العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. ذبح الأرنب

يمنات

أحمد سيف حاشد

عندما صرت طفلا قادرا على التمييز، وبوسعه إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، أو بديهية الفرق بين البقاء والرحيل.. مررت بمشاهد لا تنساها الذاكرة مهما تقادمت عليها الأيام والسنون.. خمسون عاما خلت، وربما أكثر منها بقليل، ولازالت حية في الذاكرة، وعصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحوا ارنبا، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجريته بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم..

أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفل قد تلبسه، وصار يصرخ بصوته المفجوع والمنفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة باحتجاج على إعدامه دون ذنب غير رغبة من يشتهي أكله، فيما خفقات قلبه في أوجها، وأنفاسه التي تشبه أنفاس المشاركون في سباق الضاحية، وجسده المهتاج بالحمى التي تعتريه وتداهمه..

وعند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تحاول تخنق صوته وعبرته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق يتطاير كالشرر، من بين أصابع اليد المطبقة على فمه.. وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم لواقع مرعب وبشع في تفاصيله..

لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو لازلت تمر إلى اليوم.. أتذكره وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب من السلطة والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه..

يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الاجل..

إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم.. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان.. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد.. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجا أو اعتراضا أو موقفا أو رأيا تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك..

يريدونك أن تكون هم لا أنت.. فبذلت ما في الوسع لأن أكون حيث أريد.. أشعر أنني أمارس وجودي حينما أسعى وأبحث عن الحرية التي أتوق إليها، وأمارس إرادتي في وجه من يريد استلابها.. أجد بعضي في مقولة الفيلسوفٌ والشاعر الأمريكي رالف والدو إمرسون “أفضل إنجاز هو أن تكون الشخص الذي تريد في عالم يحاول جعلك الشخص الذي لا تريد”.

هنا يريدون أن يقلعون لسانك من الجذور.. يريدون استلاب عقلك، وانتعال حريتك، واستباحة استقلاليتك، وإفساد ضميرك حتى آخره .. يريدون الإيغال في ممارسة القتل والفساد والاستبداد والطغيان دون أي اعتراض أو معترض..

***

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى