أدب وفن

طرد اليمنيين من السعودية يعيد الاعتبار لنداء أيوب (وامفارق بلاد النور وعد اللقا حان)..

المستقلة خاص ليمنات

 (وا مفارق بلاد النور وعد اللقاء حان).. هكذا خطت أنامل الشاعر الراحل أحمد علي مانع الجنيد بدموع الشوق نداء العودة على أوجان الزهور لتصدح حنجرة العملاق أيوب طارش العبسي بمكنون تناهيد اللوعة وشجى مواويل الحنين الذي ظل يتردد  صداه المسافر رناناً ليتخطى حدود كل المهاجر التي وطأتها أقدام اليمنيين في أقاصي الشرق والغرب، وعلى وقع تقاسيم ألحان أيوب تراقصت دموع المفارقين نشوانة في مجرى سواقي الخدود وتدفقت شلالات الشجن الجارف على صدور الحزانى لتروي بفيض حنانها جفاف المشاعر الذابلة في جدب سنوات الغياب الطويل..

 صفوان القباطي – [email protected]

طرد اليمنيين من السعودية يعيد الاعتبار لنداء أيوب (وامفارق بلاد النور وعد اللقا حان)..

وعلى حالها مرت الأيام متعبة ودارت دورة السنين وبقي نداء أيوب الخالد يجدد للحب عمر أحلامه وللعواطف فرحة صباها الجميل.. ووحدها الدموع من عيون ملايين المهاجرين المكتوين بنيران الفرقة والبعاد الشاق من غسلت غبار النسيان عن وجه عبارات هذا النداء الحزين الذي رغم إثباته الجدارة مؤخراً لم يسلم طيلة مشواره العاطر من انتقاد وتهكم بعض المغتربين في السعودية والذي وصل في بعض الأحيان حد إلقاء اللوم على أيوب وتحميله مسئولية خروجهم النهائي إلى اليمن بتلك الأغاني التي تدعو في مجملها إلى ترك الغربة والرجوع إلى أحضان الأهل والوطن….

وبعد عقود مريرة من الذل والمهانة والاستعباد مقابل الحصول على بعض الفتات الذي لا يساوي ثمن سماع شتيمة واحدة من أفواه السعوديين (يماني خسيِّس) ها هي الأيام تثبت صدق توقعات الجنيد وأحقية النداء الذي وجهه أيوب قبل عشرات السنوات وكما لو أنهما كانا يريا حقيقة الوضع الذي آل إليه اليوم مصير المغتربين اليمنيين في السعودية مع فارق أن العودة الآن صارت إجبارية وعلى طريقة الطرد بينما كان في الإمكان أن تتم باختيار النازحين الطامعين بفلوس الغربة المهينة لو أنهم استجابوا لنداء أيوب المتكرر باستمرار (اليمن تنتظركم يا حبايب بالاحضان)..

وا مفارق بلاد النور

< كلمات الشاعر الراحل: أحمد علي مانع الجنيد

< ألحان وغناء فنان اليمن الكبير: أيوب طارش عبسي

وا مفارق بلاد النور وعد اللقا حان

الوفاء للوطن يدعوك لبِّي الندا الآن

لا تغيبوا كفى غربة ولوعة وأحزان

اليمن تنتظركم يا حبايب بالاحضان

يا أحبَّة رياض الأنس صحراء وقفرة

الحَزَن بعدكم أطفى شموع المسَّرة

والندى في الحقول يبكي على كل زهرة

والأماني تناديكم بأعشاش الاشجان

يا غريب الوطن يكفيك غربة وأسفار

الوفا دَيْن يالله شرِّفوا الأهل والدار

لا تردُّوا الرسائل ما تطفِّي الورق نار

والنقود ما تسلِّي من معه في الهوى شان

لو تسلَّى بوعد الصبر ناي الجوانح

وابتسم من بكى يخفي لهيب الجوارح

أيقظ الوجد رعد الآه حَنَّان جارح

وامطر الدمع يتوسَّل ويشكي الذي كان

لُمْ أحبابنا يا شوق من كل مَهْجَر

دُقْ ناقوس جمع الشمل في كل محضر

لاجل حُزن الشجي المهجور يسلى ويستر

والأماني بأوتار القلوب تعزف الدان

لاح فجر الهنا بالنور يكتب رسائل

فوق برج اليمن يا كل باني وعامل

وابتسم للمطر والسيل حُزن الخمائل

والمولَّع مكانه ماسك الكاس عطشان

أحـــزان المغتربيـــــن بين أنامل الشعراء وحناجر المطربين

يا منتمي للأرض هذي الأرض ما..

تبخل على من حب وإليها أنتمى

وتبادله دايم بديل الجود جود

مهما يطير الطير في جو السما..

لازم إلى عشه يعود

بهذه المفردات الصادقة يختصر الشاعر الكبير حسين أبو بكر المحضار مضمون القصة والخطاب ويهمس مؤكداً في أذن من أنسته بهارج الغربة حنين الماضي وذكريات الوطن ويستند في تأكيده المبرهن إلى حقيقة أن الطائر مهما فرد جناحيه وارتفع في أفق السماء لابد له في نهاية المطاف من عكس مسار الرحلة والعودة إلى وكره..

وعلى هذا النحو من التأسي جدير بنا أن يشدنا الحنين ونحن نستمع لنغمات أيوب تداعب أوتار أحاسيسنا ونحن في متاهات الغربة نتذكر قرانا الريفية وذكريات المراعي والوديان.. نسرح بخيالنا بعيداً في أفق الماضي الجميل فنشتم من رائحة الذكرى عبير المشاقر ورائحة التراب بعد المطر.. تشجينا ترجيعات الهمس وأيوب يعطر آحاتنا بشذى كلمات الأستاذ عبدالكريم مريد الذي أتقن تجسيد الدور وهو يخاطب المغترب بلسان زوجته الهائمة:

إرجع لحولك كم دعاك تسقيه..

ورد الربيع من له سواك يجنيه

والزرع أخضر والجهيش بالاحجان

في غيبتك ذيب الفلاة حايم..

على المواشي والبتول نايم

وانت على الغربة تعيش هايم..

سعيد وغيرك مبتلي بالاحزان

وكما سبق في خطاب الشاعر أحمد الجنيدلنوارس الغربة (لا تردوا الرسائل ما تطفي الورق نار.. والنقود ما تسلي من معه في الهوى شان) بنفس الأسلوب يعيد مريد تكرار ذات الخطاب على لسان الهائمة صاحبة الشأن والرافضة كل الحلول والإغراءات المؤقتة  والمطالبة بالوصال العاجل والأكيد (حتى ولو زيارة)..

ما أشاش مكتوبك ولا الصدارة..

أشتيك تعود حتى لو زيارة

قا دمعي ترَّك في الخدود أمارة..

والوحدة زادت في القليب أشجان

وكما نعرف في الواقع هناك آلاف من العرسان الجدد لم تكد تمضي فترة الشهر أو الشهرين على حفلات زفافهم حتى غادروا أعشاش الأنس مخلفين ورائهم تنهدات عرائسهم ودموع حسرتهن لتحرق زهور شبابهن الذابلة على جمر الانتظار الصعيب.. وفي هذا الخصوص لا نملك إلا أن نقول كان الله في عون من فارقت حبيبها وصارت تندب حظها العاثر بلهجة هذه المرأة التي توفق في نقل معاناتها الشاعر عبد الكريم مريد وكانت غاية مناها (ليتك تعود)..

غبني على عمري جرت سنينه..

أما الفؤاد قد زاد به حنينه

ليتك تعود تشفيه من أنينه..

وينجلي همِّي ونصلح الشان

وبصبابة أيوب سبق وأن أطلق الفضول (جنَّحت واجناحي حديد لا ريش) فجنَّحت وسافرت ملايين الأميال إلى كل أصقاع الدنيا.. رافقت الأشواق وكتبت بدموع الوجد سطور الأسى الدامي على صفحات الخدود.. ألهبت الأشجان ونقشت بالآهات والتناهيد مواجيد الفرقة على حنايا المهج.. يوم أن صدح ايوب من قلب بلغاريا مترنماً ليبكي كل يمني غريب..

جنَّحت واجناحي حديد لا ريش..

فارقت أرضي حيث احب واعيش

لا أين الى أي البلاد.. ما ادريش..

كوخي حديد غنَّيت ما سمعنيش

حديد من أين للحديد يطرب..

حديد لا ذاق الهوى ولا حَبْ

شبابة الراعي افصحي وهاتي..

وردِّدي لحني وأغنياتي

لفجر عمري.. لصبا حياتي..

لقريتي لجدولي لشاتي

ومن ذا الذي يمتلك من عزة النفس مقدار ما يمتلكه اليمني الذي حكمت عليه الظروف أن يترك أرضه ويتشرد بعد الأمان وينذل عقب العز وفي هكذا مقام جدير أن أعتذر لقول الفضول:

إن اليمانين من عز النفوس بهم..

قد أدمن العز فيهم نكهة الشمم

إنما ندعو متضرعين  لا سامح من كان السبب في تبديد مقدرات شعب ووأد آمال أمة.. لا سامحه ولا غفر له طول ما تردد صدى صوت أيوب المنطلق من فوق أنكاب الجبال:

ألا معين.. ما احلى الزراعة واغايب..

ألا معين.. والماء بكل المدارب

إرجع لعذر الشواجب.. شم الذرة في لوا إب

وخطابنا لا نوجهه هنا لمن تم طردهم مؤخراً من داخل الأراضي السعودية بحد النعال وخرجوا (مكاسير ناموس) يجرون أذيال الخيبة ويعضون أنامل الندم لأن هؤلاء بالذات جدير بهم تقديم الاعتذار وقراءة الفاتحة على قبر الشاعر محمد عبدالباري الفتيح الذي  عاش رافعاً شعار:

الليل يا بلبل دنا.. غلِّس واسمر عندنا

غنِّي غرِّد بيننا.. قبل ما تنوي الرحيل

أنت في أرضك كريم.. في الشقا أو في النعيم

والمهاجر كاليتيم.. مهجله لا الليل دنا

آه ما أمر الرحيل

أما الذي لم يكفيه الدرس ولم يعتبر من تجارب من سبقوه وما زال يفكر بالغربة ويبحث عن فرصة لدفن كرامته مقابل ألف وخمسمائة ريال سعودي على أبواب عجول النفط المدللة فما زال في فسحة من أمره وبإمكانه أن يقف مع الفتيح وقفة تأمل ويعيد حساباته على ضوء هذا الخطاب الأصيل والمندى بعذوبة أداء المبدع الرائع عبدالباسط عبسي:

لا اينه اشتسافر وا عندليب.. تذر شبابك ورونقه

تحيي به كم من فلا جديب..ووكرك الوحشة تسحقه

يستحلفك غصنك الرطيب.. أمانتك لا تفارقه

لا تغترب دمعي السكيب.. شلعب بخدي وشحرقه

وبلسان المجرب الذي ذاق مرارة الغربة وعرف ما معنى الاغتراب وكيف تكون الخطى تائهة على غير تراب الوطن يطلق الشاعر المغترب أحمد سالم البيض لعواطفه وأشواقه العنان لتخاطب كل مسافر حزم حقائب العودة إلى أرض اليمن:

شلِّني يا المسافر ديرة اهلي وناسي..

ودِّني بلادي مهد الحب وكنان راسي

طال بعدي وزادت غربتي سنين وسنين..

لا متى لا متى با يجتمع شملنا با نلتقي بالمحبين

في حياض الوطن بين الجبال الرواسي..

في ربا عزهم يا ما تهنِّيت كأسي

كم تراب الوطن غالي على النفس وثمين..

لا متى لا متى با يجتمع شملنا بانلتقي بالمحبين

وفي قصيدة أخرى ينادي البيض (رايحين الوطن) بأشواقه ويمطرنا بأشجان صوت الحداد:

يا رايحين الوطن..

 زدتم بقلبي لهيب الشوق لي في وطاني..

حبي لأرض اليمن..

باقي ولن ينتسي ما دمت عربي يماني

يا مسقط الراس فيك الحب والعز دام..

رِدُّوا على من سأل.. بعد التحية سلام

ختاماً وبيت القصيد نقول لا شيء أثمن ولا أغلى من حرية الإنسان وكرامته  وكنوز الدنيا بحالها لا تعدل استنشاق نسمة من هواء مسقط الرأس.. صحيح أن الموت جوعاً قد يجبر المرء على القبول بالذل والرضا بالعبودية  ولكن بالتأكيد مهما وجدت المبررات  تبقى الحرية والكرامة قيمة القاصد ومبتغاه الأول والأخير ولو شرب اتقاء استباحتها الحنظل وأكل التراب.

زر الذهاب إلى الأعلى