والكوابح والظلام الكثيف.. إننا يا صديقي نشبه ذلك المعوق الذي غلب إعاقته وحقق من النجاح ما لم يحققه كثير ممن هم سليمين العقل والبدن.

القاضي وصديقه محمد قاسم في كلية الحقوق

صديقي محمد قاسم اليسار في الصورة وأنا في يمينها بالصف الأول

“6”

خيبة ثالثة في الحب

أختطبت “هيفاء” من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في الجامعة.. لم أعرف بواقعة الخطوبة ولكني لمحت دبلة الخطوبة في أصبعها .. كان وقع المفاجأة أشبه بوقع الصاعقة.. شعرت أنها شقتني نصفين وبعثرت روحي كالزجاج الواقع عليه صخرة كبيرة من شاهق.. أحسست أن الدبلة تطوق عنقي وتخنقني وتكتم أنفاسي.. أحسست أنها مشنقة تعدم مستقبلي.. شعرت بأحباط يجتاحني كطوفان وندم يتعدى أطراف الكون.. أحسست بالفقدان والضياع الكبير..

تذكرت مَثَل كرره علينا الدكتور أحمد زين أكثر من مرّة في محاضراته، وكان يُضرب فيمن يستحي من إبنة عمه، وليس من المناسب هنا أن أذكر هذا المَثل أو أتذكره.. المهم أنه في النتيجة أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة المريرة التي كان يجب أن أفترضها وهي الأرجح حدوثا عقلا ومنطقا وهي الطبيعي في المحصِّلة.

صدمني الواقع بما لا أتوقع، وكان تقصيري أنني لم أفترض ولم أتوقع ما يجب افتراضه وتوقعه..

ظللت مراوحا في نفس المكان أنتظر دون قرار، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة وكان فشلي في الحب ذريع..

ظلّت عقدت انتماءها الارستقراطي أو ما يشبهه عالقاً في ذهني وتفكيري، وبدا التحدِّي صارخاً للبحث عمّن يعوضني عن “هيفاء” وأكثر.. بدأت أبحث عن ميزات لا أظنها تجتمع في فتاة.. إنها فتاة لن أجدها إلا في الخيال، أما في الواقع فلن أجدها لا في مجرتنا ولا في غيرها من المجرات..

صديقي عبيد صالح الشعيبي قال لي وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها.. كدت أطير من الفرح .. قالها لي كما قالها يوما أرخميدس “وجدتها .. وجدتها”.. ذهبت معه إلى “كريتر” وفي أحد المعارض التجارية كان هناك عرض لملابس نسائية على دمية امرأة تقبع خلف الزجاج، فأشار إليها بالبنان، وقال: “هذه من تبحث عنها وتناسبك”.. وبقدر شعوري بالنكبة قهقهنا حتى لفتنا انتباه العابرين في الشارع العام.

في غمار البحث عمن هي أجمل من هيفاء وبعد طلوع الروح وجدت في القرية فتاة أجمل من هيفاء، ـ بمقياس التحدِّي ـ وتتميز عنها وعن كثير من الفتيات أنها لا تملك قيمة حذاء، وهذا جذبني إليها أكثر، بل كنت أشترط لمن يساعدني في البحث من النساء وأقول: “أريد فتاة جميلة لا تملك قيمة حذاء” إلا أن “الحلو لا يكتمل” حيث كانت قليلة التعليم، والعقل أيضا، ومع ذلك حدّثت نفسي أنني من سيعلمها وأحاول تكبير عقلها ما استطعت..

الفقراء جميلون وكانت هي أكثر من جميلة.. أحببتها من النظرة الأولى وليس من الثانية أو الثالثة.. الفقيرات ناضحات بالجمال وأحيانا بالجمال الباذخ، ولديهن استعداد ـ كما أعتقد ـ أن يشاركن الشريك على عبور الجحيم إن لزم الحال..

كانت درة مكنونة وكأنني وجدتها في قاع المحيط.. جمال داهش ومبهر تملكني وأستحوذ على كياني من النظرة الأولى، فيما حب هيفاء أحتاج ليومين أو ثلاث أيام ليثملني ويسري في الوجدان والبدن.

خطبتها بطريقة غير تقليدية.. من أمها في النهار .. ثم من أبوها في لجة الليل.. كدت أقطف النجوم ليلتها أوسمة انتصار ونجاح وسعادة بدت لي أنها لن تنتهي..

وبعد أسابيع أنقلب الحال عندما أفسد بعض المحسوبين على الإخوان المسلمين موافقة الأب على الخطوبة إن لم يكن قد ضغطوا عليه.. وتراجع الأب عن موافقته بمبرر أنني شوعي وملحد.. فعدت أدراجي مكسور الظهر والخاطر والفؤاد.. عدت ألملم روحي المحطمة وأملي المنثور على الشوك .. عدتُ أبحث عن فتاة أخرى لعلي أجدها.

“7”

ألتقينا بعد انقطاع دام 21 عام

لست أنا فقط من أحب، وجالد حباً ناقصا امتنع من أن يكتمل.. لست الوحيد من غرق في الحب حتى قاع المحيط، ومن طرف دون آخر.. جرت معي تجربة معكوسة تقف على النقيض من قصتي الأخرى ، ولا أدري متى بدأها الآخر، ولكن فطنتها في السنة الرابعة قبل الرحيل.

الحب الناقص لم يكتمل، ومثل قصتي مع “هيفاء” كان للآخر قصته معي، وفي كل قصة يوجد إحدانا ضحية.

كان هناك مساراً للحب معاكس لما أتمنى وأشتهي.. عتبت على أقدارنا التي وضعت قلب كل منّا على مدار مختلف.. وقياس مع الفارق وكما حدث في قصتي مع “هيفاء” حدث لأخرى مثل قصتي أو على نحو مقارب.

فتاة أحبتني، ومن جهتي حاولت إصلاح مدار أقدارنا المتعاكسة فجاءت الأقدار على غير ما نريد.. حاولت أن أعطي فرصة لنفسي لعلِّ أحبها، فأدركني الفشل، فيما هي انسحبت كسيرة بعد أن ظلمها الحب وضاعف ظُلمها القدر.. كانت ذكية ومتفوقه، ولكن الكيمياء ليست في قبضة المحبين، وإنما هي في قبضة مشيئة أقدارنا التي تملكتنا ولم نملك فيها إصلاح مساراتنا الطائرة في التيه.

كم أنا أسف وكل الأسف إن كنت يوما قد كسرت قلبها.. لقد اكتشفت ثمة وجود خلل في مسارات الحب وكيمياء النفوس واختلاف الطباع، وفي بنية الكون أيضاً.

تخرجت من كلية الحقوق في عام 1989ولكن المستوى ما قبل حب هيفاء لم يكن كما بعده.. قبل أن تأتي هيفاء حزت على المرتبة الأولى في الدفعة ثم تراجعت حتى وصل تراجعي إلى المرتبة الخامسة في سنة رابعة.. ربما لم تكن “هيفاء” السبب الوحيد، ولكن ربما كانت سبب من جملة أسباب إن لم تكن هي السبب الأهم.

“هيفاء” تزوجت لليوم ثلاثة، فيما أنا تزوجت من فتاة واحدة، أحببتها من النظرة الأولى في غمار البحث عمِّن تشاركني السعادة والنكد وعبور الجحيم، ولم أفكر يوما بالزواج عليها بأخرى، بل أنني أعتبر الزواج من ثانية جريمة لا تغتفر، تؤذي الحياة والمشاعر، وتقتل فينا الضمير، وتشوِّه الحب والروح والجمال.. عمَّدنا حبَّنا بالعِشرة الطويلة والصمود الأكيد والتحدّي، وجذرته مصالح سبعة من البنين والبنات.. كان حبي لها، من أول نظرة، ودفعة واحدة، وعقدنا نافذ وأكيد إلى آخر العمر.

ألتقيت بـ “هيفاء” في ساحة التغيير للمرة الأولى بعد أكثر من واحد وعشرين عام من الغياب والانقطاع.. وحدنا الظلم الواقع علينا وكل منّا له مع الظلم ألف قصة.. وحدنا الحلم الكبير، وثورة شعب سرقها اللصوص وخانوها بعد عهد قادة الأحزاب وضعاف النفوس..

ومثلما ألتقينا في ساحة التغيير 2011 على نهج وهدف، ألتبس الأمر على إحدانا وربما على الاثنين في 2016 وصرنا على طرفي نقيض..

هي حصدت بعض ما تمنت من السلطة، فيما أنا بقيت على حالي ثائرا ضد الجميع أو أكاد أو هكذا توهمت.. فرقتنا الحرب وتشظينا كقطع الزجاج ، وجعلت الحرب كل منّا يقف في الموقع النقيض..

ألتقينا في الخارج قبل الحرب وكنت أحكي لها عن قصتي معها، وأقهقه بصوت أشبه بطاحون، وفيما أنا أقهقه تذكرت أنني قرأت في يوما خلا أن كل مقهقه يخفي تحت قهقهته مخزون من الحزن الكثيف.

“8”

اعتراف وبوح لـ “هيفاء” بعد ربع قرن

• كانت عيناك عميقة وساحرة.. فيها سر القيامة.. كتبت عنهما، ولكن يبدو أنك كنت مشركة بهما أو جاهلة لا تدركين.. كتبت عنهما بجرح غائر في الروح وفاه فاغر يبتلعني كل يوم مرتين.

• كنت “يا هيفاء” احاول أن أوجه سهام عيناي إلى عينيك مراراً، وكانت عيناك عنِّي دوما شاردة.. ألف سهم رجعوا خائبين، ليصيبوا قلبي المفطور بحب التي لا تحبني.. كنتُ عاشق مثخنا بألف جرح وخيبة.

• كنت أحاول أن أصدمك بنظرة تشبه صاعقة لتأخذي بالك مما يعتلج في صدري من جحيم واشتعال، ولكن خابت صواعقي وعادت تحمل إلى صدري الصبور ألف خيبة وصاعقة.

• كنت وأنا أحاول أن أكتب عنك ما يليق أجمع أشتات ذهني وأشلائي المبعثرة وروحي المهشمة كالزجاج، ولكن ما أكتبه كان لا يصل صوته أو صداه إليك بسبب خيبتي أو كُثرة ما حولك من ضجيج..

• كنت إذا مررتِ من جواري أشعر أن نسمة صباح مرت من جانبي .. وكنتِ تنامين تحت جفوني كل مساء وتصبحين..

• لا زلت أذكر أنك كنتِ تفردي شعرك صرتين في اليمين والشمال.. لا زلت أتذكر كيف كنتِ تسيرين.. كنت تشبهين في نقلات أقدامك وممشاك سير الحمام.. كنتِ إذا ألقيتي عليّ السلام أو كلمة عابر سبيل تصير زادي ومائي أسابيعا وشهور.

• كتبت فيك يوما قصيدة، وكنت طالبا في الشعر فاشل، ولكن كنتِ ملهمتي والقصيدة استهللتها بمطلع من نور: ”من نور سناك يرتشف الفجر فتغار الشمس وينتحر البدر”..

• كنت أحدث نفسي وأسأل: كم هذه الأقدار علينا قاسية، وهي ترفض نقل إحساسي إليك.. كان قلبي يخفق ويضطرب كإعصار أو عاصفة، فيما أنتِ كجلمود صخر لا تحسين ولا تشعرين..

• كنت وأنا أحدثك أشعر إن أقداري لم تتقن صناعة جهازي العصبي، وأن فيه ألف خلل وأنا أعيش لحظة إرباك تعتريني وكأن على رأسي يقف ألف عفريت وطير..

• دوما كنت أشعر أن خسائري المتكررة في الحب كان سببها خوفي وخجلي وترددي واضطرابي.. كان حبي الناقص ـ أو المفقود طرفه الآخر ـ بعض مني ومن تاريخي الذي أخبوه كتلميذ فاشل يداري عن والديه وأصدقائه والناس درجاته الفاشلة والتي في مجموعها تساوي صفراً بحجم الكون.

• تعرفي أن أول “كفري المجازي” كان من ضمن أسبابه فتاة وكنتِ الثانية.. كنت أسخط على قدري بالتمرد و”الكفر”.. حتى قصص حبي معك ومن قبلك كانت شبيهات بعض في خيباتها.. كان حب كهذا من طرف دون آخر لا يجلب إلا “الكفر” والتعاسة والعذاب.. كنت أحدث نفسي وأقول: كان على القدر أن يوصل لك صوت وجعي العميق أو على الاقل يقول لك هناك شاب بحبك يحتضر.

• تعرفي أن حبي الأول والتي مكثت فيه أكثر من ثلاث سنين ولا أعرف بالتحديد اسم من أحببت؛ هل هي ليندا أم رندة؟! جاءتني بنتين فأسميت وحداة منهن ليندا والأخرى رندا تحوطا لأي خطاء في الاسم.. كم أنا مجنون في الحب.. هل قد سمعتِ في حياتك بشاب أحب فتاه أكثر من ثلاثِ سنوات وهام بها حد التيه والغرق، ومن طرف واحد، ولا تعرف هي بحبه وهو لا يعرف حتى اسمها!! كم أنا “خائن” يا زوجتي ويا عمر مكلل بالخيانة رغم ما بيننا من وفاء.. كم أنا بشر يا زوجتي ويا كل العزيزات.

• أما اسمك يا “هيفاء” فكنت أستخدمه متخفيا في معرفاتي “الكُفرية”، وقد وجدت فيه اسم هيفاء مقاربا لاسمك الحقيقي، ووجدتك في اسم هيفاء تنبضين.. أنه اسم صنعته من اسمك واشتعال دمي.. إنه جميل جدا ولكنه يشبه العدم .. حب لم أدركه.. الحب الذي لا نطول جناه ولا ندركه يبقى إلى الرحيل تعاسة وعذاب.. عذاب إلى آخر العمر.. ولذلك قررت ولأسباب أخرى متضافرة أن أخوض به وباسم ليندا معركتي مع “السماء”.

زر الذهاب إلى الأعلى