تحليلات

القبيلة.. ونمط إنتاج اقتصاد الغزو !! .. هائل سلام

 يمنات – متابعات

(ملاحظات أولية):

تمثل القبيلة – أية قبيلة – وحدة اجتماعية وجغرافية مكتملة بامتياز. اجتماعياً، ووفقاً للدراسات والأبحاث الانثربولوجية، تعد ( البنية الانقسامية ) للقبيلة، أحدى أبرز سماتها. إذ هي – كوحدة اجتماعية – تنقسم إلى أسر، أفخاذ، عشائر … الخ، على نحو عنقودي/ هرمي يتربع على قمته شيخ القبيلة.

ويأتي قانون القبيلة ( الأسمى)، ومؤداه: ( أنا وأخي على ابن عمي .. أنا وابن عمي على الغريب ) كنتاج طبيعي لهذه البنية. بيد أن (الاعتقاد) بالانتماء إلى جد أعلى، مشترك – حقيقةً أو وهماً – يقوم بدور ( اللحام ) الذي يشد بنيان القبيلة بمختلف وحداته المكونة وعلى نحو يجعل منه كلاً متحداً، واحداً.

وجغرافياً، تعد (ربوع) القبيلة (وطن) هي الأم. إذ باعتبار أنها تكوين ينتمي، في الأصل، إلى تكوينات ما قبل الدولة فإن علاقتها – بالتالي – بالوطن الكبير الذي تمثله هذه الدولة تبقى – وإلى حد كبير، محكومة بهذا الأصل.

وما بين الاجتماع والجغرافيا، تاريخ، أو بالأحرى، سيرورة تاريخية، طويلة وممتدة، تجسد مسيرة القبيلة في الزمان، وتمثل – على صعيد الذاكرة – سجلاً حافلاً لتجاربها وخبراتها: (الإيجابية: انتصارات ..بطولات.. ومآثر.. والسلبية: مجاعات، حرمان، ومعاناة… الخ)، والتي تشكل بمجموعها (اللاشعوري الجمعي) و(المخيال الاجتماعي) للقبيلة: ( الأول: كرواسب دفينة ومختزنة لمختلف الغرائز والرغبات والتجارب والخبرات، الإيجابية والسلبية، والثاني: كمجموعة منظمة من التصورات والتمثلات التي تتمكن القبيلة بواسطتها من إعادة إنتاج نفسها والتعرف على ذاتها وبالتالي رسم صورتها، أمام ذاتها وتجاه الغير).

وعلى هذا فإن القبيلة ليست مجرد جماعة. بل هي، إلى ذلك (مؤسسة) ضاربة الجذور، في التاريخ وفي الوجدان، وجدان أفرادها. (المؤسسة – بوجه عام – ليست إلا اجتماع عنصرين، مادي ومعنوي، يتمثل الأول بالأفراد والثاني بالقيم). كما أن (الانتساب) إلى قبيلة ما، ليس مسألة (عضوية) كما هو الحال بالنسبة إلى الجماعات الأخرى. بل هو، فضلاً عن ذلك (انتماء ذوباني) تذوب فيه ألـ (أنا) الفردية في الـ (نحن) الجمعية للقبيلة، تبعاً لدينامية علائقية، داخلية، تصهر الذوات الفردية في (الذات) الكلية للقبيلة، وتجعل من هذه الأخيرة (الهوية) الوحيدة والمطلقة للأفراد، في مقابل صيرورة القبيلة، ملجأً وملاذاً، لأفرادها، يستمدون منه العون والحماية.

فالقبيلة – كجماعة مغلقة، بمعنى ما – تملكية أساساً تقوم علاقتها بأفرادها على أساسٍ من الحب التملكي فـ(القبيلي = الفرد المنتمي لقبيلة) محكوم بجبرية ادماجية تذويبية، تصهره في بوتقة الذات الكلية، وهو عرضة، منذ الصغر، لعدد من الإكراهات التي تمارس عليه، طوال مراحل نشأته، من خلال آليات علائقية قسرية، تضيق نطاق حريته الشخصية، وتقلل، إن لم تلغ، خياراته الفردية إلى أقصى الحدود.

 

– ( نرجسية القبيلة ): تمجيد الذات.. تبخيس الآخر:

والقبيلة إلى جانب كونها جماعة، هي أيضاً (نظام) علائقي صارم، يسيطر على عقول الأفراد وعواطفهم وأبدانهم، على نحو يبدو معه، هؤلاء، وكأنهم كائنات لا تعش لذاتها..

فالفرد ملكاً لقبيلته. كل ما يحققه من كسب مادي، وكل إنجاز ينجزه، لا يعود بالنفع عليه وحده، وإنما هو في الأساس، ملكاً لقبيلته. بيد أن القبيلة، في مقابل هذه السطوة على أفرادها، تقدم نفسها لهم، تبعاً لذات الدينامية، ووفقاً لفكرة (التضامن) القبلي المعروفة، كمصدر للأمن والحماية، وضمانة ضد الأخطار الخارجية، وكتأمين ضد عوائل الزمن وكوارث الطبيعة. فوفق ديناميتها تلك، تعمل – القبيلة – كتعاضدية/ تأزرية، على درجة عالية من القوة والحزم لتأمين أفرادها ورد الأخطار عنهم. وتلك نتيجة منطقية – بطبيعة الحال – إن هي أرادت الاحتفاظ بهم وبسط سطوتها عليهم.

وفضلاً عن ذلك ومن خلال (الذات) الكلية لها، تمنح القبيلة أفرادها (هوية) جمعية، تعويضاً عن هوياتهم الفردية المنصهرة، وبما يغنيهم – في غالب الأحوال – عن السعي لاكتساب أي هوية ذاتية. وهكذا فمن لا هوية، ذاتية، مهنية أو علمية، له، يعتز بهوية القبيلة، ومن لا إنجاز شخصي له، يفخر بإنجازات قبيلته.

إن فكرة (التضامن) هذه، تعزز الشعور بالانتماء إلى القبيلة وتزيد من درجة العلاقات الاندماجية فيها، وبالتالي تزيد من حدة انغلاق القبيلة وانكفائها – علائقياً – على ذاتها (وهذا ما ينظر إليه، بالذات، على أنه أكثر ما يحول دون تحقيق اندماج وطني وأكبر ما يعيق بروز فكرة " المصلحة العامة " التي تقوم على أساسها الدولة الحديثة).

وتبعاً، للمعطيات سالفة البيان، الجغرافيا والاجتماع، في ضوء التاريخ، تاريخ القبيلة. فإن (العالم) بالنسبة إلى القبيلة، ينقسم، على نحو ينطوي على قدر غير يسير من الحدية، إلى عالمين: ( واني) و (براني).

 الأول تمثله القبيلة، بكل ما ينتمي إليها، والثاني يتألف من كل ما عداها، من كل ما لا ينتمي إليها. الأول محكوم بنزعة تمجيدية استعلائية باعتبار كونه تجسيداً للخير المطلق، (مصدر الهوية والانتماء .. الملجأ والملاذ.. عالم القدوة والمثل الأعلى…) والثاني محكوم بنزوع انتفاصي، احتقاري باعتباره تجسيداً للشر كله. وتتحدد العلاقة معه – تبعاً لعوامل القوة والضعف – إما بمواقف اجتنابية، انسحابية، حذرة. أو – وهذا هو الغالب – بممارسات عنفية، هجومية، وتدميرية، خطرة.

 

هذه النظرة الانشطارية إلى ( العالم )، المشحونة بالعواطف، الإيجابية والسلبية، تجاه قسمي العالم في (المخيال الاجتماعي) للقبيلة تحدث لدى أفراد القبيلة نوع من الانشطار النفسي. انشطار تصير معه المواقف العاطفية تجاه العاملين حادة وقطعية.

وتتعزز هذه الحالة بفعل تأثير الدينامية العلائقية ذاتها، وميكانزمات الدفاع البشري داخل القبيلة، كأوليات تستهدف صون وحدة (الكيان) القبلي، والمحافظة على تماسكه البنيوي. ومن ذلك إنكار تناقضاته وخلافاته الداخلية. وتحديد أدوار الأفراد من خلال خلق صورة النموذج، المثل الأعلى، للقبيلة، الذي يجب أن يحتذيه أفرادها. وعلى نحو يجعل من كل فرد نموذج، ومرآة، تعكس للآخرين ذواتهم الإيجابية، فيتمثل كل منهم ذات الآخر وينعكس هو ذاته – في آن – مثال للآخر. ما يعزز انصهار الأفراد في ذوبان اندماجي كلي، في (الذات) الجمعية، الـ (نحن) القبلية.

بذلك، وبتغذية الـ (نحن) هذه، من خلال شحنها العاطفي الايجابي ( ضخ الحماسة، استلهام بطولات الأجداد، المبالغة في تقدير الذات، والإفراط في التمجيد وإعلاء الشأن…) يندمج الأفراد، ذوبانياً، بإخلاص وولاء في الـ(نحن) الجمعية تلك، بحيث لا يعود لأي منهم أي استقلالية شخصية أو هوية ذاتية، فتغدو الهوية الجمعية – حسبما سلف الذكر – الهوية الوحيدة لكل أفراد القبيلة.

ومن هنا تتضخم (قيمة) القبيلة، كقيمة عليا مطلقة، وتنشأ بذلك نرجسية القبيلة، كطاووسية، تملأ أنفس أفرادها – القبيلة – اعتزازاً وفخراً، مع حالة من الإحساس بالقوة والعِزة والمنعة. وهكذا كلما تضخمت هذه النرجسية، زاد الشعور بالتميز، وبالتالي، الانغلاق، عن القبائل والجماعات الأخرى، إذ تنغلق الحدود، نفسياً، بينها وبين ( الأغيار ) على نحو تبدو معه القبيلة كـ(كائن لذاته).

والإفراط في تقدير الذات، يقابله، تطرف في تبخيس الآخر، والتهوين من شأنه، من خلال سلوك أسقاطي، يسقط عليه كل السلبيات والمساوئ، تبعاً لمنطق ذرائعي، يستهدف في الأخير إفراغ كل العدوانية المكبوتة عليه، وتبرير اضطهاده واستباحة أملاكه وأمواله.

 

( مفعول القبيلة ): الغنيمة .. عقلية ونمط حياة:

تنشأ القبيلة، في الأساس، وفقاً لعوامل اقتصادية، تبعاً لتأثير عوامل البيئة المحيطة (يلاحظ أن القبائل تنشأ عموماً في بيئات تتسم بندرة الثروة، فهي تستوطن، مثلاً، الصحارى، لا ضفاف الأنهار) وتتكون – في الأصل – كتعاضدية تهدف إلى تأمين احتياجات أفرادها الأساسية، في محيط يتسم بالبؤس وشحة الموارد.

ويمثل (قلق الخواء) = (خوف الجوع: مع فارق أن الأول شعور بدائي كامن ومتأصل في اللاشعور، يمثل حالة نفسية، أكثر من كونه تعبير عن حاجة طبيعية بيولوجية، كما هو الحال بالنسبة للثاني)، الذي يعود إلى ذكريات الأسلاف المريرة، وإلى الخبرات السلبية للطفولة (مجاعات.. معاناة.. حرمان. وانعدام الأمن الغذائي، بتأثير عوامل البيئة…) يمثل دافعاً أساسياً للسلوك القبلي، ويسبب شرهاً لا يشبع، وعطشاً لا يروى، للغذاء والثروة. "1 " (وذلك يفسر ظاهرة تخزين السلع والمواد الغذائية والنهب، دون حدود، من المال العام في المجتمع المعاصر: كأمثلة). وبسببه، ومع ندرة الثروة وشحة الموارد، فإن تبرير استباحة الأخر في أملاكه وأمواله، هو – في العمق – ما يجعل من (القبيلة) كذلك.

فتاريخياً، اقتصاد قبيلة ما، يعتمد على (غزو) قبيلة أخرى. والغزو، التقطع، اعتراض القوافل، وأعمال الإغارة عموماً، هي الوسائل التي يتم بواسطتها خلق الثروة في القبيلة، وعلى نحو يجعل من (الغنيمة) المصدر الأساس، إن لم يكن الوحيد، للإنتاج الاقتصادي، في المجتمع القبلي، كأصل.

وهذا بالذات، ما يفسر (ظاهرة) السلاح، التي تكاد تكون مرادفاً للقبيلة. فللسلاح، هنا، وظيفة (الآلة) والوسائط المستخدمة، كوسائل إنتاج في أنماط الإنتاج الاقتصادي المعروفة، كما في التصنيف الماركسي الشهير، لأنماط الإنتاج تلك (نمط الإنتاج : المشاعي البدائي، العبودي الأسيوي، الإقطاعي، والرأسمالي). فنحن هنا إزاء نمط إنتاج اقتصادي فريد، يعتمد على الغزو، وما شاكله من الأعمال الحربية، لا على وسائل الإنتاج المعروفة، القابلة للتأميم، وفق النظرية الماركسية.

والسلاح، هنا، ليس مجرد زينة (فولكلورية)، بل هو – تبعاً للأصل – وسيلة لكسب الرزق: (هذا ما لاحظه ابن خلدون في عصره، إذ وصف القبائل بأنها أقوام أرزاقها تحت أسنة رماحها). ما يعني أن (الغنيمة) فضلاً عن كونها مورد اقتصادي للقبيلة، هي (عقلية) و (نمط حياة)، تشكل جزءاً من شخصية الإنسان القبلي وليس السلاح: (كما في القول الساذج الغريب، بأن السلاح جزء من شخصية الإنسان اليمني)، في معرض تبرير حمل هذا الإنسان للسلاح وولعه به، مع ملاحظة الخطاء الآخر، الذي ينطوي عليه هذا القول، المتمثل بالتعميم.. فلو أن السلاح جزءاً من شخصية هذا الإنسان – أو بعضه في الحقيقة – لقام، ببساطة، بتصنيعه، وابتكار أنواع منه، ولما أكتفى باستيراده واقتناءه من الخارج المحتقر، والمستهجن عادةً).

فالسلاح ليس إلا وسيلة اصطياد (الغنيمة)، والظفر بها، والدفاع عنها. وهذه الأخيرة، هي في نهاية التحليل، الغاية والهدف. بدلالة التنويع في أساليب الاستحواذ عليها، والاستئثار بها من خلال ابتداع مصادر جديدة لها تبعاً لمقتضى الحال، وظروف الزمان والمكان. وعلى نحو ستتطور معه (عقلية الغنيمة) هذه، لتصبح ما يسميه البعض بـ(العقلية الريعية)، ومقصودها كل عقلية تكسر العلاقة بين العمل والمكافئة على أدائه. وترى في الكسب رزقاً، حظاً أو حظوة، يخضع لحسن الطالع، ومحاسن الصدف، وليس ثمرة للعمل الدؤوب والجهد المنظم في نطاق عملية (إنتاج) متكاملة.

فالفرد المنتمي إلى قبيلة، بتأثير عوامل البيئة والتنشئة، لا يؤمن بأي إمكانية لخلق وتكوين الثروة عن طريق تراكم العمل. العمل الدؤوب.. الجهد المثابر، والمخاطرة برأس المال، ليست وسائل معقولة (مستوعبة) لدى هذا الإنسان، الذي هو – بفعل تلك العوامل – محارب مجبول على الظفر بالغنيمة أو الموت دونها (ما يفسر الطبيعة المتشنجة له، التي تجعله محتشداً وعلى أتم الاستعداد، لأن يكون قاتلاً أو مقتولاً لأتفه الأسباب، كما في صراع، فجائي، على مجرد أولوية المرور).

(الغنيمة) إذاً، هي ما يعطي القبيلة معنى، فهذه الأخيرة – بتعبير د/ محمد عابد الجابري – ليست إلا الإطار الاجتماعي الذي يتم بواسطته كسب الغنيمة والدفاع عنها. وبالتالي – والكلام له – فالغنيمة هي التي تحكم – في التحليل الأخير – (مفعول القبيلة ).

 

إن القبيلة، معزولة عن الغنيمة – كما لاحظ بحق – مقولة مجردة، وقالب فارغ.

وتأكيداً لذلك، يمكن أن نلاحظ أن – المنتمي إلى قبيلة، بوجه عام – على أهبة الجاهزية والاستعداد لخوض حروباً لا هوادة فيها، من أجل كسب الغنيمة أو الدفاع عنها. بيد أنه – على الرغم من طبيعته الحربية – ليس على أي درجة من الاستعداد – ولا يرغب البتة – في خوض أي قتال من أجل أي (قضية مبدئية)، لا تؤطرها القبيلة، ولا تحركها الغنيمة. ( حرب 94م كمثال : لم تكن حرباً مبدئية من أجل الوحدة، ففضلاً عن أن الشعار التعبوي، الرائج حينها "الوحدة أو الموت" يتعارض – في الأساس – مع جوهر "الوحدة" كتوحيد رضائي للطاقات والامكانيات، أو كاتحاد طوعي بإرادات حرة، فإن مصطلح "الفيد" الذي قفز إلى المجال التداولي، واستعمل بكثافة آنذاك. "وربما كان اللفظ تحويراً للكلمة الفصيحة "الفيء" وهو ما يدفعه المهاجم مقابل تجنب الهجوم.

فسر – المصطلح – كل ما ظهر وبطن في تلك الحرب. كحرب من أجل توسيع رقعة نفوذ القبيلة، أي كحرب أطرتها القبيلة وحركتها الغنيمة).

وتاريخياً، كذلك من الجدير بالملاحظة، أن الامامة – وهي الوافدة أصلاً من الخارج، والمفتقدة في بناء دولتها إلى جيش – اعتمدت أسلوباً في إدارة المجتمع وإخضاعه قوامه تسليط (القبائل) على (الرعية)، ومثل ذلك، إحدى خطاياها السياسية، بل جناية تاريخية منها بالنظر إلى تاريخية الآثار التي خلفها ذلك. أن أسلوبها ذاك، أدى، إلى تعزيز (العقلية الريعية) لدى الجناح الأول وإلى تأسيس علاقة هذا الجناح بـ(الدولة) – ككيان " دولي "مركزي – على أساسٍ اتكالي، اعتمادي قوامه الاعتماد على الدولة والاتكال عليها، كمصدر للتكسب والارتزاق (لاحظ بخاصة الاستعداد الانخراطي إلى مؤسستي الجيش والأمن). وإلى تكريس نظرة إلى السلطة ترى أنها – بحد ذاتها – غنيمة.

 

( القبيلة والسلطة ): الإثراء بالنهب.. وإمكانية تداول سلمي لـ(الغنيمة):

بمنطق المقارنة، يقال عادةً، أن البرجوازية في الغرب بنت ثروتها الاقتصادية ثم سعت إلى السيطرة على جهاز الدولة. ومثلت ثراءً في المال وثراءً في الفكر. في حين أن الأوليغارشيات عندنا، سعت إلى السيطرة على جهاز الدولة، ومن ثم بنت ثروتها الاقتصادية وتمثل ثراءً، بالنهب، فقط.

وقياساً على ما جرى في الغرب، قبيل وأثناء الثورة الصناعية، من تشجيع للرأسمال، تمثل في العبارة الشهيرة (دعه يعمل.. دعه يمر). فإن القول بـ (دعه ينهب.. دعه يمر) يكاد يكون لسان حال القبيلة الممسكة بزمام السلطة، وقانونها العرفي.

فالقبيلة في سعيها – ابتداءً – إلى السلطة، لا تسعى بدافع تعميم (برنامج) أو (نظرية) من أي نوع. بل تسعى مدفوعة بـ(مفعول القبيلة) ذاته. باعتبار أن السلطة (غنيمة)، أي بوصفها مركز لتجميع الثروات، وموقعاً استثنائياً يتيح امكانية مثلى لـ(اعتراض كل القوافل). وباستحواذها على السلطة، فإن برنامجها الوحيد، بل الممكن بالنظر إلى طبيعتها ذاتها، هو الحفاظ على تلك الغنيمة والدفاع عنها، والمدفوعون بهكذا (مفعول) ليس بإمكانهم إلا أن يكونوا ما هم عليه، ولا يتوقع منهم إلا ما يصدر عنهم.

وبـ (عقلية الغنيمة) لا يمكن للقبيلة – في السلطة – أن تدير مجتمعاً ما، إلا بإتباع أسلوباً قوامه (الإدارة بالغرائز)، وهو أسلوب نكوصي، يعود بالإنسان إلى المرحلة البدائية، التي كان فيها مجمل نشاطه يتمحور حول إشباع غرائزه. وبهكذا (عقلية) لا يمكن للقبيلة أن تشغل، مثلاً، بـ(عدالة توزيع الثروة). وأقصى ما تستطيعه، بحكم طبيعتها، في هذا المجال، هو أن تنشئ ما يعرف بـ(الدولة الحصصية). وهي دولة تتقاسم فيها خيرات البلد مع القبائل والجماعات الأخرى، ذات القوة والنفوذ. حصصاً تحدد مقاديرها هي، تبعاً لميزان القوة ولتأثير كل جماعة على حدة. وفي عمليه (شراء للشرعية)، قوامها رشوة تلك الجماعات لشراء سكوتها. وتلك الجماعات، وبالأحرى، مراكز القوى، تستقبل ما يمنح لها من مزايا وامتيازات، لا كحقوق مواطنة، بل كهبات تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يدها – القبلية – المتحكمة بـ (الأمر) كله. فينشأ بذلك مجتمع (ريعي) بالضرورة، يخضع للحظ والحظوة والصدفة الحسنة، ولا مكان فيه للارتقاء من خلال الجهد الذاتي والعمل الدؤوب بعيد المدى. وبالتالي فإن المناورة من خلال (بيع الولاء) تعد أيسر السبل وأقصرها للإثراء والترقي.

والإدارة بالغرائز، من خلال ( سلطة ) ترشو مواطنيها لشراء سكوتهم لا يمكنها إلا أن تنشئ – في أحسن الأحوال – دولة (ريعية)، يتوارى فيها القانون خجلاً، وتسودها حالة من (انفلات الغرائز)، واقتصاداً هو – بالمعنى المجازي – أقرب إلى (اقتصاد الغاب).

إن النهب المنظم – والفوضوي – للمال العام يرجع – برأينا – إلى (مفعول القبيلة) هذا، لا – كما يعتقد البعض – إلى فتوى فقهية، مذهبية، مؤداها (امتناع إقامة حد السرقة – على ناهبي المال العام لوجود شبهة الملك والاشتراك فيه).

والقبيلة (المتحكمة) بالسلطة، لا يمكن أن تقوم بـ(التغيير) المنشود، إذ هو – بالبداهة – يتم على حسابها. أي تغيير باتجاه مفاهيم (المصلحة العامة.. المواطنة.. النظام والقانون….) تعده سلباً لـ(الغنيمة) منها. ولأن الغنيمة تكتسب، أصلاً، بالحرب، فمن المشكوك فيه القبول بتداولها سلماً. الأمر الذي يثير تساؤلات، جدية، عن جدوى التعددية في ظل سيطرة (القبيلة). فقيمة التعددية لا تكمن في ذاتها بل في ما تبتغيه من أهداف، أهمها على الإطلاق، تداول سلمي، حقيقي، للسلطة بين أحزاب (برامجية) تتنافس على تقديم أفضل ما لديها للناس. وهو ما لا يتأتى إلا من خلال قيام (دولة) أخرى، مؤسسة على أسس مختلفة تماماً، عن تلك التي تكرسها القبيلة والغنيمة. وتلك – بلا شك – (مهمة كبرى) لا نظن أن (أحزاب العجز المكتسب)، بوضعها الحالي، قادرة على الاضطلاع بها أو حتى على الإسهام فيها.

 

(التسلط المتطفل): الشراكة.. وغزو الجوار:

– مثلما أن ما يعرف بـ(المشاركة)، التي يشكون منها التجار والمستثمرون، والتي تفرض – داخلياً – بأساليب شتى، من قبل أفراد، ينتمون في الأصل إلى القبيلة. تمثل تجلياً كاشفاً – إن لم يكن فاضحاً – لـ(عقلية الغنيمة) تلك بوصفها – أي المشاركة – امتداداً لأعمال التقطع والإغارة واعتراض القوافل.

فإن محاولات السلطة (القبلية أصلاً)، المتكررة، بإلحاح، في الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي (المكون من دول، هي الأخرى، ذات اقتصاديات ريعية، وأنظمة حكم متشابهة إلى حد كبير، أنشأته – أي المجلس – فيما بينها للاضطلاع، أساساً، بمهمتين: التنسيق الأمني بين دول المجلس بما يحفظ ويحمي أنظمة الحكم المتشابهة تلك، والتشاور والتنسيق حول أفضل السبل لخدمة "السيد" الغرب أساساً.) ، تعد – كذلك – تجلياً لتلك العقلية ذاتها وامتداداً معاصراً لفكرة (الغزو)!!

ذلك أن المنطق العادي للأمور، يفترض في من يسعى إلى الدخول في أي (شراكة) اقتصادية، الإسهام إما برأس المال أو بتقديم خبرة العمل، أو بالأمرين معاً.

أما فرض (المشاركة) هكذا، دون مساهمة من أي نوع، فأمر لا يعدو كونه ضرباً من (التسلط المتطفل).. ولأن المفترض في السلطة أنها تمثل عموم (الشعب) وليس (القبيلة) فحسب، فإن جانباً كبيراً من هذا (الشعب) يجد في محاولات السلطة – وبصورتها – تلك، جرحاً لكبريائه، وإهانة لانتمائه الوطني.

وبقطع النظر عن حقيقة وضع البلد الاقتصادي، وعما إذا كان يفتقر إلى الموارد من عدمه، فإن ارتفاع معدل النمو الديموغرافي، وتعداد السكان، الذي تنظر إليه السلطة على أنه (عبئاً) على الموارد الشحيحة، أصلاً، بنظرها، هو في الحقيقة، منظوراً إليه بعيون لا تلبس نظارات القبيلة، والغنيمة، مصدر قوة، يعد بحد ذاته ثروة. وبالإمكان أن يكون هو مساهمة البلد في الشراكة – المأمولة – مع دول المجلس. فيما لو أحسنت – السلطة – استغلال هذا المورد كإمكانية، بالتأهيل العلمي الجاد، والتدريب المهني الرصين. وبانتهاج سياسة إقليمية، متوازنة وملائمة.

وهذا أقل ما يمكن لـ(سلطة) أن تقوم به. ناهيكم عن سلطة، تقول – بصرف النظر عن عدم صحة ما تقول – بشحة موارد بلدها، وبفقر شعبها، وتجاهر به، بمناسبة وبغير مناسبة، وكأنه مصدر للفخر والاعتزاز. غير أن (عقلية الغنيمة) هي، في أحسن حالاتها (عقلية ريعية) لا تحيا إلا على كنوز باطن الأرض، أو على القروض (دونما تفكير بالسداد ودون أدنى تبصر لما يجره ذلك من عواقب) أو على المنح والإعانات (أي على ما تستعطيه من "صيد" ودون أدنى نية لتعلم أساليب" الاصطياد".) فإن لم تجد عادت، على نحو نكوصي، إلى أصلها كـ(عقلية غنيمة)، ترى في الغزو وأعمال التقطع والإغارة، حلولاً مثلى لمشكلاتها الاقتصادية.

 

مهملات المتن:

غني عن البيان أن هذه الملاحظات، لا تنطلق من أي موقف تحيزي مسبق تجاه القبيلة، بل تهدف إلى لفت النظر إلى أهمية فهم "الظاهرة" القبلية، كما هي، لا بإطلاق الأحكام القيمية الجاهزة عليها. أننا نعتقد أن الإنسان – بوجه عام – هو ابن بيئته. وكل بنية اجتماعية تنتج عقلية تتصف بذات خصائص، تلك البنية، تعمل على إعادة إنتاجها وتعزيزها وفق دينامية العلاقة الناظمة لكليمها.

-(سبق نشره في صحيفة النداء).

زر الذهاب إلى الأعلى