أدب وفن

أصوات الغضب الجنوبي تدوي في سماء الحرية

المستقلة خاص ليمنات

“برَّع يا استعمار”.. تلك في الخلاصة والنتيجة النهائية التي توصل إليها أبناء الجنوب بعد أكثر من 120 عاماً من الاحتلال البريطاني الجاثم على مدينة عدن والمحافظات الجنوبية والشرقية، حيث مثل الاستعمار بسياسات التمزيق والتفريق وزرع الفتن والصراعات بين أبناء الوطن، خطراً كبيراً على مستقبل البلاد، وعبئاً ثقيلاً في حياة شعب الجنوب الحر.. لذلك، اتخذ الشعب قرار المواجهة مع قوات الاحتلال الغاشم بكل الطرق والوسائل المتاحة، من أجل الاستقلال واستعادة سيادة البلاد ولن يتم ذلك، إلا بطرد قوات المستعمر البغيض، وتحرير الوطن، وكانت أبرز وسيلتين متزامنتين لجأ إليهما الشعب وأبناؤه الأحرار هما “الكفاح المسلح، يرافقه الأدب الثائر (شعراً ولحناً)”.

< كتب/ محمد سلطان


لقد مثل الأدب بصيحاته الغاضبة كابوساً مرعباً أقض مضاجع الغزاة المستعمرين، فأصبحت القصائد الشعرية، والأغاني الوطنية، والأناشيد الحماسية، توازي بقوتها وتأثيرها طلقات الرشاشات وقذائف المدفعية، وترافقها في كل موقع وميدان منذ الشرارة الأولى التي انطلقت من جبال ردفان بل وسبقتها انطلاقاً:

برَّع يا استعمار.. برَّع

من أرض الأحرار.. برع

برع واللي يهوي..

يكويه التيار.. برَّع

تيار الحرية

تيار الثورية

تيار القومية

برَّع يا استعمار

كانت هذه الصيحة وهي تدوي في أثير الجنوب بصوت الفنان الثائر الكبير محمد محسن عطروش، بمثابة طاقة جبارة تملأ صدور المواطنين حماسة، وتزيدهم شغفاً بالحرية والاستقلال، وفي الوقت ذاته، تمثل صرخة مرعبة تتغلغل في نفوس المستعمرين وكأنها الموت الزؤام، إنه صوت الحرية، ذروة أملٍ يملأ الأفق، توقاًٌ إلى صباحٍ جديد تبتسم فيه عدن بعيداً عن عيون الطامعين، ابتسامة خالصة في حضرة الأحرار.. والثوار الأبطال.

ويمتطي الشاعر الكبير “عبدالله هادي سبيت” صهوة إبداعاته الشعرية، التي كانت تمطر المحتل نيراناً لا يستطيع تجنبها، تأكيداً على مدى الترابط بين القلم والرشاش في واحدية الهدف والغاية، فيخاطب الثوار قائلاً:

يا شاكي السلاح

شوف الفجر لاح

مد يدك على المدفع

زمن الذل راح

وبذات اللغة العنفوانية يجلجل صوت عطروش، وهو يدعو أبناء الجنوب لحمل السلاح والانخراط في النضال المقدس حتى تستعيد بلادهم سيادتها مردداً:

شعب الجنوب هيا

ناضل للتحرر

على المدفع الهادر

على الرشاش والخنجر

ناضل للتحرر

وينقل الشاعر عبدالرحيم سلام صورة عن مشهد الكفاح المسلح في بداياته الأولى، ومدى حماسة المناضلين والثوار واستعدادهم للتضحية من أجل استقلال الوطن وحريته وسيادته، فيتغنى بحماسة ثائر:

ردفان قعر جحيم للغزاة

بالثأر تزأر والثوار تستبقُ

تمحو جرائمهم طين تربتها

تعيد للشعب قسراً كل ما سرقوا

كما يفرد بلبل الثورة وكروانها بصوت ينساب في ربوع البلاد، ينفخ فيها روح النضال والمقاومة والكفاح، يقول سبيت:

هنا ردفان من عقلي ولبي

هنا ردفان من روحي وقلبي

 هنا كوخي، هنا أهلي وصحبي

هنا وطني الكبير وكل صحبي

كانت عدن ثغر اليمن الباسم وبوابتها الجنوبية بؤرة ثورية شديدة التأجج، تزفر غضباً وتغلي تمرداً، ويصور الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة هذا المشهد الثوري بكلمات تغمر الثوار حماسة وتملؤهم عنفواناً.. يقول جرادة:

أرى عدناً تغلي من الحقد مرجلاً

يوشك أن يجتاحها أي تيار

أيطمع فيها الانجليز براحة

ونادي ملذاتٍ وحانة خمَّار

فمن مبلغٍ (سكسون) أنهمُ

بنوا أملاً لكن على جرفٍ هار

ونحمل بالأيدي النفوس رخيصة

ونطلي جنود الغزو بالزف والغار

من دخل بالغصب يخرج بالصميل

ركز شعراء ثوار على عدم شرعية وجود المستعمر في أرض الجنوب، فليس هناك أي سبب لهذا الوجود، وهنا يصبح استمرار الاحتلال جريمة بكل المقاييس، لذلك أبدع شعراء شعبيون في تسطير قصائد ساخرة ولاذعة، تدعو المحتل الغاصب إلى المغادرة من حيث جاء يقول الشاعر مسرور مبروك، مخاطباً المستعمر البريطاني:

طال يا راجل سكونك عندنا

قرن والثاني انتصف وانت هنا

أيش ننسب لك.. وأيش تقرب لنا

هل أخونا أنت أو بن عمنا

أنت أصلك يختلف عن أصلنا

ثم لغوك يختلف عن لغونا

بل ودينك يختلف عن ديننا

أيش جابك عندنا كيه قل لنا؟

إنه استخدام بارع للمنطق في نزع الشرعية من هذا المحتل، وهذا ما تميز به مسرور مبروك باعتباره شاعراً ساخراً ذوا موهبة لامعة، وبنفس المنطق المذهل يقول:

من دخل بالغصب يخرج بالصميل

با يغادر أرضنا صاغر ذليل

ولم تقف اللهجة المحلية لبعض الشعراء الشعبيين حائلاً دون اثبات براعتهم في توجيه ضربات مؤلمة لقوات الاحتلال يقول بن لزنم العولقي:

نحن عوالق من علق

واحنا مسامير اللزق

واحنا شرارة من جهنم

من دخل فينا احترق

وبحث الشاعر والثائر الكبير “إدريس حنبلة” على مساندة الثورة والثوار، فيخاطب من لازال خارج مسيرة الكفاح بأسلوب ساخر ونقدٍ لاذع قائلاً:

أيها الناس أفيقوا إنما الدنيا Finish

كيف ترضون بعيش همنا رزاً و Fish

قاتل الله سجونا تجعل اللون Reddish

ويقصد بـ (Finish) أن الدنيا لا تدوم، و(Fish) سمك، و (Reddish) حمراء، والبراعة تكمن في صياغة قافية قصيدة بكلمات لغة أجنبية..

ويستمر الشعراء الشعبيون في استخدام اسلوب التهكم والسخرية من الاستعمار والمشاريع التي يحاولون بها خداع الشعب والتحايل عليه، فحين قررت بريطانيا عمل دستور للجنوب بعد ثورة اكتوبر خاطبها شاعر لحج الكبير “صالح سحلول” بقوله:

من قال لهم إنَّا إلى الدستور في حاجة؟ منوه

يبيِّنوا المرسَل إليهم من طرفنا.. يظهروه

لسنا بحاجة له فما الداعي إلينا ترسلوه!

ينقعونه ويشربوا ميته، أو إلا يحرقوه

الشعب بعد اليوم ما باتستطيعوا تخدعوه

الشعب واعي منتبه ماشي مغفل تحسبوه

الأغنية الثورية.. قذائف ملحنة

كان للأغنية الثورية دور كبير في النضال ضد الاستعمار الانجليزي، وعندما كان فنانو الثورة يصدحون بأصواتهم المجلجلة، كان لهب الحماسة يشتعل تحت ضلوع الثوار والمواطنين بينما تهتز الأرض تحت أقدام المستعمر الاجنبي رعباً وخشية.. وهنا نذكر عدداً من الأغاني التي كان لها بالغ الأثر في ميدان العمل الثوري:

تغنى الفنان الكبير اسكندر ثابت بأغاني ثورية كثيرة منها الأغنية الشهيرة التي كتب كلماتها الشاعر عبدالله هادي سبيت ويقول في مطلعها:

سلام ألفين للدولة وللعسكر

وللشجعان في الوديان والبندر

وما زالت اغنية الفنان الكبير محمد مرشد ناجي “أنا الشعب”، للشاعر عبدالعزيز نصر يتردد صداها حتى اليوم حماساً واندفاعاً:

أنا الشعب زلزلة عاتية

ستخمد نيرانهم قبضتي

وللفنان الكبير أحمد بن أحمد قاسم اغنية ثورية رائعة جاء في مطلعها:

بلادي وإن سال فيك الدمُ

ففي ذلك الشرف الأعظمُ

وكما اسلفنا فقد كان الفنان محمد محسن عطروش بلبلاً للثورة، غنى بحماسة وإصرار، غنى بروح ثورية متوهجة ومن أغانية “يا لحج يا ضالع”، “برع يا استعمار”، “أنا قنبلة”، “أبوس التراب”، “أماه”، “من خان لا كان”، ونقتطف هذا المقطع الذي ورد في مطلع قصيدة “أنا الشعب”:

اتسمع اتسمع

أنا مدافع تهد وتدفع

أنا مدافع تدك وتردع

أنا رشاش رصاصي يلعلع

أنا بازوكا تهوي وتصرع

أتسمع أتسمع!!

الأدب يسجل الحضور الثوري لنساء وأطفال الجنوب

للنساء والأطفال دور كبير في مقاومة الاستعمار الانجليزي لأرض الجنوب، وشهدنا تواجد ثائرات كثيرات شاركن جنباً إلى جنب مع رفاقهن الثوار في الكفاح المسلح، وقد أشار الكثير من الشعراء بهذه المشاركة النسائية، ونشير هنا إلى ما قاله الشاعر الكبير “محمد سعيد جرادة” في إطار إشادته بدور الفتاة الجنوبية النضالي:

فاتنة منعمة، كالزهرة المبتسمة

تقلدت رشاشها والمدية المعلمة

تقدمت موكبا كلبة منتقمة

يا بنت ردفان تحيات القوافي الملهمة

ويصف جرادة لحظة حوار جمعت طفل صغير مع أمه، يسألها خلاله عن الثوار والثورة والكفاح المسلح فيقول:

الطفلُ سأل أمه عن ثائرٍ حمل سلاحاً

كالطيف يسري من شعاع النجم متخذاً جناحا

ويهب كالإعصار حينا يسبق القدر المتاحا

أمست يداه تداعب الرشاش تسأله النجاحا

ويتغنى عطروش بمشاركة الأطفال في حمل السلاح والانخراط في النضال ضد الاحتلال البريطاني الذي يتهاوى بفعل الضربات الموجعة:

أنا قنبلة..

رماها فتاى يريد الحياة

رماها وصلى

أنا مدفع..

تهاوى بيد الطغاة

بحي المعلا

للجنوب.. بوابتان عنوانهما الحرية

ما بين 14 أكتوبر 1962م، الانطلاقة الثورية، والشرارة الأولى للكفاح المسلح و 30 نوفمبر 1967م، موعد رحيل آخر جندي بريطاني من عدن، مساحة واسعة، مثل النضال الثوري عنواناً لها، والحرية والاستقلال غايتها، وكان الأدب شريكاً أساسياً في درب النضال وصناعة الغاية..

وقد سجل الشاعر عبده عثمان لحظة الانطلاقة بقصيدة رائعة وجميلة جاء فيها:

كانت الساعة لا أدري

ولكن:

من بعيد شدني صوت المآذن

ذهل الصمت تداعت في جدار الليل ظلمة

أما الشاعر الكبير لطفي جعفر آمان فإنه رصد لحظة الانتصار الأخير حين أشرقت على أرض الجنوب شمس الحرية والاستقلال فسجل مشاعره حينها بقوله:

على أرضنا بعد طول الكفاح

تجلى الصباح لأول مرة

وقبلت الشمس سمر الجباه

وقد عقدوا النصر من بعد ثورة

واقبل يزهو ربيع الخلود

وموكب ثورتنا الضخم اثره

فيرسم فوق اللواء الحقوق

حروفاً تضيء لأول مرة

بلادي حرة

إنه الأدب شريك النظام وعاشق الحرية، من خلال شعراء ملهمين رضعوا حليب الثورة فابدعوه قصائد ثورية لا تصد ولا ترد، حفروا أسماءهم في جبين المجد حروفاً.. تضيء لأول مرة.. ثم تشدو مع لطفي أمان وملايين وآلاف الأحرار من أبناء الجنوب: “بلادي حرة”..

زر الذهاب إلى الأعلى