العرض في الرئيسةفضاء حر

السلسلة التاسعة.. خجول ومصاب بالرهاب

يمنات

أحمد سيف حاشد

(1)

اغتراب وخجل واضطراب

كنت خجولا جدا، وانطوائي إلى حد بعيد.. أعاني من الرُهاب الاجتماعي على نحو فضيع ومرعب.. هكذا عرفت نفسي في مستهل وعيي بها.. صحيح أنني لم أخرج في ولادتي الأولى صموتا، بل خرجت بصرخة ولادة أستطيع تخيلها وهي تشق حجرة الولادة في بيتنا القديم، وصحيح أيضا إنني كنت شقيّا في طفولتي، وربما في بعض مراحل حياتي، إلا أن هذا لم ينل من خجلي وانطوائي البالغ الذي كنت أشعر به ثقيلا جدا على حياتي.. لطالما كوابيس رهابي استولت على سكينتي، وأقلقتني الساعات الطوال في ليلي ونهاري، ولازمت حضوري ولاحقت فراري، وخجلي الذي كان أكثر ثقلا وعبئا وإعاقة لتطلعاتي..

كنت مُستغرقا بإحساس كثيف أنني معاقا بخجلي، وأنني لا أصلح لشيء في هذه الحياة، وأن مستقبل حياتي سيكون مضروبا بتلك الإعاقة التي لا أستطيع تجاوزها أو التحرر منها، وقد صارت بعض من قدري الذي لابد منه..

أحسست مع كل اخفاق ينالني أن مردُّه عاهتي، ولطالما شعرتُ أن وجودي فائضا عن الحاجة، وأن لا حكمة من وجود فائض عن لازمه، وأن الوجود في بعضه كان عابثا ومستهترا بالحاجة، وأنني صرت أعيش غيابي وغربتي في هذه الحياة الصاخبة التي لا تُشبه انطوائي وخجلي ورهابي، ولا تحتاج لوجودي الفائض والممل.

وعندما قرأت لاحقا رواية “أحدب نوتردام” للروائي والأديب الفرنسي فكتور هيجو، أحسست إن تلك الحدبة التي يحملها بطل الرواية على ظهره، لطالما حملتها أنا على ظهري.. ذكّرتني تلك الحدبة بخجلي ورهابي اللذان أثقلا كاهلي، ومنعاني من فرص عديدة، وحرماني من أشياء كثيرة، ولطالما تم مصادرتي ومصادرة حقوقي رغم وجودي الذي تبدّى لي أنه بات عبئا على هذا الوجود.

صحيح أنني كنت أقدم على أفعال في بعض الأحيان تبدو جريئة ومتمرّدة وشقيّة، و لكن في معظم الأحيان كان يرافقني خجلي كظلّي، وأحيانا يجتاحني طغيانه الكاسح، ولا يترك لي منفسا أو حيزا أتزحزح إليه.. تتهشم عظامي في المضائق التي لا يتسلل إليها نور أو متسع.. لطالما أهدر هذا الانطواء والخجل كثيرا من الفرص في حياتي التي أرهقتها مسارات الضياع التي وجدت نفسي أسيرا لها، أو عرضتني للمخاطر والصعوبات الكثار، أو داهمتني بالمواقف المحرجة التي لا عد لها ولا حصر، وأحيانا ولّدت لدي شعورا كثيفا بالفشل والخيبة الكبيرة، والنقص الذي يبلغ بي مرحلة الندم أو العدم.

كان الإحساس بالرهاب والخجل الكبير يشعرني أن القدر قد أصابني بالاختلال في النفس والاعتلال في التكوين الذي جاء ناقصا وغير سوي.. أشعر بعاهة تجتاحني ولا تفارقني ولا يفارقني الشعور بها.. عاهة تجعلني أعتب وانتفض في داخلي على القدر الذي أنتقص منّي أو كان سبب لهذا الاعتلال والخلل الضارب في عمق الروح..

كانوا يقولون أن الملائكة لهم دور في تخليق الجنين وتسويته في بطن أمه، وكنت وأنا صغيرا أسأل أمي:

  • لماذا فلانة مخرومة الشفاه؟!

فتجيب: إن الملائكة نسوا اتمام هذا الخُرم .. ثم تزجرني وتمنعني من تنقيصها، حتى لا يأتي لي أبناء مخرومين الشفاة مثلها، عندما أشب وأتزوج ويكون لي في الحياة بنين..

ثم تجوس في نفسي الأسئلة، وأشعر أنني مملوء بالنواقص والاختلال.. ألوم في قرارة نفسي الملائكة الذين أصاب اهمالهم كثيرا منِّي.. دماغي، وجهازي العصبي، وعيوني، وما خجلي و انطوائي وشعوري بالرُهاب والحرج، إلا إهمال وتقصير كبير منهم، يستحق الحزن والعتب، وأكثر من هذا إن تأتَّى..

عندما كبرتُ واكتسبت معرفة أكثر عن الوجود، وعن الواقع البشري والسياسي الذي نعيشه؛ اكتشفت كثير من أوجه الاختلال والاعتلال الأكثر وبالا وجوهرية على حياة الشعوب والمجتمعات.. أكتشفت أن العاهات الحقيقية هم الطغاة والمستبدين والفاسدين، وأرباب الحروب وتجّارها، وأيقنت أكثر أن هؤلاء المسخ هم العبء على هذه الحياة وعلى الإنسانية وعلى هذا الوجود المُثقل بهم.

***

(2)

بول وصلاة ورهاب يشبه الانتحار

كان رهابي يخرس صوتي ويئده ويهيل عليه التراب.. يمزقه ويشتته حتى يتلاشى كالهلام.. يخنقه بقبضة من حديد قبل أن يصعد إلى فمي.. يبتلع لساني من جذرها المغروس في حنجرتي الملجومة بالخجل والرهاب.. طغيان يمارس سلطته بفجاجة على حياتي التي أثقلتني بمعاناتها..

كنتُ لازلتُ صغيرا أو حديث سن، فيما رهابي وخجلي صارا أكبر منّي، بل أضعاف وزني وسنين عمري العجاف.. مسحوقا أنا بخجلي ورهابي بإصرار لا يكل ولا يمل، وبتكرار لا يعرف الوهن.. خيبة ومرارة تجتاحني وأنا أقع في كل مرّة فريسة في شباكها لا أقوى على المقاومة..

لطالما عشت مأسورا بانطوائي وبالحياء المطبق بكلتي يديه على فمي المكتوم بعازل الصوت الذي يمنعني أن أطلب حاجة أو نجاة أو استغاثة.. يستطيع المرء أن يتصور مدى خجلي بصورة من يؤثر هلاكه على النطق بكلمة لا يزيد طولها عن الحرفين “قف”..

كيف لشخص أن يخجل من صوته ورفقته ويرتكب مغامرة تشبه الحمق الكبير؟! يؤثر احتمالية الخطر على أن يسمع الناس صوته؟! كيف لأحد بسبب حياؤه وخجله وما يتملكه من رهاب أن يقفز من السيارة التي تقله وهي مسرعة كالعاصفة دون أن يطلب من صاحبها الوقوف أو النزول.. إنه رهاب يشبه الانتحار..

***

لطالما خجلت من صوتي وأنا صغير.. حتى عندما وصل إلينا مسجلات تسجيل الصوت لم يكن يطربني صوتي، بل ربما عتبتُ يوما على رب هذا الصوت.. ربما أوغلت في التمرد في لحظات انفعال وانفلات.. فلت من يدي عقاله وزمامه حتى بلغ أطراف المدى..

أقاوم الإكراه بكل وجوهه وسلطانه وإرغاماته، ولكن ينحرف أحيانا تمردي حتى يبلغ ما هو قصي وبعيد.. أذكر يوما صفعني أبي بالحذاء مرتين وثلاث لمجرد أنني تأخرت في إحضار ماء وضوء صلاة المغرب لأحد أقاربنا رحمة الله عليه، وبانفعال وحماقة بُلت في الوعاء قبل أن أصب فوقه الماء، وأعطيته الرجل ليتوضأ، فيما عيوني كانت غارقة في دموعها وهي تكابر..

هدأت نفسي وانفعالي وربما خالطت دموعي ابتسامة ما حالما شاهدته يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ومحيّاه.. لقد أصاب حمقي من كان بريئا من صفعي بالحذاء، حتى وإن استشعرت حينها إنه بعض سبب يستحق العقاب..

المفارقة كبيرة بين من يتجرّأ على فعل هذا وفي مقام أخر يخجل من أن يسمع الناس صوته.. مفارقات عجيبة أحيانا تجمع ما لا يجتمع.. ربما حالي في بعض منه يشبه في أيامنا هذه من قاوم سبعة عشر قدرا فيما يرتعب ويرتعد من كلمة أو منشور في وسائل التواصل الاجتماعي..

 لن يحدث هذا إلا لوجود عور وخلل في دماغ وكينونة المدّعي، وأساس من استبداد المخاوف الكبيرة، والحيلولة دون وجود انكشاف عن أخطاء وخطايا جسام من فساد وانتهاك، وافتقاد ثقة بألف ضعف مما كنتُ أعاني في صغري وحداثة سني.. هكذا بدت لي الحياة تعج بالنظائر والعجائب، وحافلة بالتناقضات والمفارقات والمخاوف..

***

كان عمري يومها أقل من خمسة عشر سنة على الأرجح.. توقف أبو شنب بسيارته “اللاندروفر” عندما أشرت له بالوقوف والسماح لي بالصعود إلى سيارته، فيما كنا نسميه “تعبيره”.. كان أبو شنب الشعبي رجلا طيبا جدا ومعتادا على تعبير الطلاب الذين لا يملكون مالا، دون أن يأخذ منهم أجرة نقل، ولا سيما إن وجدك راجلا في الطريق وترجوه خجلا بإشارة من يدك أن يوصّلك..

كان السائق عائدا إلى منطقة “ضوكة”، فيما كنت أنا قاصدا “شعب الأعلى”، مجفلا إلى قريتي في القبيطة.. كانت السيارة مزدحمة بالركاب.. وقف لي السائق بسيارته وتسلقت على حدائدها، و ظفرت بمكان صغير في مؤخرتها.. وبعد قليل تفاجأت إن السيارة متجهة إلى غير وجهتي..

كنت أظن وجود شخص أو أكثر ممن تقلهم السيارة سيطلب من السائق التوقف للنزول منها، لعل وجهتهم تماثل وجهتي، غير أن الخيبة داهمتني، وأنا اكتشف أن الجميع على غير الاتجاه الذي أقصده..

 الجميع متجه إلى “ضوكه”.. وبسبب خجلي وما يتملكني من رهاب، لم أتجاسر على أن أصرخ أو حتى أطلب الوقوف للنزول من السيارة التي تقلني.. كانت السيارة تسير بسرعة في وجهتها، وتبتلع المسافات بنهم وشراهة، فيما أنا آثرت القفز منها على طلب إيقافها.. كاد أن يقول الناس عنّي “ومن الخجل ما قتل”.

قفزت من السيارة.. ارتطم جسدي على الأرض.. خلت جسدي في أول وهلة قد تطاير كالزجاج.. أرتطم ذقني على الأرض بقوة.. اصطكت أسناني واحتدمت ببعضها.. أرتطم الفكين فوق بعض حتى فقدت التميز بين علوه وسافلة.. أحسست أن رأسي تفجر وتطاير كشظايا قنبلة..

 شاهدت شررا قادحا من عيوني يخر في كل اتجاه.. شعرت أن الارتطام قد صيرني حطاما متطايرا لا يُجمع ولا يجتمع؛ فيما كان ركاب السيارة يصرخون وقد شاهدوا بغتة وقوع أحد ركابها منها دون أن يعلموا أنني فعلتها بمحض إرادة سببها الرهاب والخجل.. أوقف السائق السيارة على إثر صراخ الركاب ليرى ما الذي حدث..؟

تعددت الإصابات في جسمي.. دم يهر من سحجات وخدوش متفرقة في جسدي.. تهتُّك بعض من قميصي، وسروالي صار مغبر متسخ.. الغبار والدخان كان واضحا وكأنني خرجتُ من مدخنة السيارة.. دم يهر من الخدوش، ويسيل بعضه من أسفل الذقن..

نزل السائق من كبينة السيارة ليرى ما حدث، فيما أنا غالبت وقع الارتطام وشرر الألم، ودفعني الحرج والخجل الأشد أن استجمع قواي، ونهضت بمكابرة لا يعرفها من هو حديث السن لأنقل لمن كان في السيارة التي وقفت أنني معافا وعلى ما يرام، فيما السائق بدا في سعادة الناجي، وكأنه هو الناجي لا أنا.. كانت مكابرتي ونهوضي السريع بدافع الخجل قوية وغالبة، ودون أن أتفوه ببنت شفة.. بديت في شكل من يتحمل مسؤولية ما حدث كاملا دون نقصان..

وبعد مشقة ومغالبة للألم وصلت إلى بيتنا في شرار، وأول ما شاهدت على المرآة كان ذقني الجريح.. رأيت أسفل الذقن جانباً زائداً وجانباً ناقصاً في غير اتساق.. أختل النسق والاستواء.. لا زال هذا الاختلال والعور ملحوظا إلى اليوم، ويستطيع أن يلمحه من يتفحصه بالنظر..

اليوم كبرنا وصرنا والوطن نصرخ بكل صوت.. السيارة التي تقلنا بلا كابح أو فرامل.. سيارة يعترك على مقودها من لا يجيد فنا أو قيادة.. مجانين حرب لا يجيدون حتى حساب الربح من الخسارة.. السيارة تمرق بأقصى سرعة وجنون.. أستحال علينا حتى القفز منها.. باتت تهرول نحو المنحدر.. بات مصيرنا والوطن مجهولا ومرعب..

وأختتم هنا بالتذكير أن للصمت ربما أيضا معنى وصوت أجل وأكبر من ذاك الضجيج الذي نسمعه.. وإن أستبدت بنا مخاوفنا حينا، وصار صمتنا أكبر من الضجيج، فربما أيضا لا يخلو من حكمة وعبرة وبصيرة، وما نحتاجه هو عالم ومحيط يفهمه، وقد قالها شمس التبريزي يوما أن للصمت أيضا صوت ولكن بحاجة إلى روح تفهمه.‏

*** 

 (3)

اجتماع الجوع والخجل!

كنّا في أيامنا نعيش الجوع، ونراغم أقدارنا، ونستطيع أن ننتزع الحياة من مخالب الموت جوعا، أما اليوم فشعب يموت كل يوم، وعليه تكالبت كل القذارات والمافيات والنفايات.. الموت عبثي وباذخ في عالم يعترشه الطغاة والمتخمون والتافهون.. عالم تواطأ وتمالا على قتلنا بحرب توحشت إلى أقصى مدى، ورعاة من جهنم يرفضون وقفها أو أن تضع أوزارها، وحصار غشوم يطبق بكلي يديه ويضغط بكل قواه على أفواه من فلت من الموت أو بقي منّا على قيد الحياة.. حرب صارت مربحة وتغرق أصحابها ثراء ووفرة لمن يحوّلون دماءنا وجوعنا ومجاعاتنا ومآسينا العراض إلى أرصدة..

***

جعتُ كثيرا.. جالدت الفاقة والحاجة والعوَز.. عانيتُ من الهزال والضعف والضنك المُنهك للجسد والروح.. عشت سنوات طوال سوء التغذية، و“فقر الدم”، ومشكلات في الغدة الدرقية، وتورّمات مرضية في القدمين، فضلا عن الأميبيا والجيارديا، ونوبات الحمى التي كانت تداهمني بين فترة وأخرى..

عندما تعتريني الحمى كان جسدي يستلذ ويستمتع بالبقاء تحت أشعة الشمس فترة أطول، وأتمنى أن تشتد حرارتها، ثم ما أن أفرغ منها، اكتشف أن الحمى تزداد وتشتد.. تستقوي وتستأسد على جسدي المنهك والهزيل.. أما ما يطلقون عليها في قريتنا “شمس الميات” التي تودعنا باحمرار وبهوت، وهي تذوي نحو الغروب؛ فكانت تذكّرني بسوء صحتي المتدهورة، وأخواتي الراحلات نور وسامية..

في مرحلة إعدادية القسم الداخلي بـ “طور الباحة” كانت وجبات القسم المقررة لا تكفيني أو لا تشبع جوعي إلا في حده الأدنى لأستمر في حياة ضنكة ومنهكة، نقضي جلّها في صراع مرير، ورغبة مستميته من أجل استمرار البقاء بمعاناة ومشقة بالغة..

كانت أمي تواسيني ببعض النقود التي تجمعها لي بصعوبة ومحال، لتخفف عن كاهلي معاناة الجوع، وتحملني على البقاء والحياة من أجلي وأجلها، ومستقبل كان لا يزال غامضا ومجهولا..

وفي ثانوية القسم الداخلي في مدرسة “البروليتاريا” كان طلبة القسم الداخلي كثيرون، وكانت طوابير العشاء والغداء طويلة، وكان أحيانا ينفذ العشاء قبل أن أصل إليه، وأحيانا أدرك القليل منه، وقد أوشك على الانتهاء..

كنت مسكونا بالخجل والحياء الذي يمنعاني من المزاحمة، بل وأخلاقي أيضا كانت تمنعني تخطّي من هم في الطابور قبلي مهما أشتد عليّ الجوع أو شعرتُ أنني لن أصل إلى وجبتي المخصصة، فيما كثيرون من الذين بعدي في الطابور يتخطونني بجرأة وصفاقة لأجد نفسي شيئا فشيئا آخر الطابور دون عشاء.. كنت أصل إلى قرب نافذة الاستحقاق، فأتفاجأ إن العشاء قد نفذ، وربما عند حسن الحظ أظفر بالقليل من القليل..

أحيانا وبسبب خجلي كنت أنام دون عشاء، أو أذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك حسين إلى أشجار “الديمن” التي تسيّج جانبا من محيط المدرسة، لنقطف بعض ثمارها التي لم تنضج بعد، أو لازالت بعيدة عن النضوج.. كان الجوع أحيانا يضيِّق علينا، وكنا نتجه نحوها مضطرين، ولم نسمح لها بسبب جوعنا أن تبلغ ثمارها النضوج.. كان جوعنا أحد من المدية، وأسبق في القطاف، فيما هي تنشب بحّتها الخانقة، وأظافرها المحتجة في حناجرنا المحاصرة بالجوع.. لقد فقدت عون أمي، بسبب البعد وطول الغياب..

أحيانا كنت أذهب مع آخرين متسللا تحت جناح الليل إلى المزرعة البعيدة لأحصل على بعض حفن السمسم ونعرّج أحيانا على أشجار الليمون، لنقطف بعض حباتها، لنأكلها بقشرها، أو نستخدمها على وجباتنا لتحسينها وتحسين مذاق الفاصوليا المطبوخة على نحو رديء وسيء..

***

حللتُ ضيفا في إحدى العطل السنوية عند قريب لنا في عدن.. أظن أن نزولي إلى عدن يومها كان لعلاج مشكلة في الغدة الدرقية.. طبيب ألماني في مستشفى النصر شخّص حالتي، ولزمت فراش المستشفى فترة لم أعد أتذكر طولها، ربما كانت بحدود الأسبوعين على الأرجح..

غذاء المستشفى الذي كان يؤتى به إليّ متنوع وشهي وصحّي، ليس فيه طابور أو متابعة أو خجل.. كانت تأتيني الوجبات إلى الطاولة جوار سريري في الوقت والميعاد المحدد دون تأخير.. وفي السرير جواري توجد أم وطفلها من يافع، كانت جميلة وطيبة وتعاملني كأم وبعاطفة تملئ فراغي، والممرضات هناك كنّ على درجة كبيرة من الاهتمام والمسؤولية، والطبيب الألماني المختص أكثر اهتماما ووعيا بمسؤوليته.. سلام الله على الأطباء الألمان الذين كانوا شديدين العناية والحضور في كثير من التفاصيل على هذا المستشفى التابع لوزارة الداخلية.. خرجتُ من هذا المستشفى وقد تعافيت تماما، وصرتُ أشعر أنني بقوة حصان.. انتقلت للإقامة لبعض الوقت عند قريبنا عبد الكريم هزاع في حي القطيع بـ “كريتر”.

في الغالب كانت وجبة الغداء الرئيسة لدى هذه الأسرة التي أقمت لديها مكونة من الرز وسمك “الزينوب” و”الصانونة” و”العُشّار”.. وجبة شهية جدا بمقياسي.. من يومها إلى اليوم وأنا أحب هذه الوجبة، واشتهيها.. المشكلة التي كنتُ أعاني منها هي خجلي والحياء الذي يحتلني ويتملكني إلى حد لا يصدق.. كنت لا آكل غير نصف حاجتي وأحيانا أقل من النصف بكثير..

في عدن معتادين، أو على الأقل مع الأسرة التي أقمتُ عندها، أن لا يتم تقديم الرز والسمك دفعة واحدة، حتى لا يرمون بفائض الوجبة الزائد عن الحاجة إلى كيس القمامة.. هي عادة حسنة ولكني يومها لم أفطن لها، ولم أكن أدرك سببها والحكمة منها..

كان كل ما تم اكمال ما في الصحن أو قبل انتهاء ما تم غرفه أولا، أغادر المائدة مباشرة، قبل أن يتم غَرف كمية إضافية من دست الرز الموجود جوارنا إلى الصحن التي نأكل منه.. كنت أغادر المائدة بمجرد الانتهاء من التهام ما تم غرفه في المرة الأولى أو حتى قبل الانتهاء منها، فيما كانوا يعاودون الغرف مرات عديدة تصل إلى الثلاث والأربع غرفات.. كان حرجي وخجلي هما من يحملاني على المغادرة وعدم الانتظار أو الالتفات إلى غَرفة ثانية.

بسبب خجلي وحيائي الغير طبيعيين كنت أغادر المائدة بمجرد أن يتم استغراق كمية الرز الأولى.. أما السمك فلا آكل منه إلا قليلا جدا، محكوما أيضا بخجلي وحيائي الشديد.. كنت ما استهلكه من السمك في كل لقمة لا يزيد عن حجم حبة الذرة أو نصف عجرة التمر إن بالغتُ في جُرأتي رغم وفرته، فضلا إن بعض لقيماتي كانت لا تصطحب سمكا بهذا الحجم أو ذاك، فيما كانت شهيتي الحقيقية إن أطلقت عقالها وأعنانها أخالها لا يكفيها وجبة خمستهم من الرز والسمك و”العشّار”.. ربما تلك الشهية المكبوتة والمقموعة بالحياء جعلتني أحب هذه الوجبة إلى اليوم واشتهيها بلهفة أشد..

لاحظ عبد الكريم هزاع وهو رب الأسرة طغيان الحياء والخجل في يدي ووجهي وهيئتي، وبدلا من الحاحه أن أرمي حيائي وخجلي بعيدا عن مأكلي، عالج الأمر بطريقة “داوها بالتي كانت هي الداء”.. كانت طريقته بديعة وعلى غير ما هو متوقع أو معهود بين الناس.. فبدلا من أن يلح عليّ بأكل قطع السمك قال: “أحمد لا يعجبه السمك”.. تظاهرت بموافقة لما قاله وبديت تعففي تماما عن أكل السمك.. ولم آكل سمكا في الأيام التاليات بمبرر أنني لا آكل السمك.. صرت نباتيا في سفرة وحضرة السمك..

وعندما طبخوا “زربيان” لحم وهي وجبة لذيذة، وقبل أن أمد يدي لتناول فرتيت منه، بادر بقوله: ((أحمد لا يحب لحم “الزربيان”)).. فقلت بحياء وخجل: ((أيوه .. أنا ما يعجبناش لحم “الزربيان”)).. تعمّدتُ تحت تأثير قوله إلى حرمان نفسي من لحم “الزربيان” أيضا، رغم رائحته التي كانت تشويني حيّا، وتشرِّح شهيتي، وتصلبني في دواخلي وأعماقي بصمت وخفية..

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تكرر بعدها مع الدجاج؛ حيث قال قبل أن أمد يدي إليها: “أحمد ما يأكلش لحم الدجاج”.. فكابرت وأخبرتهم بالموافقة مع ابتسامة متكلفة، وشهدت زورا على نفسي أنه لا يعجبني لحم الدجاج..

وفي اليوم الذي يليه قال وقبل أن أمد يدي إلى الغداء: “أحمد لا يعجبه الرز والصانونة والعُشّار”.. ساعتها شعرت أنه حشرني في زاوية أنا وحيائي وخجلي ودفعني نحو خيار مستحيل لا استطيع أن أجاريه.. ضحك خمستهم بقهقهة وكأنهم كانوا على موعد معها إثر ما قال، وشعرت أن ما يفعله كان بدافع دفعي إلى مغادرة خجلي وحيائي، وأن احتفظ بما هو مقدورا عليه ومعقول..

رديت عليه هذه المرة بحسم لا يخلو من ابتسامة:

– أنا يعجبني كل شيء..

***

(4)

بقايا رهاب

أشعر بالارتباك والخجل.. أراقب صوتي فتضطرب نبراته ويختل سياقه.. أشعر أن سكان الأرض يراقبون صوتي المتهدج والمتلعثم، فيما أنفاسي تسابق بعضها وكأنها في سباق “ماراثوني” غير مسبوق.. يعتريني التوتر الشديد حتى أشعر أن حبالي الصوتية تتمزق في مواجهة عاصفة لا تقوى على مقاومتها..

روحي المتعبة تبدو متهتكة تحت ضربات عيون من يراني أو يتابع حديثي واضطرابي.. صوت نبضات قلبي ترتفع حتى أخال روحي تكاد تطلع من فمي.. ربما أيضا أتصبب عرقا مهما كان الطقس باردا.. وإجمالا أشعر أن إرباكا كبيرا قد أصابني بحجم زلزال ثمان درجات بمقياس رختر..

لكم كانت إشارة الدكتور “دين برنيت” في كتابه المخ الأبله مقاربة لما اعتراني من رهاب وشعور في بعض المواطن.. “دين برنيت” يضرب الأمثلة على بعض الناس المصابين بالرهاب- وأضني واحد منهم في قياس مع فارق المناسبة- يفضلون مصارعة قط بري على أغنية “الكيروكي”.. يرغبون أن يتلاعبوا بقنابل حية من أن يغنون أمام الجمهور .. إذا خيرتهم بين الغناء والمصارعة سيختارون المصارعة من أن يغنون أمام الجمهور..

***

أخفقتُ في الحب مرارا بسبب طغيان خجلي ورهابي.. فقدتُ أكثر من حب في حياتي.. عشت الحب الناقص أشتوي على صفيح ساخن.. تفحمتُ بتكرار وأنا أصطلي بخيباتي الكثيرة.. تبخرت الكثير من أحلامي بسبب هذا الخجل والرهاب اللذان نالا مني سنوات طوال.. وربما أيضا أهدرتُ فرص عديدة كان بإمكانها أن تغيّر وجه حياتي.. صدمات وخيبات كثيرة ضربت أوتادها في أعماق روحي المدنفة.. أنشبت أظفارها في رأسي الذي أثقل كاهلي حتى وجدتُ نفسي أحيانا أسحبه بعدي بمشقة بالغة..

الخجل والرهاب الاجتماعي مشكلة عميقة أعاني منها منذ الصغر.. اعاقه نفسية لطالما عانيت منها في حياتي، بل هي أكثر من إعاقة ألحقت بي كثيرا من الهزائم التي كان وقع بعضها شديدا على روحي ومستقبلي وفرصي المُهدرة..

لطالما أحسست أنني معاق من رأسي إلى أخمص قدماي.. أشعر أن كل عضو وعصبة وعضلة في وجهي وأطرافي الأربعة تخذلني في أشد اللحظات التي أكون بحاجة لحوحة للثبات والتماسك.. أشعر باضطراب جهازي العصبي برمّته، بل أشعر بما يجتاح كياني ويملؤه اضطرابا، وأفشل على نحو ذريع في السيطرة عليه كقدر بات عصيا على المقاومة..

خليط من الخجل الشديد والرهاب الاجتماعي الأشد لازال يداهمني ويتكرر معي بين حين وآخر قد يقصر أو يطول، أو يعاود الظهور بعد انقطاع ونسيان، وربما أجده أحيانا لازال يتربص بي وأنا في هذا العمر المديد إلى درجة أخال الحقيقة كلها في قول فولتير: “الخجل هو شبح لا يمكن هزيمته”.

***

في جلسة مجلس النواب المنعقدة في 13 أغسطس 2016 والخاصة بمباركة تشكيل المجلس السياسي الأعلى، كنتُ الوحيد بين الحضور الذي أعلنت موقفي ببيان يؤكد عدم دستوريته، ورفضتُ فيه الحرب والعدوان، ولجو الأحزاب والقوى السياسية المحلية على مختلف توجهاتها إلى خيار العنف المسلح لحل الخلافات السياسية فيما بينها، وكذا الاستعانة والاستقواء بالخارج أو الدعوة إليه.. احتجيتُ على الجميع، وأدنتُ الجميع بما فيهم سلطة الأمر الواقع في صنعاء، وربما كنت أول من أستخدم هذا المصطلح الذي أغضب يومها نائب رئيس المجلس في إحدى الاجتماعات التي لم يتم بثها.

داهمني رهابي في تلك الجلسة العلنية بسطوة وطغيان.. لازال ذلك الأخدود عميقا في نفسي عندما عايرني بعض زملائي في المجلس وآخرين خارجه؛ ومنهم أحد رفاقي الذي شاهدني على شاشة التلفزيون حالما كنتُ أقرأ بيان رفضي واعتراضي على تشكيل المجلس السياسي الأعلى في صنعاء لعدم دستوريته وشرعيته..

كنتُ أقرأ بياني على نحو عجول، وبنبرة صوت مضطربة، وأنفاس متقطعة تسابق بعضها، ورعشة يدي وأصابعي التي تمسك بالورقة التي أقرأ منها بياني المكتوب استشعرتُ أنها بائنة للعيان، فيما رعشة شديدة أخرى كانت تسري من أسفل القدمين إلى نصفي.. أعترف أنني فشلت في السيطرة عليها أو حتى في استمهالها رغم محاولاتي المتكررة.. كان يلاحظ حالتي من كان خلفي من النواب، أو قريبين من مكان وقوفي..

***

ورغم هذا وذاك لازلتُ أعتز أنني كنت الوحيد بين جميع الحاضرين الذي قالها “لا” في وجه الجميع، وبكل قوة وإرادة وحضور.. كنتُ صاحب البيان الوحيد الذي عارض ما يجري شرعنته في مجلس لم يحترم نفسه، ولم يحترم الأيمان الغلاظ التي ذرعوها أو أطلقوها أو قطعوها على أنفسهم من واجهة هذا المجلس..

كنتُ صاحب الموقف الأهم والصلب والمختلف الذي لم ينصاع ولم يوارب ولم تعتريه ضعف أو هشاشة.. الموقف الصارخ الحاضر في قاعة البرلمان والرافض بشدة لشرعنة الغلبة، أو تمرير ما رأيته خرقا فضا للدستور والقانون والضمير، وهو ما ينسجم تماما مع حقيقة صوتي وما يمليه ضميري الحي في لحظة كانت شديدة الصعوبة والتعقيد..

رغم رهابي أجد نفسي أسحق نفاقي كل يوم.. أتمرد على مخاوفي وأثور.. أغامر وأجازف من أجل ضمير أتعبني وعذّبني وأثقل كاهلي، إلا أنني لم أتخلَّ عنه يوما، بل عشتُ صراعاته مع خصوم يملكون كل شيء، فيما أنا أعزل لا أملك غير أمل وقلم وحلم كبير لازال بعيداً وربما عصياً على التحقيق..

ما أصابني من رهاب لا يقارن بما أصابوه.. ولا مقارنة بين ما حدث منّي وما أحدثوه.. كثيرون هم الساسة والنواب وخلال عمر هذا المجلس، الذين وضعوا أيديهم بثبات على القرآن، وقد أقسموا اليمين بالله العظيم أمام الأشهاد، بأنهم سيحافظون على الدستور والقانون والنظام الجمهوري والوحدة والسيادة والاستقلال ثم ما لبثوا أن حنثوا به بعد يوم أو عام..

جلّهم تنكروا لتلك الأيمان، بل وتغوط بعضهم عليها، وبعضهم فسدوا وأفسدوا حتى غرقوا في الفساد إلى شحمة الإذنين وشعر الرأس، والبعض حملوا الخيانات في بطونهم، وربربوها في أحضانهم، وحملوها على ظهورهم، وجبوا وجلبوا منها المال الكثير، بل وأعتاشوا على الخيانات، ومكروا بشعب ووطن حتّى نكبوه، ولا نعلم كم نحتاج من العقود والسنين لنستعيد وحدته ومستقبله وأحلامه الكبار..

***

 (5)

بين رهابي وكثافة شعوري بالظلم !

في أحدى لقاءاتي مع الناخبين أثناء ا

زر الذهاب إلى الأعلى