العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. “أم شريف” أعانت وصولي إلى نصفي

يمنات

أحمد سيف حاشد

  • “أم شريف” امرأة بلغت سن التقاعد، و لكنها كانت تبدو متينة و كرّاره .. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها و صلابتها .. وجهها الطولي ذو قسمات و ملامح جاذبة تجعلها محل رضى و قبول .. متعافية و تتمتع بصحة وافرة .. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحيانا حد المغامرة .. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمي.
  • وجدتُ ضالتي في “أم شريف” .. إنها الصدفة التي أعانتني في الوصول إلى ما أريد .. فعندما ألتقيت بها كنت محبطا للغاية .. أحسست أن بمقدورها أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لازال في ظهر الغيب .. لذتُ إليها لاعتقادي أنها ستسرّع خطاي من أجل العثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع و حصادي المُر للخيبات المتعاقبة..
  • قلت لها:

– يا أم شريف .. أنا احتاجك .. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر .. أنتِ “الكمندوز” الذي أراهن عليه .. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه .. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب و الغرف المغلقة .. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها .. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه .. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، و أخفقتُ في الوصول إليها..

يا أم شريف .. أتوق إلى فتاة جميلة و فقيرة و طيبة لأتزوجها .. لا أهتم كثيرا إن كانت تعمل أو لا تعمل .. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ .. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، و لديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، و تعبر معي وادي الجحيم دون حذاء إن أقتضى الحال .. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر..

  • أبدت أم شريف استعدادها الجم و استجابتها المتحمسة و المجملة لما طلبتُ منها، و صرتُ أصحبها معي في غزواتي .. سرية استطلاعي و مفرزتي المتقدمة .. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة و شاقة كانت تؤدّيها بنجاح و جسارة فذة .. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ و هو ينطلق إلى هدفه .. هكذا كنت أشيد فيها و امتدحها من باب التشبيه و ضرب المثل مع الفارق..
  • و في مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفذت حيلتي، و بديتُ مثل ذلك “الهندي” الذي من شدة ما يعيشه من فقر و طفر يعود و يفتش سجلات جده لعله يجد على الغير دينا مهملا لصالح جده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، و يقوم بتحصيلها .. إنه مثال مع الفارق أيضا .. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة .. و عصرت ذهني عشر مرات .. و تذكرتُ وجود أختين ينضحان بالجمال الذي يسلب العقول و يستولي على الوجدان .. عرفتهن قاصرات قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمي فريد في “دار سعد”..

– قلت لأم شريف:

الآن لاشك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج .. لعلي أجد نصيبي في إحداهن .. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص و ما طال من انتظار، و يجبر ما لحقني من عذابات و ما أصابني من خيبات كثار .. إنهن جميلات يجبرن مصابي مهما بلغ .. جمال ينافس بعضه، و مفاتن تتملك القلوب و تسلب الألباب..

  • و عندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهن، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، و أطلقتها في المهمة، بعد أن أرأتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها..
  • كان قلبي يرجف و يوجف في انتظار طال .. قلق يغلي على موقد نار .. احتدام بين توقعي لخبر سار و مفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني و تهدهُ إلى آخره .. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، و قاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد..
  • لم أعد قادرا على ضبط إيقاعات نبضي السريع .. خرج قلبي عن السيطرة .. شعرت بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة، و فراغ يتكور في صدري يكبر و يتسع .. قلق و اضطراب يزداد و يشتد على روحي الممزقة .. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية و عشرين حصان تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث و الانتظار الذي طال..
  • كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور و أذرع المكان الذي أقف عليه طولا و عرضا .. أنتظر الرد بفارغ الصبر .. أتوقع و أفترض و أتكهن .. أزداد اضطرابا كلما طال الانتظار أكثر..
  • كنت أسأل نفسي و أتوجس:

– ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت..؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب..؟! هل ارتابوا بقواها العقلية..؟! لماذا لا ينادوني إن أرادوا التعرف على شخصي..؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أقف عليه..؟! هل عاينوني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة..؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة و دوراني و ذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية و الذهنية..؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة و معافاة، و إن اعتراها بعض الضيق و الإرباك و القلق..؟! كانت الأسئلة تتزاحم، و رأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار لازال يطول و يضخ مزيدا من الأسئلة الأكثر قلقا..

  • خرجت أم شريف من المنزل و في صحبتها فتاة أظنها في سن العاشرة أو أكثر بقليل .. كان المفترض أن تأتيني أم شريف و تخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني في باحتي دون أن تعرني بالا، بل تجاهلتني على نحو غريب، و مضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة .. غرقت في استغرابي و حيرتي..!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث..؟! تبعتهما و كانت عيناي مصوبة نحوهما و تقتفي أثرهما، فيما قدماي تتخلف عني و كأني أسحب شجرة..
  • دخلن إلى شارع فرعي فقير و قصير و غير متسع .. فيه ضوضاء و حركة و أطفال صغار .. تبعتهما بحذر و بمسافة أكبر .. شاهدت الفتاة و أم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة .. زدتُ غرقاً في حيرتي و ذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث..؟! و لماذا تجري الأمور على ذلك النحو..؟! بديت غاضبا من أم شريف لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث..!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري..؟! و ماذا بخصوص من أتيت لأجلهن..؟!
  • كان عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث و يحدث، و قد بدأ الغضب يغل و يحتدم في صدري .. و بعد قرابة النصف ساعة ـ و هي فترة بالنسبة لي كانت طويلة و قلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها .. حاولت أكظم غيضي لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي .. و ما أن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب و عجل:

– ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحده منهن .. الكبيرة تزوجت، و الصغيرة مخطوبة..

قلت لها: و ليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب .. “كلمة ورد غطاها” .. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة..

– أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلتني عليها “أم البنات” .. ثم ارسلت معي الصغيرة، و دخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها..

قلت لها: يعني خطبتي لي واحدة ما شفتهاش .. ماعرفهاش .. أعجبتك أنتِ .. أنا ماعرفيش حتى بصورة..

– قالت: البنت حلوة و صغيرة و يتيمة بتعجبك .. أني فقط شاورت عليها .. أمها لم تكن موجودة .. قالوا أخوها مات، و راحت بيت الميت، و ما بتعود من بيت الميت إلا بعد أسبوع .. عندما تجي سوف يردوا لي جواب..

قلت لها و هواجسي تهاجمني من كل صوب:

ما أدراني إنها جميلة..؟! كيف أركن على عيونك..؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها .. كان هذا قبل ثلاثين سنة، و أنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها..!! هذه قده يا نصيب..!! أنا لا أعرفها و هي لا تعرفني .. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي..!!!

  • أحسست أني قد وقعت في ورطة تكاد تكون غلطة العمر .. أتحرق و أشتاط على نفسي في داخلي .. أحاول أكظم غيظي و ما يعتمل فيني من غضب .. شرر يتطاير منه إلى خارجي..

قلت لها:

“غلطة الشاطر بعشر” .. من قال لي أصطحب معي مجنونة..؟! كم فيني هبالة و خفة عقل..!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، و عاد اسمها كلية الحقوق .. و الله ما استاهل حتّى بصلة..

فردت أم شريف و قد بدأ غيضها يفيض:

– إذا ما تريدها عادي .. نحن لا خطبنا و لا تزوجنا .. نحن شاورنا بس .. و هم ماردوا .. قالوا لما تعود الأم لنا خبر..

  • عادت أم شريف أدراجها، و بقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما لازالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي “بنت ما شاء الله عليها .. حلوة و صغيرة و يتيمة” أثارت تلك الكلمات جماح فضولي .. جعلتني أكثر شغفا لأن أراها .. يومها صلت و جلت في الشارع و لكني لم أراها .. حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، و لكنها لم تخرج و لم تطل برأسها .. عدتُ مرهقا، و لكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم .. عشت ليلا أستعجل صبحه الذي تأخر .. و ما أن أشرق الصبح حتى غادرت مكان إقامتي في “القلوعة” نحو بيتها في دار سعد .. أصريتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى..
  • و في اليوم الثاني لم تأت الساعة التاسعة صباحا إلا و كنت أنتظرها في مكان يسمح لي أن أرى الدخول و الخروج من باب بيتها .. و بعد ساعات رأيت فتاة تكنس و تكرع الكنيس إلى الخارج .. هرعت نحوها .. استطعت أن أشاهدها و هي أيضا شاهدتني .. عدت كرة أخرى فأحسست أنها هي، فيما هي أيضا أحست أنني هو..
  • غمرتني سعادة بطول و عرض السماء .. كدت أصرخ مثل أرخميدس “وجدتها .. وجدتها” كدت أطير من الفرح فوق السحاب .. صار حلمي أمام عيوني يقول لي: أنا هنا مُد يداك..
  • بات الأمل أكبر مني، فيما اليأس الذي ظل يلاحقني و كاد في الأمس أن يدركني صار مهزوما و مكسورا يتلاشى إلى زوال .. باتت مقولة ناظم حكمت تدق باب قلبي و هي تردد “أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد” خُسراني بات معوضا، و ما أصابني من فادح الخيبات صار مجبورا و مملوء بالعافية .. إنها صدفة القدر .. صدفة عثوري على نصف وجودي الذي كاد يتحول إلى مستحيل .. شكرا .. شكراً يا أم شريف..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى