العرض في الرئيسةفضاء حر

يوم خسرتُ المعركة وسحقني القهر

يمنات

أحمد سيف حاشد

كان الوزير يتحدث فيما أنا انتظر أحر من الجمر دوري في الكلام بعده .. كلام الوزير كان يسري في أوصالي كالسم الزعاف .. أعددت تعليقاتي وتعقيباتي بعد مجالدة ومراغمة مع نفسي التي كاد صبرها ينفذ قبل أن يتم، وهي تسمع ما تسمعه من كذب جريء يغرس نصاله المسمومة في كبدي وأوصالي المنهكة..

تلفيقات وأكاذيب لا أساس لها من الصحة تتوالى تباعا، وأنا أقمع حيالها ردود أفعالي بقسوة جلاد عنيف، منتظرا أن ينتهي الوزير مما لديه من كذب وتلفيق دون أن اقاطعه قبل أن يبدأ دوري في الكلام، وأكثر منه أني فشلت فشلا ذريعا أن أقذفه بابتسامة ساخرة ولو تصنُّعا في وجه ما يتم كيله من أكاذيب..

من المؤلم جدا أن تسمع الأكاذيب تباعا، ولا تعترض عليها ببنت شفة، بل وتستمر بالسماع وأنت تراغم نفسك، وتقمعها مرارا وبشدة حتى ينتهي الكاذب من آخر كذبه في جعبته.. غالبتُ حممي المتأججة، وداريتها داخلي عن الأعين التي كانت تأكل وجهي الباذخ بالتعب والأرق، فيما كانت تلك الحمم تضطرب وتحتدم داخلي، وتستعجل منفسا للبوح بغليل يثور ويشتعل داخلي، كان كبيرا وجبّارا..

ما رواه الوزير كان تقريبا يصادم الواقع من أوله إلى آخره.. وأكثر منه كان صادما لي على نحو صاعق ومضاعف.. كنت أكتوي وأتعذب وأنا أسمع وأرى الوزير يروي ما يرويه بأعصاب هادئة وباردة.. تذكرت قول نتشه: “الحكومة تكذب ببرود.. كل ما تقوله الحكومة كذب”..

كان يكذب ويمعن في الكذب.. يلفق ويوغل في التلفيق.. والأهم أنه كان يفعل هذا بأعصاب باردة ومثلّجة، وهو ما جعلني أدرك وأعتقد أنه ليس حديث عهد في الكذب، بل ومعتاد عليه من عهد طويل.. كانت أعصابه الباردة وهو يسرد روايته المُختلقة تزيد من كثافة إحساسي أنه يعذبني بنار موقدة..

كان الوزير وهو يكذب بوزن ومقام المنصب الذي يشغله،”نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع ووزيرا للداخلية” بدا لي أن أحد الشروط والمعايير الرئيسية لتكون وزيرا وما علاه هو أن تكون كاذبا، وربما أكبر من هذا أيضا، وقد قتلني بالنتيجة مرتين.. لا بأس.. في هذا العهد هنا وهناك يقتلوا شعبا كل يوم بإمعان وإصرار أشد..

***

في الجلسة تسألت مع نفسي: من أين أبدأ تعقيباتي وردودي التي تكتظ وتتزاحم في رأسي المثقل بالوجع، وصدري وعروقي التي تشب فيها عاصفة من نار؟! كيف أبدأ الرد على هذا الكم الكذوب في رواية خلطت اللؤم بالكذب والمكيدة والخيال؟!!

أنا المسكون بالألم والمشبوب بالوجع كيف لي أن أحمل هذا المجلس على تصديق ما سأرويه بدم القلب ووجع الذاكرة؟! كيف أنقل الإحساس بمصداقيتي لمن حولي من النواب، وقد مال بعضهم مع الوزير بدافع الرشوة والمصلحة، ولا أمل في هؤلاء أرتجيه، وبعضهم قد صار يشعر نحوي بتوجس وارتياب، وقليل معي صار يبحث عن ماء الوجه، أو غير قادر أن يغير شيئا من واقع الحال..؟!

أردت أن أدخل إلى ما سأقوله مشفوعا بقسم كملخص لمصداقية لا أدري كيف أوجزها وأقدمها على عجل.. استهلتُ كلامي، بالقسم باسم الله العظيم وبشرفي أن هذا الوزير كاذب.. بقسمي هذا خاطبت نفسي وكل الخليقة التي تحترم أيمانها أيٍ وأينما كانت.

هذا القسم الذي ظننت فيه خيرا كان خيبتي الصادمة.. تم إيقافي قبل أن أدلي بدلوي وألقي بحجتي وأدلتي أمام الجميع.. كنت أفيض بكثير من المرارة المقذعة والألم اللاسع، فيما كانوا هم يتربصوا بعذر وإن كان حجر من جبل.. ينتظرون تأويلا أو زلة لسان.. لم أكن أعرف إن في قسم اليمين زلة ومأخذ وخيبة.. لم أكن أعلم إن الكلمة هنا في وصف الحقيقة تهمة لا تُسحب ولا تُرد، بل ويلزم صاحبها العقاب الأشد..

***

تم إيقافي جورا وتعسفا من الكلام قبل أن أتجاوز أوله.. قطعوا رأسه ودابره.. تم منعي من حق أصيل لا أملك هنا غيره أو سواه.. منعني الراعي من الدخول إلى حلبته، أو حلبة من بات في موقعة وكيله وحاميه.. منعوني عمّا كنتُ قد خضتُ من أجله معركة ضروس، وربما ظننت في لحظة ما أنني شارفتُ على كسب انتصار عصي أو بعضه منه، ولكن كانت الخيبة قاتلة وأكبر من كل انتصار.. لقد أفسدوا كل شيء، واتهموني أنني فاسدهُ، ومنعوني من أن أدمغ الوزير بما لدي، وأكثر منه منعوني حتّى من الإيضاح أو الترضية على مضض باعتذار..

أوعز يحيي الراعي للوزير ورئيس الجهاز بالمغادرة.. حدث هرج ومرج مفتعل لتفويت المساءلة والاستجواب، ورفع الراعي الجلسة لمدة عشر دقائق، وخرج الوزير مع رئيس الجهاز منتشين كطواويس ناشرين الريش.. معززين مقاما وهيبة.. فيما أنا بقيت أبلع غصصي الذابحة وأتلوى من ألم بلغ مداه..

استأنف الراعي عقد الجلسة بعد عشرة دقائق نالني فيها ما نال من التقريع لا العتاب، وقد آل كل شيء بالنسبة لي إلى سراب، بل وزادوني عليه بعد العشر الدقائق كلاما أشد طعنا وفتكا، وتجريعي ما هو أشد مرارة وقذعا..

طالب بعض الأعضاء بإحالتي للتحقيق، ومنهم رئيس لجنة الحقوق والحريات في البرلمان الشيخ محمد ناجي الشائف، متهما إياي أنني شتمت ووجهت كلام ناب وأتيت العيب كله، يلزم محاسبتي قبل محاسبة رئيس الاستخبارات.. والحقيقة إنني لم أقل شيئا غير ذاك القسم الذي قسم ظهر عدالة كنت أبحث عنها، وانتهاك عشته وأردت أن أردع من قام به؛ فتضاعف الانتهاك وتضاعفت مصيبتي مرتين.

طالب بعض النواب بإحالتي للجنة الدستورية لأنني قد ارتكبت جريمة في قاعة المجلس بحق معالي الوزير.. قال بعض النواب في حزب المؤتمر الحاكم انه اذا طلب منهم رفع الحصانة عني تمهيد لمحاكمتي على ما صدر منّي من كلام، فلن يترددوا عن التصويت بالموافقة على رفع الحصانة عنّي.. كنتُ بالنسبة لهم الضحية التي يستأسدون عليها، و”الجدار القصير” المقدور عليه.. كانت الفجاجة صارخة وعلى أوجها..

