العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. أنا ابن الدباغ .. الإنسان

يمنات

أحمد سيف حاشد

– بعد ما قاله لي صديقي حسين، و ما كشفه لي رفيقي عبد الوهاب قطران عن معنى انتمائي و أمثالي في المخيال الشعبي، لدى بعض قبائل و مناطق اليمن، أو بعض المجتمعات المحلية فيها، و ما يلحق صاحبها من الانتقاص و النظرة الدونية، لم أخجل و لم أتخفِ و لم أحاول جبر ما بدا مكسورا، أو ستر ما أنكشف، بل على العكس، دافعت عما أعتقد باعتزاز يليق، و لم أخش من معايرة، و لم أتحرج من عمل والدي، أو من المهن التي أرتادها خلال تاريخ حياته، بل اعتزيت بنفسي كثيرا، و بأبي الذي حفر بالصخر من أجلنا لنعيش بكرامة، و اعتززت بانتمائي الذي استطاع أن يحجز له مكانا في الصخر الصلد، و بتحدي مضاعف، ليكون و أكون كما يجب..

– غير أن الأهم أنني لم أنجر إلى البحث عن عصبية صغيرة مقابلة، تقتل أو تشوّه الإنسان الكبير الذي يملاني، و يسكن وعيي، و يدأب إلى تحصيني من أي هشاشة تعتريني، و لم أتنازل عن الضابط الاخلاقي المنسجم مع هذا الإنسان الذي يسكنني، و الإنسان الذي أبحث عنه خارجي، و خارج  انتمائي..

– و لا يعني هذا أنني لا أقاوم، و لا أهاجم الاستصغار الذي يحيط بي، أو يحاول أن ينال منّا كشرائح و فئات مجتمعية، من حقها أن تحظى بحقوقها كاملة، و أولها حق المواطنة .. و لم ابحث يوما عن انتماء آخر لا يليق بي كإنسان أولا .. و في هذا السياق و إطار ما أشرت، كتبت تحت عنوان “أنا إنسان” التالي:

“أنا لست ابن السماء .. أنا ابن الدباغ الذي يثور على واقعه كل يوم دون أن يكل أو يمل أو يستسلم لغلبة..

أنا ابن الدباغ الذي لا يستسلم لأقداره، و لا ينوخ، و إن كانت البلايا بثقل الجبال الثقال .. ابن الدباغ المجالد الذي يعترك مع ما يبتليه، و يقاوم حتى النزع الأخير..

ابن الدباغ الذي يتمرد على مجتمع لازال يقدس مستبديه .. ابن الدباغ الذي يقاوم نظام لا يستحي عندما يدّعي .. نظام يدعي العدل، و هو يتعالى على الوطن الكبير .. يخصخص المواطنة، و يغيب المساواة، و ينشر الفقر كالظلام الكثيف، و يحبس الحرية في محبس من حديد..

أنا الحر الذي يجرّم القتل و لا يستسهله، و لا يشرب الدم و لا يسفكه، و لكنه متهما بشرب الكحول..

أنا ابن لأب لا يبيع الموت و لا يهديه و لا يجعله مقاسا للرجولة أو معبرا للبطولة..

أنا ابن صانع الحلوى و البائع لها، يأكل من كده و عرق الجبين .. أنا ابن أب يصنع الحلوى و يهديها للأصدقاء و الفقراء المعدمين..

أنا ابن صانع الحلوى .. ابن الحياة .. أرفض الحرب و المآسي العراض، و لن أكون يوما من صّناعها أو تجّارها، و لم أعش يوما عليها، و لم ابنِ مجدا على جماجمها الكثيرة، و لم أحتفِ يوما باتساع المقابر، أو بطوابير النعوش الطويلة، و لم أطرب لركام الضحايا الكبير، و لم أضخ الكراهية، و غلائل الحقد التي لا تنتهي”.

*

و في مناسبة و تاريخ آخر كتبت:

أنا لم أقِم الحزن يوما في مبيتٍ

لا أبيع الوهم و الأفيون للمرضى

لا ادفع الناس أفواجا للمهالك

أنا لا أنشر الموت بين الناس وعدا

في حياة أخرى و دار ثانية..

و أداري تحت العمامة ألف جزار و جلاد و ليل..

إن شربت الكيف خلسة، فإلى الله أسافر..

لا أنافق .. لا أزايد..

و لا آم القوم ثملا في صلاة كالوليد ابن عقبة

و لا أنام الليل فوق نهود العذارى

و حلمات الجواري كالخليفة هارون الرشيد

*

أنا لا أفاخر بهندِ و لا بمن تأكل الأكباد .. و لا أفاخر بنسب أو قبيلة أو بقاتل .. أنا بقابيل لا أكترث..

لا أتسول التاريخ زادي، و لا أدعي فيه سلطان و ميراث .. و لا أدّعي حقا من قبل آدم و حواء، أو ما قبل الثريا..

أنا لست من ماء السماء، و لا سليل من علي و فاطمة .. أنا الفتى ابن أبي .. و أبي ذلك الدبّاغ الذي كابد الدهر، و عانا العناء، و أقتات من عرق الجبين..

*

و حتى لا تُفهم الأنا المكررة فيما سبق غرقا في النرجسية أو الأنانية أو العصبية المقابلة كتبت:

“عندما أقول أنا، فليست هي الأنا المثقلة بالأنانية و الاستحقاق غير المشروع؛ لاسيما عندما تقذف بها في وجه الظالم المستبد، أو تحاول بها إزاحة الظلم الكبير الذي يثقل كاهلك..

انها الأنا المعتزة التي ترمي بها غرور من لا زال يراك دونه هوية و مواطنة، و يدّعي خيلاء و مكابرة في الألفية الثلاثة أنه من ماء السماء، و يراك مجرد كائنا يدب على أربع جاء من روث الحمير..

إنها “أنا” المقاومة التي تقذف بها وجه من يختزل الوطن بشخصه، أو يحصرها في نسل أو قبيلة أو جغرافية صغيرة..

المثقف العضوي يجب أن يكون في الطليعة من أجل الناس، و قد قالها يوما ممن ينتمي لهم رانيا لمستقبل نتطلع إليه، قالها بمعنى: طالما أنك تعبر عن حقوق و مستقبل الناس، و تعبر عن تطلعات شعبك، فأنت تصير الشعب مهما كنت قليلا..

أنا الحالم ابن كل هؤلاء الأحبة .. أنتمي للحلم الكبير كبر المجرة، بل كبر هذا الكون الفسيح الذي يكسر محبسه و يسافر للبعيد دون حدود أو منتهى”.

*

و كشفا لمن أراهم ملهمين لي و أشعر بانتمائي لهم كتبت:

أنا من تسكنه روح قائد ثورة العبيد “سبارتاكوس” الذي ثار ضد الاسترقاق في عهد العبودية الثقيل، له المجد و الخلود و لمن قتلوا وصلبوا و أعدموا معه”..

أنا من تسكنه تحدي ذلك الإسكافي العظيم (ماسح الأحذية) الذي صار رئيسا لأكثر من مائتين مليون نسمة في البرازيل خامس أكبر دولة في العالم، سواء من حيث المساحة الجغرافية أو عدد السكان.

*

أنا من يجد إلهامه في غاندي ذلك العظيم الذي أسس مدرسة عظيمة في النضال السلمي، و جعل من الهند متعددة الأعراق و القوميات و الأديان و الطوائف و الثقافات بلاد متعايشة و متنوعة .. الهند أمة المليار نسمة الثانية في العالم من حيث عدد السكان و السابعة من حيث المساحة و الاقتصاد.

*

أنا من جُبلت على التسامح، و وجدت في ذلك العظيم نلسون منديلا المناضل الأفريقي الأسود قدوة و مثالا  وملهما .. مانديلا الذي ناهض سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا و مكث في سجون نظامه أكثر من 27 عاما و خرج منها غير حاقد أو منتقم..

منديلا الذي منح عفوا فرديا لكل من يدلي بشهادته حول الجرائم التي ارتكبت و بجلسات سماع استمرت عامين حول عمليات الاغتصاب و التعذيب و التفجيرات و الاغتيالات، و هو ما ساعد خروج جنوب أفريقيا من ماضيها الثقيل، و الابتعاد عنه و التركيز على الحاضر و المستقبل.

أنا من أجد نفسي في كل إنسان..

أنا إنسان.

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى