العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. اخترت استقلاليتي على المال

يمنات

أحمد سيف حاشد

لا أخاطب أمسي وما مضى فحسب، بل أخاطب أيضا الحاضر الذي بات يبتزنا وبما يفوق الأمس ألف مرّة.. لا تدع الابتزاز يحني قامتك.. كن طودا شامخا بقامة السماء لم يرد أن يسقطك بابتزازه.. كل خسائرك مهما عظمت فإنها أقل من ابتزاز يسقطك.. خُض الحرب الضروس إن دعت الضرورة في مواجهة من يريد الوصول إلى هدفه بابتزازك.. إن قبلت مرة بالابتزاز ستتحول إلى معبر لكل المبتزين والتافهين، ولن تنتهي خسائرك، وقد خسرت نفسك..

لا تفكر ولا تستسهل في طويتك أن تبيع ما لا يباع.. قاوم ظروفك وحاجتك حتى لا ينتعلك أحدهم ممن يعيش سقوطه وأوحاله.. اسحق مخاوفك التي يمكنها أن تنال من ضميرك.. تذكر أوشو وهو يقول لك: “إن الخوف يخلق اغلاله، أما الحرية فتعطيك أجنحة” تحرر من أن تكون واحد في القطيع أو تكون أنت القطيع.. سر بمفردك وتحرر من القطيع أو كما قال أوشوا: “الجميع يريد أن ينتمي إلى الحشد.. اخرج نفسك من الحشد” وأقول: كن استثنائيا قدر ما تستطيع..

***

عندما تترشح بصفتك نائبا مستقلا، وتتعاطى مع ناخبيك ابتداء من يوم الترشيح، ومرورا بحملة الدعاية الانتخابية، وانتهاء بيوم الاقتراع، وأنت تعمد إلى تأكيد تلك الصفة خلال كل تلك المراحل، بل وتفوز بهذه الصفة، وما أن تصل إلى مجلس النواب حتى تخلع تلك الصفة عنك، وتنقلب على من منحوك أصواتهم، وقبلها تنقلب على نفسك، وتستسهل خيانة تلك الثقة أو حتى التفكير بإهدارها، هي في تقديري خيانة اخلاقية كاملة، بل وتشي إلى استعدادك ليس فقط أن تذبح ضميرك، ولكن أن تكون أيضا شريرا.. بهذا أنت تصير خطرا على نفسك، وأكثر منه خطرا على المجتمع..

كل شيء كما قال جبران خليل جبران ممكن أن يكون له فرصة ثانية، إلا الثقة.. من سيثق بك إن كنت غير آهل لثقة من انتخبوك، وصيروك عنهم الموقف والمدافع والذائد عن حقوقهم وحرياتهم والأمين على مستقبلهم..؟!! أنت بثقتهم قد صرت ليس ممثلا عمن انتخبوك ومنحوك أصواتهم فقط، بل صرت ممثلا عن الشعب كله، وخيانة الثقة والضمير هنا أشد وأفدح..

القانون لا يعاقب على النوايا، وعلى ما يعتمل في تفكريك، ولكن التفكير بخيانة الثقة يعني وجود الاستعداد إلى أن تتجاوز حواجزك الأخلاقية المانعة، واستسهالك لخيانة ضميرك، وخيانة شعبك، وربما أكثر منه، يشي إلى استعدادك في ظروف ما أن تكون شريرا، أو مستعدا أن تفعل أي فعل شرير في المستقبل..

هناك التزام ببرنامجك الانتخابي وهو عهدا حملته في ذمّتك، والتزام اخلاقي يقع على كاهلك، وتذهب إلى وجهة أخرى، مستبدلا صفتك الذي فزت بها، بانتماء آخر يختلف تماما عن انتماءك المعلن لناخبيك، كل ذلك إنما يعني أنك غررت على ناخبيك، وظللتهم، وخدعتهم، وخنت وعدك و عهدك لهم، ونكثت ميثاقك معهم قبل أن تجف الصحف وترفع الأقلام، بل وانتويت في خبايا فاسد نيتك وطويتك أنك ستبدّل صفتك وتخدع ناخبيك.. هذا وذاك هو ما كان يجوس داخلي وأحدث به نفسي حيال أول عرض شراء تقدمت به السلطة بعد فوزي في الانتخابات النيابية..

قالت العرب: “موت الوفاء عين الحكمة أحياناً”. وقالوا: “من ينكث وعده كمن يرمي الأحجار في البئر التي شرب منها”. والحجة عليك أن تترشح و تفوز بصفة نائب مستقل، ثم تدير ظهرك للناس الذين أعطوك أصواتهم لهذه الصفة، التي كانت لصيقة باسم فوزك، وتقلب لهم المجن، وتذهب بعد الفوز تبحث عن مشتري، أو عن مال أو مزية لتبيع، أو حتّى تنصاع لذلك، وترمي عرض الحائط بذمتك، وما حملته من وعد وعهد ثقيل، فهذا يعني أنك ناكث للعهد والوعد، وحق عليك الخزي في قول الشاعر:
“رأيتُ الحُرَّ يجتنبُ المخازي *** ويَحْميهِ عن الغدرِ الوفاءُ”.

***

كانت التسريبات الصحفية والقوائم المنشورة في بعض الصحف ووسائل الإعلام بعد اعلان نتائج مجلس النواب في نهاية إبريل، وكذا بعدها، لا سيما في مستهل شهر مايو 2003 تصنفني أنني مؤتمر، وكنت أقاوم هذا التعسف في التصنيف، الذي يبلغ حد محاولة اغتصاب إرادتي من قبل الصحافة أو بعض الصحفيين الذين يفتقدون إلى الحد الأدنى مع ما تفترضه اخلاق المهنة..

في شهر مايو 2003 أثناء التصويت لأول موازنة قدمتها الحكومة إلى البرلمان، ومطالبتها بمنحها الثقة.. كان موقفي في التصويت ضد الموازنة، وضد منح الثقة لحكومة حزب المؤتمر برئاسة باجمال.. موقف كان غير متوقع منّي على الأقل بالنسبة لقيادة المؤتمر، في أول شهر بعد الانتخابات النيابية الذي دعمني فيه حزب المؤتمر..

لم يكن هذا الموقف مجرد محاولة لإثبات استقلاليتي عن حزب المؤتمر، ولكن وهو الأهم أنني بالفعل ضد الموازنة التي وجدتها تنال من القطاع العام، ولا تتوافق مع تصوراتي للسياسة الاقتصادية في المرحلة المقبلة، وينسجم هذا الموقف أيضا مع تقديري وموقفي من تلك الحكومة ممثلة برمزها ووزيرها الأول باجمال الذي يعتبر الفساد زيت التنمية وفي عبارة أخرى ملح التنمية..

لقد رأيت إن تلك الحكومة بمجملها لا تستحق ثقتي بها، ولا ثقة الشعب أو ممثليه، وزائد على هذا وذاك كانت تأكيد لاستقلاليتي ليس فقط عن حزب المؤتمر الذي دعمني في الانتخابات، ولكن أيضا تأكيد لاستقلاليتي عن الأعضاء المستقلين في المجلس، الذي ذهب جلّهم بل على الأرجح اثناء عشر نائب من قوام الأربعة عشر نائب للتصويت لصالح الحكومة وموازنتها..

لست عدميا، ولا يجب أن يُفهم أن معارضتي تلك كانت لمجرد المعارضة، ولم يكن موقفي بحال مجرد عناد لمن يريد دفعي إلى موقع أو حزب لا أنتمي إليه، ولكن لأن موقفي نابع من قناعة تامة، وإرادة أراها أصيلة، ومن ضمير أراه راضيا عنّي، ومن صواب يحملني عليه أغلب ظني، ومن وفاء أصيل لمن وثقوا بي، وجل من انتخبوني، وقبلها مصالح الشعب بموجب ما أراه، والتي تحتم أن يكون هذا موقفي لا سواه..

أربعة عشر نائبا فازوا بصفة “مستقل”، وما ان يمضي شهرا أو أكثر قليلا من عمر مجلسنا، حتى ذهب عشرة منهم إلى كنف المؤتمر وأنظموا إلى عضويته، ولم نبق غير أربعة بصفة مستقل، من قوام أربعة عشر نائبا .. يا لخسارتنا!! كيف حدث هذا..؟! لماذا يكون التخلي بكل هذا السهولة والاستسهال بالصفة التي فازوا بها..؟! يا للهشاشة بالغة السوء..!!

ما كان لهذا المجلس أن يسمح بالمخاتلة والانقلاب على إرادة الناخبين، الذين صوتوا لهؤلاء الأعضاء بصفتهم مستقلين لا غيرها من الصفات.. ثم لا أدري لماذا هذا الحزب أراد استقطاب هؤلاء المستقلين، وهو الذي حصد قرابة ثلاثة أرباع أعضاء المجلس..؟!!

لا أدري لماذا اراد أن يزيد تخمته الباذخة، بمزيد من السمنة و التخمة التي تفوق حاجته بكثير، ثم كان من الذكاء لو ابقاهم مستقلين على الأقل من أجل يكون المجلس يتسم بتنوع أكثر.. أظنه خلل عميق في التفكير، ورغبة استحواذ شرهة لم يتمكنوا من منعها..

الدكتور عبد الله عبد الولي ناشر الذي أشرف عن حزب المؤتمر في انتخابات دائرتي الانتخابية كانت تربطه صلة مباشرة بالدكتور عبد الكريم الأرياني أمين عام المؤتمر، بل بدت لي تلك العلاقة يومها إنها جيدة جداً إن لم تكن وطيدة.. طلبني الدكتور عبد الله بالحضور إلى منزله.. استغربت من هذا الاستدعاء.. وربما تسألت مع نفسي عن السبب، ولم أجد لحظتها جواب..

توجست ولكن ليس إلى حد الارتياب، لأن نفسية وطبيعة الدكتور عبدالله لا تتناسب لأدوار تبعث على القلق والارتياب.. اصطحبت معي ابن عمي عبده فريد حاشد، وكان اللقاء بعد المغرب أو مع دخول المساء..

بعد حفاوة واستقبال حسن عرض ستة مليون ريال كانت موجودة في ”شوالة”، بمكان قريب من مجلسنا، باعتبارها مخاسير حملتي الانتخابية، ومقابل الانضمام إلى كتلة المؤتمر الشعبي العام في مجلس النواب.. ربما هو فقط نقل هذا العرض من قيادة المؤتمر في إطار مسعاها لظم أكبر عدد من الأعضاء المستقلين إلى كتلة المؤتمر في المجلس وقد نجح المؤتمر بالفعل بضم عشره نواب مستقلين من قوام أربعة عشرة نائبا.. أما أنا فنظرت إلى هذا الموضوع إنها شراء أو مقايضة.. زواج دافع قبوله المال.. عرض مستفز لا يخلوا من ابتزاز للحاجة.. معادلة المال مقابل استقلاليتي..

موقفي الأخلاقي لا يسمح بشي من هذا القبيل.. رفضت العرض دون تردد، ولفتت النظر أنني ألتزمت لفريقي الانتخابي ولمن انتخبوني أنني سأظل مستقلا، بل حاولت أيضا أن أذكّره أن عدد أعضاء المؤتمر قرابة الثلاثة أرباع عضو في المجلس، وليس هم بحاجة لمزيد من الأعضاء للانضمام لحزب المؤتمر..

أحسست أنني انتصرت لضميري وخياراتي ولمبادئي المعلنة، ولثقة الناس الذين وثقوا بي، مضت السنوات الطوال، ولم أندم يوما على مثل هذا الاختيار الذي داس على حاجتي ومعاناتي وانتصرت فيه لضميري وللناس.

***

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى