العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. تعلُّم وتغيير واكتساب صفات

يمنات

أحمد سيف حاشد

الحركة النظامية التي كانت لا تروقني، و كثيرا ما تكدر صفوي، بل و كنت أمقتها، و أصب عليها اللعن، صارت بعد مرور العام تثير فيني طربا و دمدمة شجون .. فبمجرد أن أسمع صوت الفرقة يتناغم، أو حتى الطبل بمفرده، أجد نفسي منسابا كالماء إليها دون شعور .. ضربات الطبل تحرك أعماقي كدوامة إعصار، تحفز أقدامي؛ فأجدها تضرب الأرض على إيقاع الطبل..

في الواحد و العشرين يوم، معهودا لي يوما بقيادتها و بحسب الدور، الفصيلة الأولى مشاة .. يتحسن أدائي حتى تجاوزت خجلي المعهود .. تجاوزت ما كنت أعاني من إعاقة في ضبط الحركة، و بلادة في تقدير ما يفعله الإيقاع .. صار طولي الفارع مع مدت ساقي، و ضربات الطبل، تتوحد في مقام يعلو زهوا حتى بلغ القمة..

صرت أشعر و كأن هناك عملاقا نائم في أعماقي .. ما أن يسمع إيقاع الموسيقى و دقات الطبل، حتى ينهض كالمارد .. يرقص بنشوة فارس، و ولعة مجنون عاشق .. ترقص أقدامي و معها نياط و أوتار القلب .. كل شيء نائم يستيقظ، مع أول دقة .. عزف و الحركة نظام .. يوم يتجدد، و عشق يتأجج، و طرب يشجي ما في النفس .. كل ذلك صار مدمج في روحي .. روحي راقصة لا تتعب .. رأسي مملوء بالنشوة، و أقدامي تنجذب بلهفة شوق جارف نحو دمدمة الطبل، تسكر على إيقاعه، و كل يعزف ما راق للنفس و أسكر..

كنت خجولا إلى تلك الدرجة التي يخجل فيها المرء من صوته .. و بعد مضي الوقت في التدريب، تراجع خجلي و قلل من رفسه .. كان يرفسني من الداخل كحمار وحشي .. تحررت من بعض قيودي، و من أسري الكابح لنفسي المخذولة .. صرت اصرخ بأعلى صوتي .. صار صوتي قويا كزمجرة الرعد، في وجه خجلي الذي يستعمرني حد الاستعباد .. تحررت كثيرا من وطأة خجلي الذي يمنع صوتي، أو يجعله مغلولا حد الصمت .. فاعتدل الأمر عمّا فات، و شعرت أن العسكرة صنعت فيني الفارق..

كنت أصرخ بالصوت (أخي) .. كصوت المدفع أطلقها في أي تمام و بلاغ .. صرخة تحمل في معناها رفض للدونية .. ترفع مقامي العالي إلى أكبر قائد .. صرخة غير الصرخة في الشطر الآخر حاضر يا (فندم) .. حاضر ياسيدي..

تعلمت أن أكون مجتهدا أكثر في التعليم، حد مقاسمة جسدي المثقل بالإجهاد لأقل فسحة أو راحة خُص بها جسد كاد أن يفقد وعيه .. يرتاح هنيئة .. يستعيد فيها أنفاسه المقطوعة .. تعلمت الصبر و جالدت، و عبرت بحر العامين .. برنامج مكتظ و ثقيل .. بين الميدان و المرمى و الصف و الركض طوال اليوم .. يبدأ من فجر الله، و ينتهي في العاشرة ليلا، حين تُطفأ أنوار مساكننا..

تعلمت الضبط و الربط .. و قلقي مثل غليان الماء في المرجل .. منضبطا مثل الساعة، مضبوطا كريشة بين أنامل رسام ماهر .. لا أسمح للموعد أن يتباطئ، و لا يأخذني الإهمال .. و الأخطاء ابذل فيها ما في الوسع، إلا ما جاء بقدر و قضاء .. و في الهامش مقبول وارد .. مواعيدي أحرسها بقلق جم .. احتاط دوما في الوقت، و في الشدة احتاط أكثر، و الذرب أكبر من موعد..

تخصصت مشاة، لأن القائد في الميدان مشاة .. جميع القادة تحت لواءه .. دبابات و صواريخ و مدافع، و حتى الطيران .. للمشاة الكل يُقاد، هذا المعروف و ما كان يقال .. المشاة وزير دفاع، و رئيس هيئة أركان .. و الجندي كما قال لينين، من لا يحلم أن يكون جنرالا فهو جندي خامل.

تعلمت أن أكون على درجة أكبر التزاما و نظاما .. إجمالا و تفاصيلا .. وضع حذاءك جوار عمود سريرك على خط بلاط، لا يخرج عنه سنتيمتر واحد .. و الخوذة على الدولاب، و فرشك و ملائتك و بطانيتك و ملابسك على عطفات محسوبة بالأرقام .. نموذج و الكل عليه .. أدوات طعامك و دولابك و ما تحويه عتلتك و حقيبة ظهرك..

النظافة إلى أقصاها مدى .. ملبس مكوي و نظيف .. جزمة لابد ان تسحرك فيها اللمعة .. و على الرأس مهابة تاج .. وضع سريرك بمقاييس بلاط الغرفة .. كل يوم نظافة .. الغرفة .. الحمام .. الممشى .. الردهة .. محيط المبنى و الميدان .. الحضور خلال ثواني إلى الطابور فور اطلاق الصفارة..

***

يتبع

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى