حقوق وحريات ومجتمع مدني

ضحايا طائرة (سوخواي) يفترشون الحصى ويلتحفون السماء

المستقلة خاص ليمنات

لليمنيين مع المآسي علاقة مستديمة، تجمعهم في دروب الأحزان، ثم ترمي بهم في مهب الكوارث.. كوارث ونكبات ظلت زمناً طويلاً وما زالت تلاحقهم وتحاصرهم على الأرض من كل اتجاه، ولم تكتفِ بذلك فحسب، فاستحدثت روافد جديدة تأتي من السماء.. تباغتهم على حين غفلة، تسقط عليهم ناراً وحديداً وموتاً، وتُصيِّر حياة من نجا منهم إلى ما يشبه الجحيم عذاباً وآلاما..

محمد سلطان

أليس للمواطن اليمني- وهو في منزله ومأواه- أن يعيش آمناً، ويتمتع بحق الكرامة الإنسانية؟!

إلى متى سيظل هذا المخلوق البائس المغلوب على أمره يحلم بالسلامة والأمان دون جدوى؟!

إن الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، تحمل غموضاً يوازي غموض كل ما يحدث في هذه البلاد، بعد أن أصبح ما فيها مشفراً عصياً على التفسير..

في حي الزراعة بأمانة العاصمة حلت كارثة مروعة، نزلت من الأعالي على متن طائرةٍ عسكرية ملتهبة على متنها الموت والدمار، وتزامناً مع الكارثة سيطر العجز وقلة الحيلة على أهالي الضحايا والأسر المتضررة، بعد أن طل عليهم الموت مرتدياً بدلته الحديدية الرسمية، هبط عليهم وهو ينفث الأحزان سياسات حكومية لا مسؤولة وقاتلة، وتدابير رسمية تشبه الأوبئة التي لا علاج لها ولا لقاح يحصن الناس من آثارها ومخاطرها.. لنكتشف أن الموت والحكومة يلتقيان معاً في عادةٍ سيئة عبر المهرجانات والمآسي الجماعية..

الشميري: إهمال رسمي يعمق المأساة

من أين تبتدئ المآسي وإلى أي حدٍ تصل.. تلك قصة للمعاناة طويلة، مشهد يزرع الخوف في النفوس، ويفتح للحزن شهية لا تقاوم.. غير أن مصطفى الشميري بإرادته الصلبة يقاوم، يعلم أن عليه أن يبدو قوياً أمام من تبقى من أولاده المفجوعين بعد أن صدمتهم الكارثة، حيث عاد الأولاد الأربعة (أنس وإيناس وأصالة وأحمد) من مدرستهم ليجدوا والدتهم التي طالما أغدقت عليهم الحنان والعطف، وإلى جانبها طفلتاها الصغيرتان لمى وشيماء “3-4” سنوات، وقد صارت جثثهن متفحمة بعد أن شوت نيران الطائرة المحترقة أجسادهن بلا رحمة.. آهٍ، وهل يسرق الموت غير الأحبة، من سكنوا القلب نبضاً، وكانوا رياحين الحياة وعطرها..

مصطفى في عمله عندما سمع بسقوط الطائرة بجوار منزله، خاف على أولاده، وانتابه شعور بالفزع والقلق، يقول “توقعت أن يكون الحادث قد أصاب أسرتي، وعندما وصلت كان كل شيء قد انتهى”..

كل شيء قد انتهى إلا الحزن فإنه في تلك اللحظة قد ابتدأ.. لكن لا مفر من التسليم بقضاء الله، ولا يعني ذلك التساهل في حق أسرته بالحياة التي سلبها الموت الرسمي بلا رحمة، يؤكد الشميري أن تعامل الجهات الرسمية كان لا بأس به في البداية، حيث تم التوجيه بنقل جثث زوجته رحمها الله وطفلتيه بالطائرة إلى تعز، وصرف له مبلغ مليون ونصف تكاليف دفن وعزاء، لكنه بعد أن عاد من تعز وجد اختلافاً في طريقة التعامل الرسمية، ولاحظ وجود اهمال وعدم اهتمام، عاد ليعيش واقعاً مختلفاً فالمنزل محترق، وأطفاله مشردون حيث توزعوا على منازل أقاربه ومعارفه..

يشعر مصطفى بخيبة أمل من طريقة تعامل المسئولين بعد رجوعه من تعز، خصوصاً وأن نكبته وخسارته هما الأكبر بين جميع من تضرروا من الكارثة.. ما يزال ينتظر اهتماماً رسمياً بحجم الألم الذي أصابه، فخسارته لم تكن هينة ومصابه كان جللاً.. وها هو يعيش مشرداً مع أطفاله، الذين لا يعرفون كيف سيتسنى لهم مواصلة الدراسة وهم رهن الشتات حيث لا أم ولا مأوى.. وهم يتساءلون أمام حكومتهم “ألا يكفينا وجع الصدمة” التي تعرضوا لها وهم ينظرون إلى والدتهم وشقيقتيهم وقد احترقتا حد التفحم.. نعم.. ألا يكفيهم فقدانهم لحنان الأم، وتجرعهم لقسوة الحياة ومرارة اليتم والحرمان.. أليس عيباً أن تتنصل الجهات الرسمية عن واجباتها ومسؤولياتها، وتحاول أن تتناسى الموقف وتتردد عن الوقوف إلى جانب بقية هذه الأسرة المنكوبة؟!

تكشف فاجعة مصطفى وأطفاله أن هناك مشاركة فعلية للحكومة في حدوث هذه الكارثة، ليس من خلال سقوط الطائرة، بل بسبب تأخر عملية الانقاذ.. لأن النار ظلت تلتهم أجساد الضحايا الثلاثة وهن يصرخن طلباً للنجدة وقتاً ليس بالقليل، قبل أن يفارقن الحياة، ولم يتم إطفاء الحريق مباشرة ولو كانوا قاموا بذلك لربما تم إنقاذ الضحايا، أو إحداهن على أقل تقدير..

العميد القمرى: أنا بدون ملابس ولا أثاث ومنزلي مدمر

على قارعة طريق المواطنة المفقودة، يتوسد المتضررون وأهالي الضحايا جراحهم ألماً وتشرداً، تعبت خطاهم بعد طول السفر في طريق المعاناة، والرحلة لم تنته بعد..

كان العميد عبدالخالق محمد القمرى (صاحب المنزل الذي استقرت فيه الطائرة) متوجهاً إلى الجامع لأداء صلاة الظهر في لحظات ما قبل الكارثة.. لا يعلم ما الذي حدث له فقرر العودة، وعندما وصل إلى جانب المنزل من الناحية الغربية، سقطت الطائرة وحدث الانفجار متزامناً مع اندلاع نيران كثيفة أحرقت المنزل.. يحدثنا عن تلك اللحظة بقوله: “بالكاد استطعت انقاذ زوجتي من النيران، كانت في الطابق الثالث فتحت الطاقة وخرجت إلى (البلكونة) حيث كانت النيران والدخان الخانق تملأ المنزل، فأخذت السُلَّم الذي احضره الجيران ووضعته على الجدار فنزلت هي عليه، وذلك قبل أن يصل الدفاع المدني وسيارات الإطفاء إلى المكان..”..

وبحرقة ونبرة حزينة يضيف: “لا أدري ماذا أصاب بني قومي اليوم، لا شهامة، ولا مروءة، تصور لم أقابل أمين العاصمة، ولا أمين جمعان، رغم حضورهم أول يوم، لكنهم لم يسألوا عني أنا صاحب البيت، لم يقولوا راح فين مع أولاده، لم يوفروا لنا أثاث بعدما احترق كل ما معنا،  أكثر من أسبوع ولا أحد منهم عارف أيننا بالذات.. أنا أريد سكن، فين أعيش أنا مشرد، يجيء المسؤولون إلى الشارع يتصوروا ويصرفوا كلام ويمشوا..”..

يستغرب كيف أحال أمين العاصمة مثل هذه الكارثة على مدير مديرية معين، ولماذا لم يسأل عن أحواله كيف يعيش “لا عندي ملابس، ولا أثاث، بيتي تدمر، والذي لم يتدمر احترق، وأنا خدمت في الدولة خمسين سنة، أقل شيء يسعفوني ويقدموا لي مأوى”.. ويستغرب العميد عبدالخالق من التعويضات وطريقة التوجيه بها لأصحاب المنازل، وحمل نص التوجيه: “الأخ مدير المديرية اصرفوا له إيجار شهران”، ساخراً من المستوى اللغوي لمسؤولين كبار..

ويوضح القمرى أن أسرته مشردة حيث لديه أبن وبنت في نقم، وزوجته عند الجيران، وهو في منزل أخيه، وابنته الثانية في الحصبة مع زوجها، حيث أنتهت ثلاث أسر تسكن معاً في المنزل، والآن مشردين أبوهم يجيبوا مدير المديرية يصرف مائتين ألف، بالله عليك أيش نسوي بالمئتين، وأنا منزلي ثلاث أدوار مدمر.. وأعرب عن أمله أن تلتفت وسائل الإعلام لمأساة المتضررين وأسر الضحايا المنكوبة.

< إشارات <

كيف يمكن أن نفهم إقامة تدريبات طيران ونحن نعلم أن الفنيين المختصين بفحص وصيانة الطائرات يعتصمون أمام مبنى الحكومة للمطالبة بحقوقهم؟!

لم يستلم جميع أهالي الضحايا والمتضررين المعونات الأولية ورغم تفاهتها، ولم يجدوا الاهتمام الذي يعكس حجم الفاجعة التي سكنتهم والمصيبة التي حلت بهم..

هل يعقل أن تتم إحالة مسئولية معالجة كارثة بهذا الحجم إلى مدير مديرية أو عضو مجلس محلي ليس بيده قرار التعويض؟! أليس من المفترض أن يتداعى كبار مسئولي الدولة للقيام بمسؤوليتهم تجاه الكارثة.

سيلان: لملمت  قطع الطيار المتناثرة  بستارة المرة

“هنا وجدوا الصندوق” يشير عبده أمين سيلان- أحد المستأجرين المتضررين إلى زاوية ممر ضيق يفصل بين الشقة التي يسكنها هو والشقة التي يسكنها الشميري من جهة وبين منزل القمرى التي استقرت فيه الطائرة.. لكن متى كان للصندوق في حياة اليمنيين مصداقية وكلمة حق بدءاً بصناديق الانتخابات الجاهزة، وانتهاء بصندوق برنامج المضمار الذي يجعل المتسابق يتخلى عن عشرات الآلاف من أجل صندوق بداخله قطعة شيكولاتة.. في اليمن الصناديق لا تقول الحقيقة.. إما أن تصمت إلى الأبد، أو تختزل مجازفة خادعة تحول الأرباح إلى خسائر..

يقول سيلان الذي تناثرت جثة الطيار إلى داخل منزله “لفلفت أجزاء الطيار المتناثرة بالستارة حق المرأة، وقد عانينا وضعاً نفسياً صعباً في ظل اشتعال النيران والدخان، أما التعويضات فالمسئولون أعطوها لمن يريدون.. أما نحن فمستأجرون، أنا قالوا لي متعورش الفراش حقك.. كل شيء يتم بمزاجية وشللية..”.

الهمداني: ما رجعوش حتى خط الكهرباء

منكوب آخر هو المواطن عبدالقادر محمد صالح الهمداني الذي دخلت الطائرة إلى شقته وأحرقت كل ما فيها- لكن لحسن الحظ لم يكن فيها أحد خلال الحادثة: “يا أخي ما أعادوا حتى خط الكهرباء.. ولم يصلحوا أي شيء.. يأتون ويذهبون ولاندري والله ماذا يفعلون.. نزلت لجان قالوا أنها لتقييم الأضرار، ونحن سننتظر ما سيفعلونه، وإلا نرجع نخرج نطالب بحقنا”..

أسرة في غرفة

تدمر منزل “المداح”.. حيث سقطت الطائرة عليه ويقع خلف عمارة البعداني التي اخترقتها الطائرة متجهة إلى الجانب الآخر في المنزل ربما بقيت غرفة وممر صغيران تقيم فيها أسرة كاملة، ولحسن الحظ لم يكونوا متواجدين أثناء سقوط الطائرة في الغرف المدمرة، لكن المداح بحاجة ماسة إلى مأوى يقيه وأسرته معاناة البقاء تحت زاوية معرضة للسقوط في أي وقت.. فكل ليلة يبيتون  بجانب ركام منزلهم ويتعرضون لمتاعب ومعانات لا تحتمل..

 الأديمي: اللجان كثرت وبيوتنا بلا جدران ولا أبواب وننام في البرد والخوف والانقاض

“أحمد علوان الأديمي” أحد أصحاب المنازل المتضررة حيث تساقط عدد من جدرانها في الدورين الأول والثاني، وقد عبر عن أسفه الشديد من طريقة تعامل الجهات الرسمية مع القضية، حيث كثرت اللجان وغاب الحل يقول لـ “المستقلة”:

“جاءت عدة لجان للتقييم ومشاهدة الأضرار.. لكن للأسف الشديد لا توجد أي نتيجة ملموسة، ونحن ننتظر ولا ندري إلى متى سيطول انتظارنا.. لم يتم تحديد فترة زمنية لتنفيذ وعودهم بإصلاح الأضرار، ورغم مرور أكثر من أسبوع لكن لا يوجد أي جديد قالوا سيعرضوا الموضوع على أمانة العاصمة، لكننا لا نعلم كم عدد اللجان المفوض نزولها حتى يتم التنفيذ.. ومثل ما تشوف البيت بلا جدران، بلا أبواب، بلا أعمدة، لا يوجد ما نحمي به بيوتنا، ممكن أي واحد يجي يدخل ويأخذ اللي يشتي- للأسف الشديد.. لم يعد الأديمي يثق بالوعود الرسمية بعدما عرف طريقة تعاملها فأصابه اليأس والاحباط يضيف: “نحن نعيش في حالة احباط، حالة يأس، حالة قهر.. يا رجَّال البيت مكشوف, والبرد يدخل لنا إلى داخل.. لم نقل لهم يبنوا لنا بيوت.. نريدهم يصلحوا الاضرار ما فائدة اللجان إذا لم تحقق شيء.. نحن بحالةٍ نفسية سيئة، البيت آيل للسقوط ولا يوجد من يهتم بنا”.

اسكندر: الأوادم حارقين بالشارع والرئيس سار الجوية يبصر الطيارات والطيارين

يسرد الشاب اسكندر أحمد المطري- صاحب محل احترق بالكامل انطباعات اللحظات المؤلمة خلال الحادث بعد أن نجا منه بتوفيق الله هيأ له الخروج إلى الجولة وعاد ليشاهد ما لم يكن يتوقع: “تعرضنا أول شيء لفاجعة نفسية.. نكبة ومصيبة، عندما تسقط طيارة فوقك وفوق الأوادم- بغض النظر عن المحل- وترى أهل حارتك منتهيين منهم من هو حارق ومنهم من هو أشلاء بالله عليك هل هذه دولة.. إذا لم تؤمن وسط بيتك اين ستجد الأمان.. أية حكومة هذه؟؟

ويضيف المطري مستغرباً: “الرئيس ينزل يكرم الجوية ويشيد بهم وأنهم كفاءات، ويقول لابد من ايجاد مستشفى خاص لهم  كي يتعالجوا ويعتنى بهم، فمن يعتني بالمواطنين، لماذا لم ما ينزل يشوف الأوادم الذين ماتوا، يعني الطيار قد نكبوه وقلت، كان المفروض على الرئيس أن ينزل لتفقد ضحايا الكارثة .. وبعدين أرسلوا لنا مجاهد الخالدي جاء ومعه عشرين عسكري من قرب نحوه مسكوه”..

 ويقول: “إذا غريمك دولتك فمن تشارع.. أنا متضرر حيث كان معي محل خاص اتكفل بالحفلات والأعراس، وأجهزتي داخل (الأورج، والابتوب والأجهزة الصوتية ومعدات أخرى.. والمحل انتهى تماماً..”

هيثم: دخولي البقالة أنقذني

من حسن حظ الشاب هيثم مسعود أنه ترجل عن دراجته النارية (الموتور)، ودخل إلى إحدى البقالات في منطقة الحادث، وبينما كان يتأهل للخروج، حتى شاهد الكارثة أمام عينيه حيث كانت الطائرة والمنازل المجاورة ومعها درجاته النارية وسيارات أخرى ونساء ورجال جميعهم يحترقون.. ويرى هيثم أن اهتمام اللجان الرسمية ما يزال منصباً حول الضحايا وأصحاب المنازل أما السيارات والموتورات، فاخبروهم أن الوقت ما زال مبكراً أمامهم، رغم أن الموتور كان لهيثم مصدر للعيش.

زر الذهاب إلى الأعلى