النائب الإصلاحي عبد الكريم شيبان كان متفهما لما حدث، معتبرا انسحاب القمش والعليمي غير مبرر، مؤكدا أنني قد تعرضت لضغط نفسي منذ بداية الجلسة، لاسيما من قبل رئيس الجلسة يحيى الراعي الذي كان بإمكانه أن يطلب سحب الاتهام، والسماح لي بتوضيح قضيتي..

لو اعطوني الفرصة أو قليلا من الوقت والكلام لأثبت لهم أنني محقا فيما ذهبت إليه، وأن الوزير كاذب أو هو بعض من هذا الكذب الذي يروج وينتصر في بلد الأكاذيب.. كان بإمكانهم أن يشكلون لجنة تحقيق أو تقصي حقائق، وسيجدون إنني صادق بيقين، وأنه ملفق وكاذب.. ولكن المجلس هرب من هذا إلى ذاك، لأنه ببساطة مجلس غير أهلا لمثل هذا الأمر والمقام..

نفذ المجرم من الإدانة والزجر معززا ومكرما ومختالا، وأدين الضحية بإصرار وعمد ومن غير تحقيق.. وكان وجعي الأكبر آتيا من رئيس كتلة المؤتمر الشيخ سلطان البركاني، وهو يستشهد ضدي على ما وقع في رأسي أنا الضحية لا سواي بالبيت الشعري:

“ومن يهن يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إيلام”

النائب علي عشال العضو في كتلة الإصلاح علّق لوسائل الإعلام إنها “قضية في يد محامي فاشل” وكان الإعلامي حمود منصر سبق وأن أنهى تقريره الإخباري لقناة العربية بقوله أيضا: “قضية بيد محامي فاشل”.. هكذا اجتمعوا علىّ، وكانت أشلائي وروحي الممزقة هي الوليمة والاحتفال..

كنتُ كأثوار بلادي التي تدفع ثمن لا ذنب لها فيه.. تفتدي المجرمين الذي يتم إنقاذهم بهجر وثور.. كنت الضحية التي تكاثرت عليها السكاكين، وشاركهم في وليمتهم انتهازيون ووصوليون وإعلاميون كثار..

استسهلوا الهجوم عليّ  مؤتمر وإصلاح، بل وغيرهم من كل حدب وصوب.. جلّهم أكل من لحمي وشبع.. فيما أنا رديت وقلتُ للجميع: “إن خسرت المعركة، فلا يعني هذا أنني خسرت الحرب، ولستُ ممن يُكسر عظمة..”.

يا إلهي كم شعرت بالظلم والقهر وهو يتدافع نحوي كسيل عارم من كل صوب واتجاه.. تألّب جلهم نحوي كقطيع ضباع أنقضّت على ظبي شارد ووحيد ومجروح.. كجلادين أنقضوا على ضحية في مسلخ تعذيب رهيب.. كم شعرت يومها بالظلم حد الانسحاق..

كان عزائي هو النائب صخر الوجيه الذي كان يقسم بوجع وبصوت عالي إنني مظلوم، وأحسست أنه أكثر من شاركني بعض من حزني الثقيل.. موقف صخر الوجيه لم أنساه ما حييت، حتى وإن أختلفتُ معه يوما حد المقاضاة، عندما صار وزيرا، وصرت وكيلا لما سميّ بـ “جرحى الثورة السلمية”.

لهذا وذاك وجدت نفسي مرارا أترك مقعدي البرلماني الذي وصلت إليه، وأحتشد في أي عمل احتجاجي مع الناس، أشاركهم همّهم الجمعي واحتجاجهم ورفضهم، دون الركون إلى حامل أو سند غير الناس الذي أساندهم وانتمي إليهم.. أو هكذا قال أحدهم وهو يوأزرني وينتصر معي في مواجهة الظلم والطغيان..

***

يتبع

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520.

زر الذهاب إلى الأعلى