العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. من أحداث يناير 1986 .. إعدامات وتصفيات خارج القانون

يمنات

أحمد سيف حاشد

سلمت سلاحي و عدت إلى البيت .. تواصل بي حسن عبد الله الأعور، و طلب مني المجيء إلى منزله .. كنّا جميعا نسكن في حي الثورة “القلوعة”، و كنت أزوره إلى منزله في معظم الأحيان .. كانت تربطني به علاقات صداقة و احترام، و فضلا عن ذلك نحن من منطقة واحدة في الشمال.

حسن عبد الله رجل مكافح اعتمد على نفسه في بنى نفسه .. تغلّب على عاهة فقدان البصر في أحدى عينيه .. مكافح و ناجح بعين واحدة .. وصل إلى رتبة نقيب أو رائد، و شغل وظيفة النائب السياسي للمليشيا الشعبية في عدن ـ معسكر20ـ حسن عبد الله رجل كادح و معدم بنى نفسه من الصفر .. تميز بتواضعه الجم، و أكثر ما يميزه أنه خدوم جدا لكل الناس الذين يقصدونه بما فيهم من يختلفون معه في الرأي أو الموقف .. لم يحمل حقدا أو غلا على من يختلف معه في الرأي السياسي، و لا يتردد هو أيضا في إعلان رأيه .. و موقفه ضد الاحتكام إلى السلاح..

كان يتعامل معي باحترام فائق، و كنت أكنّ له كثيرا من الود و التقدير و الاحترام، و لم تستطع السياسة و اختلاف رأينا أن يفسد ما بيننا من ود..

حسن عبد الله كان لديه عدد كبير من الأبناء الصغار أكبرهم لم يتجاوز الـ15 سنة فيما زوجته مصابه بمرض في القلب، و تعيش على دواء دائم .. و حالتها الصحية تزداد تدهورا..

كنت أشعر أنه في وضع صعب و أن نجاته من هذه الأحداث العاصفة ضئيلا جدا .. أشعر أن الانتقام الأعمى سيكون سيد الموقف، بعيد عن أي عدالة أو قانون أو محاكمة و لو صوريّة .. تصوروا حتى المحاكمة الصورية كانت مستحيلة و بعيدة المنال..

كان الموت باذخا، و استرخاص دماء و حياة الخصوم بخسة إلى حد لا يساوي أحيانا قيمة رصاصة .. عندما تبخس حياة الناس إلى هذه الدرجة اعلم إنك تعيش كارثة وطن و مأساة شعب تطول .. ما أرخص حياة الإنسان عند المنتقمين .. أحسست أن أبناؤه الكُثر و جميعهم قاصرين سيكونون أيضا ضحايا جنون هذه الحرب التي عصفت بالرفاق .. أشعر أن ثمة مأساة سيعشونها في قادم الأيام..

ذهبت إلى منزله .. حلّق بي الصغار كأنني سفينة نجاة، و أنا أنشج في داخلي و أغالب حزني الكثيف و غصص مكتومة تذبح حنجرتي من الداخل .. شاهدت الأم مرعوبة من قدر سيأتي .. تبكي بحرقة الفقدان و المستقبل المجهول .. مصاب فادح و جلل سيصيبها و عيالها، و هي تحمل جبل من الهم و الأسئلة لزمن عبوس قادم .. كانت ترجو من الأيام الرفق بها من قادم ثقيل و أسود سواد هذه الأحداث الأشد من قاتمة و أكثر من قاتلة..

جو من الكآبة و الحزن حاولت أن أغادره، و زوجته تبلغني أنه في منزل لقريب في مكان قريب .. و جعلت من احد أبناءها دليلي لأصل إليه..

ألتقيت به .. أحسست بمأساته و كم من المآسي ستترك هذه الحرب .. عرضت عليه أن يأتي إلى بيتنا، فربما هو أكثر أمانا، فيما المنزل الذي هو فيه ربما إن لم يكن بحكم الأكيد سيتعرض للتفتيش، و سيتم اعتقاله، و لا ندري ماذا بعد الاعتقال..!! الاحتمالات المفجعة صارت هي الأكثر ورودا، و ما عداها يتحول إلى احتمال ضئيل .. في أفضل الأحوال إن نجا من الموت، سيجري ضربه و تعذيبه و إهانته و استباحة كل حقوقه في المعتقل، و قد شاهدت بعض مما حدث في “كريتر” قبل يوم..

عرضت عليه أن يختبئ عندي إلى أن نجد مخرجا و ما جرى له جرى علينا .. غير أنه أخبرني أنه تواصل بعبد الحافظ قائد ـ و كان من الشخصيات التاريخية الهامة في الحركة الوطنية و في موضع احترام و تقدير لدى القادة السياسيين في الحزب و الدولة و هو من الرجال القلة الممتلئين ـ قال لي أنه عرض وضعه عليه فنصحه أن يسلِّم نفسه و هو سيتابع موضوعه .. هو أيضا فضَّل هذا الخيار على خيار استضافتي له في البيت .. و لكن كان للقتلة خيارهم، و كان القتل منفلت الزمام، و لم يكن القتلة يعبئون بالعقل و لا بالاتزان؛ فخاب تقدير حسن و تقدير حافظنا الطيب.

سلم حسن عبد الله نفسه للفريق المنتصر، و تم إرساله إلى سجن “صبر” في محافظة لحج، و بعد أسابيع أو شهور تم تصفيته مع كثير من المعتقلين بدون محاكمة .. كان قتلا خارج القانون .. عرفت أن الضوء الأخضر جاء من قائد أمني كبير، ترك مهمة القتل و تقديره لمن هم دونه .. تصفيات و انتقامات متوحشة خارج القانون ارتكبها الطرفين..

قلوب و عيون أطفال “حسن” و جميعهم قاصرين، و زوجته المريضة أعياهم الانتظار .. ظلوا ينتظرون عودته سنوات طوال .. ظل أفراد الأسرة يترقبون كل يوم أن يطرق “حسن” الباب، و “حسن” كان قد غادر قسرا إلى اللاعودة و اللااياب .. عذاب يومي ثقيل و مؤلم ظلت أسرته تعيشه طيلة الليل و النهار لسنوات طوال.

لم تقتصر مثل هذه التصفيات على طرف دون آخر بل كلا الطرفين تسابقا و أثخنا بالقتل حد العبث و الجنون .. خيرة كوادر الحزب و الدولة و كثير من الأبرياء كانوا ضحايا هذه الحرب اللعينة و المملوءة بالقسوة و الانتقام .. كانت هذه الحرب بداية لهزيمة كبيرة لاحقه للحزب و الجنوب و الوطن في 1994.

في أحدث 13 يناير ارتكبت مجازر و مذابح مروّعة بعضها يشبه جرائم “داعش” اليوم. إننا قوم لا ندرك ما بلغناه من جنون القتل و الدمار إلا بعد فوات الآون و الندم.

بين الأمس و اليوم على بشاعة كليهما لا زال هناك فارق لصالح أيام زمان .. قتلوا “حسن” و كثيرا من أمثاله، و لكنهم لم يقطعوا راتب أطفاله .. أما حرب اليوم فيقتلونك و يقطعون راتبك على أسرتك حتى قبل أن تموت .. قطعوا الرواتب لنكون محاطب حرب .. ابتزوا الناس و أذلوهم بقطع رواتبهم سنوات طوال .. أما الجبهة و إما التسول و الإذلال و استباحة الكرامة..

أكثر من مليون و نصف المليون يمني يعيلون أكثر من سبعة مليون نسمة قطعت رواتبهم، و كثيرون غيرهم قطعت عنهم سبل العيش الكريم عنهم و عاشوا معاناة أكبر من الموت و أكثر من الجحيم .. و يبقى الأكثر بشاعة و جحيما أن العالم توطأ مع هذا الجحيم، و تلك المأساة التي لن تنتهي، و ستبقى ندباتها في القلب إلى يوم يبعثون..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى