العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. غموض واعتقادات

يمنات

أحمد سيف حاشد

(6)

علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة و اعتقادها بهم راسخا و صارما، فهي تدعو الله، و تستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خبرتهم مرارا، و صارت تثق بهم، و تعتقد بيقين إنهم يساعدونها .. عندما تريد شيئاً منهم تنذر، و تنطع الشمع، و تذبح لهم الذبائح و تطعم الفقراء، إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خطب جلل يستحق الذبيحة .. و أستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 و ربما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى “قانون الجذب”، أو شيئا منه أو مثله..

و في الأحلام كانت أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام، و يخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواء كانت مفرحة أو فاجعة .. أذكر أنها قالت لي في إحدى المرات إن جدتها “جنوب” جاءت تخبرها في المنام، إنه سيحدث (أمر جلل) و تحقق ما قالته خلال أيام قليلة، و كما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس .. لقد كان حلم أشبه بالحقيقة، أو برصاصة اصابت الهدف في الرأس و المنتصف، دون أن تنحرف عنه مليمترا واحدا..

عندما كنت معتصما و مضربا عن الطعام مع الجرحى في محاذاة سور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني و يقف معي ويقف مع من يقف معي .. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير و ينجوني من المخاطر، و يحضروا معي في كل ملمة و نائبة، و كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية فئة ألف ريال، و تسبعها في الماء، و تقرأ عليها القرآن، و تنذرها للمساكين و المحتاجين، و هي مطمئنة إلى ما تعتقد، و تدّعي أن ما تفعله كفيل بأن يحفظني من شرور البشر، و التي تعتقد إن شرورهم، تفوق شرور الشياطين.

أمي و بحسب ما ترويه هي أيضا، عندما تضيق بها الدنيا و تشتد، أو يكون هنالك أمر جلل، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، فتشعر بشيء يبدأ يتكور في داخلها، ثم يكبر كالكرة، و يظل يكبر حد الامتلاء و الفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، و يرتعش جسدها كـ “طبيلة” المجاذيب، أو كأن شيئا يلبسها و بما يخرجها عن طورها، و لا تهدأ و لا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ ما في رأسها و صدرها من طاقة بنطح الجدار .. نطح قوي و متتابع و مثير للدهشة .. و تجعل من يشاهدها يبدو مشدوها و غارقا في الذهول .. ما تفعله كان أكبر من الانتحار و الجنون، و كأنها تأخذ حقها من الجدار مرتين و ثلاث أو بضعفين و أكثر.

في إحدى المرات تدخلتُ بجُرأة، و مسكتها بقوة و أبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي، و بعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثرا على الأرض، أو مهشوما كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله و في لحظة ذروته..

كان الجدار من حجر الجبل الصلد و الشديد في صلابته و تحديه، و على نحو راعني، حتى خشيت على رأس أمي، و لم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها يؤذيها على نحو لم أكن أتخيله .. انفجرت أمي بالبكاء الشديد و بحرقة لاسعة و عتاب مملوء بالخيبة لم أعهده في حياتها من قبل و هي تقول لي: (عثرتني .. عثرتني .. عثرتني) .. ثم مرضت عدة أيام .. و من بعدها كنت أتركها تؤدي طقسها مع الجدار، و على راحتها، و النحو الذي يروق لها، حتى تنتهي منه، و تهدأ كبالونه فُتح ما يسد بابها..

و ظل نطح الجدار يحدث مع أمي حتى آخر شهر في حياتها، و قد قارب عمرها على الأرجح الثمانين عام .. و في السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صرنا نتوقع قدوم ما هو سيء .. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلا بتلك الطريقة الغريبة..

لقد أحاطني يوما الخطر، و أصيبت أمي بنوبة هلع، و ردعت الجدار أكثر من مرة، و لم تنته مما هي فيه إلا باتصالي التلفوني العاجل، الذي هدّاء من روعها، و أوقف نوبتها الجنونية .. شعرت يومها أن حميميتنا أكبر منّا، و أن هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، و ربما هو إحساس غريزي قوي من الأم بما يتهدد ابنها من خطر، و الذي تحبه كثيرا، بل أكثر من نفسها، و أكثر من إخوته أيضا..

كانت تقول لي: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عمري، و يطيل بها عمرك .. فطال عمر كلانا .. فقاربت هي من عمر الثمانين، و أنا أقارب الستين .. و قبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، و لا تنفذ إلا طلباتي و إن كانت كرها عليها .. عندما أشتد عليها مرض الموت، كانت تأثر الموت على أن تأكل أي شيء .. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت و غصبت نفسها عليه، و على نحو أشعر أن ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت و طعمه، ثم أتفاجأ بعودة ما أكلته بعد ساعة، و كأنه كان مختبئا في مكان ما بفمها أو شدقها أو بلعومها .. يعود و يخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أن كنت أظن أنه قد أستقر في معدتها، أو ذهب إلى ما بعدها..

لقد تعلقت كطفل بأمي حتى آخر حياتها، و قد قاربتُ الخطى نحو الستين أو أقل منها بقليل .. كنت آثرها على جميع من يعيشون معي، و كنت أنحاز للانتصار لها، غير مكترث لما يصيب غيرها..

كانت أمي هي الخيار الأول دوما، و الذي آثره و أفضّله على كل الخيارات .. فإن انفعلت حيالها في لحظة توتر قصوى و نادرة، ما ألبث أن اعتذر لها بندم شديد، و قد أشعرتني إن فسحة قلبها جنة ليس مثيلا لها في وسعها، و غفرانها لا ينتهي..

كانت أمي ما أن تفرغ من نطح الجدار، حتى تهدأ و تستريح .. فإن لم تهدأ، تعاود الأمر مرة أخرى،  فتهدأ و تستريح .. فقط عندما أحاطني الخطر، كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من روعها إلا باتصال مني و التحدث معها .. لقد كانت تجزم و تلح أنني في لحظة خطر محدق و أكيد، و كان الحال كذلك، و قد أوشك الخطر على الوقوع، و لم تنقذنِ منه غير دقائق قليلة.

مشاهد متفرقة و كثيرة، لا عد لها و لا حصر، شاهدتها و هي تنطح الجدار .. كانت تستعد و تهرول و تنطحه ثلاثا و أربعا و عشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم، و لم أفهمه إلا بأنه خارقا للعادة، و بكل تأكيد .. فهي لا تجيد الكذب و الخديعة و خفة الحركة، و لم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض و لا سرك..

هنالك كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم .. كان أبي إذا خرج ليلا و أصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه .. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة..

أنا و خالتي سعيدة زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى “سيّرت” بطن قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يهل علينا ضيف نحبه، و إذا “حفّت” يد إحدانا نستلم نقودا، أو شيئا يفرحنا، أو نصافح كريما، أو ضيف يبهجنا .. و لازال هذا يحدث معي إلى اليوم..

لقد كان لنا حدسا و حواسا يقظة، و لم يعد منها اليوم غير أطلال، أو بقايا أقل من القليل.

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى