فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. في الطائرة إلى موسكو

يمنات

أحمد سيف حاشد

– أقلعت طائرة الخطوط الجوية الروسية “إيروفلوت” لتنقلنا من مطار القاهرة إلى موسكو .. أول دهشة أربكتني في الطائرة كانت في المضيفات الجميلات .. قوامهن الفارع، و بياضهن الأخاذ، و رشاقتهن الآسرة لخيالك الشارد .. عيونهن زجاجية بمسحة لون السماء، أو زرقة بحر عميق، و سحر في العيون يغلبك..

كريستال العيون و التماعاتها تغامزك، حتى تسلب لبابك، و تغوي عفتك، و كل التقوى و القداسة و الرهبنة التي تسكنك .. لآليء تخطف منك النظر .. محوطات ببياض السحاب، و تعاويذ السماء التي تسحق لاءاتك، و تهزم حيلتك .. جفون نجاة، و حواجب تحتضن الكنوز، و أنوف قيصرية لا تقبل الا التحدّي و النزال، فيما أنت حاسر القوى، و عفتك عزلاء لا تقوى على مقاومة هذا الجمال الفارط حد العبث و الجنون..

– كل شيء يخطف قلبك من بين الضلوع .. ينتزعك كالقدر .. و مهما كانت ثقتك بعفتك، فإن قواها تخور من أول نظرة، فتستسلم كل جيوشك، و تنهار أبراجك و قلاعك، و ترفع راياتك البيضاء أمام هذا القدر الذي يتملكك .. جمال آسر يستحوذ على اهتمامك و فضولك، و يستولي عليك من ألفك إلى ياءك، فتحول عينيك من زجاج النافذة و ما وراءها من عجب، إلى عيون تبرق بالفرح، و عجب ما بعده عجب، و تتوالى المعجزات و أنت تمعن في خلق أتقن الخالق صنعه..

– مررنا عبر أجواء تركيا، وطن المناضل ناظم حكمت، الكاتب المسرحي و الروائي و الشاعر العظيم الذي سُجن قرابة 17 عام، و نفي من وطنه حتى الموت بسبب نضاله و شعره الإنساني الجميل و انحيازه للفقراء و المقهورين من أبناء شعبه .. الشاعر الذي مات سجانوه، و عاشت أشعاره و قصائده و أناشيده .. ناظم حكمت الذي مات و لم يمت أمله، و هو القائل: “أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد .. أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد .. أجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد”، ناظم حكمت الذي تمرد على بؤس منفاه، كما ثار و تمرد على ظلم و بؤس وطنه..

– في رحلتنا بدت لنا تركيا من الجو و كأنها عروسة استحمت لتوها .. صحو مع الضلال، و غمام و مطر، و تنوع و تفاصيل، و جمال تحب أن تمكث و تقيم فيه شتاء و مصيف .. لأول مرة أشاهد أرض مثلها، و كأنها قطعة من الجنة .. أسرتني تركيا من الجو .. يا لها من أرض عجيبة .. يا له من اخضرار باذخ بمساحات شاسعة .. طبيعة خلابة بجمال لا يخرمه عيب و لا عور، و لا يخونك فيها النظر .. طول رحلتنا في سماها نستمتع برؤيتها حتى هبط الغروب، و ظننا إنها كل المدى..

– دخل الليل، و دخلنا حدود الاتحاد السوفيتي الذي كان .. الاتحاد السوفيتي الكبير و المهاب .. عبرنا أجواء البحر الأسود و الظلام يحيط بالطائرة .. شاهدنا من بعيد أضواء مدينة “أوديسا” التابعة لأكرانيا، و الواقعة على ساحل البحر الأسود و التي يفصلها عن “كييف” العاصمة أكثر من 400 كليو متر.

– وصلنا إلى “كييف” عاصمة أوكرانيا السوفيتية .. هبطت الطائرة في مطارها .. أحسست و أنا أخرج من الطائرة أنني أدخل “فريزر” ثلاجة .. كانت درجة الحرارة بحدود 7 درجات .. و هي درجة حرارة لم يسبق لي أن تواجدت فيها من قبل .. لقد قلت لنفسي: إن هذا ليس مطارا، بل هو “فريزر ثلاجة”، و كان طقس أوكرانيا كله كذلك أو على نحو مقارب .. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتواجد فيها على أرض بدرجة حرارة كتلك..

– بعد حدود الساعة استأنفنا رحلتنا صوب موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي .. وصلنا إلى مطارها .. كان في استقبالنا هناك عدد من كبار الضباط يرأسهم جنرال مكلف باستقبالنا و مرافقتنا خلال الزيارة، و مترجم قمة في النبل و التهذيب و الرقي .. فاجئونا باستقبالنا كوفد محاطا بكثير من الحفاوة و العناية و التقدير..

– استقبلونا بعدد من السيارات الفخمة و الخاصة بنقل الوفود، و التي كانت في انتظارنا .. كل اثنين في سيارة .. حتى إشارة المرور الحمراء تجاوزناها رغم صرامة تنفيذ القوانين، و الالتزام بقواعد المرور هناك، ربما لأن الساعة كانت في وقت متأخر من الليل .. يا له من احتفاء و استقبال و تقدير كبير لم نألفه في أوطاننا، و لم نكن نتصوره حتى في الخيال..

***

يتبع ..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى