العرض في الرئيسةفضاء حر

الارهاب والاغتصاب ..

يمنات

وميض شاكر

هناك أشياء صغيرة تُدخل السرور إلى قلبي، مثلاً أن أفتح التلفزيون ويصادف هذا بدء النشرة الاخبارية على أية قناة، أشعر حينها كأنني كسبت اليانصيب. على العموم، أنا لست كأبي، الرجل الثمانيني، السياسي، الذي لايزال يتصرف كمدينة عدن في عهدها البعيد. يغمض أبي عينيه إلى نصفيهما موجها أياهما نحو رسغه الأيسر حيث ساعته الرولكس القديمة، وبعد أن يقضي بعض الثواني مركزاً بصره على عقارب الساعة، يقول بحزم: الساعة الثامنة الآن، افتحي لي نشرة الأخبار من البي بي سي! يكرر أبي نفس المشهد في الساعة الحادية عشرة ليقول: حان وقت نشرة الأخبار من روسيا اليوم.

الليلة، فزت باليانصيب، فتحتُ “قناة فرنسا 24” مع بدء نشرتها الاخبارية. عادةً يطلق عليها المثقفون الذين يحبون بودلير أو داريدا “فغنس فان كاتخ”. قبل أن ينتقل البث إلى الاستوديو، سمعت موسيقى جميلة صاحبتها صوراً مسائية لبرج ايفل كُتب على جانبها “باريس مباشر”. في الاستوديو، ظهرت مذيعة جميلة حادة الأناقة. بالكاد رأيتُ بريق حجرٍ أسود صغير كان معلقاُ على قلادتها الدقيقة التي لم أرها ولكنني استنتجت ذلك، بالكاد استطعتُ أن أميز لون ساعديها المكشوفين عن لون فستانها الوردي الخالي تماماً من أي شيء يُذكر سوى قَصات العنق والساعدين، وبالكاد لمحتُ كحل عينيها وأحمر أو وردي الشفاة. كل شيء في الاستوديو كان زاهيهاً بصرامة، الاضاءة والديكور وزاوية عدسة الكاميرا العريضة والمذيعة الباهية طبعاً، كل شيء كان يقول “هنا باريس!”

تحدثتْ المذيعة ذات الأصل العربي- على ما يبدو- بلغة عربية صحيحة، لكنها كانت لغة عربية مثقلة باللكنة الفرنسية. صحيحٌ أنني لم أكن قادرة على تمييز قلادة و مكياج المذيعة، لكنني بسهولة ميزت لكنتها الفرنسية، تماماً مثلما يسهل علينا تمييز لكنة الهنود حين يتحدثون العربية.

تابع الخبر الأول تطورات انفجار مانشيستر الارهابي، تلاه خبر لزيارة ترامب الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون، وعلى فكرة، لم يكن اسمه- أيها العرب- ماكرون، بل ماخون، هكذا نطقته مذيعة فغنس فان كاتخ الأنيقة، وهكذا سأكتبه من الآن وصاعداً: ماخون. ظهرت على الشاشة صورة لكرسيين أحمرين متجاورين يجلس على الكرسي الأيسر ماخون وعلى الأيمن يجلس ترامب وبينهما امتدتا يديهما في صفاح طويل. صَحب صورة الرئيسين تقريرٌ بصوت مذيع عربي آخر يتحدث اللغة العربية بإتقان ولكن بلكنة فرنسية أثقل من لكنة زميلته الحسناء في الاستوديو. قال المذيع بأن الرئيسين بحثا قضايا هامة على رأسها الارهاب والاغتصاب.

ماذا؟! الارهاب والاغتصاب؟! متى حدث هذا؟! وكيف حدث؟! متى توصل العالم لجعل الاغتصاب مقروناً بالارهاب، مقروناً بأثقل القضايا السياسية على ساحته؟! كيف أصبح الاغتصاب قضية هامة على رأس حديث رئيسين كونيين؟! أساساً، متى كان قضية من أي نوع لأي سياسي في العالم الفقير أو الغني؟! يا إلهي! ما كل هذا التحول؟! هل يُعقل أن يكون مؤتمر الرياض الاسلامي الامريكي الذي حضره ترامب قبل أيام قد فعل كل هذا؟! يا قوة الله! ويا بركات الشهر الفضيل!

في أقل من ثانية، خطرت لي كل تلك الاسئلة، وفي ثواني أخرى وجدت لها الاجابة. ركزت بصري على صورة الرئيسين فوق الكرسيين الأحمرين، رأيت ماخون الشاب وترامب العجوز وبينهما يداهما تتصافحان بحرارة. ألا يشبهان الرجل العجوز والآخر الشاب اللّذين رسمهما مايكلانجلو على سقف إحدى كنائس الفاتيكان حيث يمد العجوز أو “الله الأب” يده للشاب لينفخ فيه روحه، لـيخلق آدم؟! الفرق أن عجوز مايكلانجلو كان على يسار الشاب حيث يجلس ماخون في الصورة التي تبث الآن من قناة فغنس فان كاتخ!

لمَ لا؟! قلتُ في نفسي. الرئيس الفرنسي الشاب محاط- على الأقل- بامرأتين قويتين: زوجته المُعلِمة، وميركل مستشارة ألمانيا التي هرع باتجاهها حاضناً لها قبل كل زعماء حلف الناتو في اجتماعهم أمس ببروكسيل. هكذا رأيته مهرولاً إليها في الصورة التي تلت صورته مع ترامب لتقرير مذيع فغنس فان كاتخ العربي ذي اللكنة الفرنسية الثقيلة! بعد ذلك، رأيت صورة ترامب مع تيرزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة أيضاً، كانا يجلسان في حديقة على هامش اجتماع بروكسيل الرسمي، كانت ماي على يساره، وكانت تحدثته كما تحدث المعلمة التلميذ، رأيت حينها بريطانيا التي لا تغرب عنها الشمس! العالم من حولنا يتغير، نعم يتغير! بل يعود شاباً ليصلح ما اقترفه من أخطاء في الماضي، ليمحو أخطاءه بل جرائمه في حق البشر وفي حق النساء.

ماذا ستكون ردة فعل صديقاتي وزميلاتي في “التوافق النسوي اليمني من أجل السلام والأمن” عندما أحدثهن غداً عن الأجندة العالمية الجديدة في محاربة الارهاب والاغتصاب؟ سألتُ نفسي مبتسمة. كيف سأشرح لهن الموضوع؟ وكيف سأقنعهن بأن الاغتصاب وحده كفيل بأن يجعل أغلب دول العالم والقوى السياسية والرؤساء، سواءٌ كانوا شباباً أو كهلة رجالاً أو نساء، ارهابيين. كيف سنستنتج أن أي جماعة في التاريخ البعيد والقريب اغتصبت النساء في الحروب هي جماعة ارهابية. الدول الأعضاء في حلف الناتو أنفسهم ألم يغتصبوا النساء في حروبهم منذ الحرب العالمية الأولى والثانية إلى حروب البلقان؟! حتى اليابان الأليفة ستكون دولة ارهابية لما نصبته من معسكرات للاغتصاب ومجازر للنساء. ثم هناك رواندا، والكونغو وأفريقيا الوسطى وساحل العاج ومالي، وكولومبيا، والسودان، والشيشان، والنيبال وأفغانستان، وايران والآن سوريا والعراق.

وهو يتحدث عن أكثر من مليون مغتصبة في الحروب، كتب الصحفي المصري، أحمد عزيز، “خلف أخبار القصف والقتل والتهجير والتعذيب للمواطنين، تتوارى مشاهد أخرى لا تقل دموية وبشاعة، ووسط أصوات المدفعية والضربات الجوية التي لا تتوقف، هناك أصوات أخرى تهز السماء، هي صرخات مغتصبات الحروب اللاتي غطى صراخهن على أزيز الطائرات.”

ما العمل؟! الموضوع كبير وخطير، كيف يمكن للنساء أن يجعلن كل هذه الدول والجماعات ارهابية، كيف يمكنهن الانتقال من توصيف جريمة الاغتصاب كجريمة حرب ضمن جرائم الابادة الجماعية في القانون الدولي إلى جريمة ارهاب في العرف السياسي. على كل حال، لم تكن هذه اجندة النساء، فلازالت النساء تكافحن لتفعيل مادة الاغتصاب تلك. لكنني سأدعو زميلاتي للمحاولة، وأظن أن الوقت حان للتواصل مع انجلينا جولي. عزيزتي انجلينا، هيا قفي مرة أخرى وواصلي حماسك ضد الاغتصاب في الحروب، هذه فرصتك لترك براد جانباً، كما أن الأمر لا يحتمل التأخير، اطلقي تويتة مبدئياً وسنبحث الطرق الأخرى الممكنة في وقت آخر. سأقول لزميلاتي أن نرسل لانجلينا هذه الرسالة!

واصل مذيع فغنس فان كاتخ تقريره، وأعاد في نهايته خبر زيارة ترامب للرئيس الفرنسي الجديد وهو في طريقه لبروكسيل قادماً من اسرائيل بعد زيارته التاريخية للرياض، وعلى تأكيد ترامب ضرورة بحث القضايا العالمية الهامة: الارهاب والاغتصاب والاحتباس الحراري! كأنني سمعت الاحتباس الحراري! كيف تكون كل هذه القضايا مشبوكة في خيط واحد، ما الرابط يا تُرى؟! أنصتُ بتركيز، لقد قال المذيع العربي ذو اللكنة الفرنسية الثقيلة: الارهاب والاقتصاد والاحتباس الحراري!

من حائط الكاتب على الفيسبوك

زر الذهاب إلى الأعلى