أخبار وتقارير

ترتيب لوضع الدولة أم ترتيب لأوضاع أطراف التوافق السياسية؟.. د. عبد الكريم سلام

يمنات
بداية لابد أن نشير إلى أن الرؤية التي طرحها الحزب الاشتراكي اليمني هي رؤية احزاب اللقاء المشترك لأنه تشدد في كل ثناياها على أن توكل كل الإجراءات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية الثانية إلى المكونات الممثلة في المؤتمر باعتبارها الجديرة بتأمين استكمال نقل السلطة وإعادة بناء الدولة ولذلك سنطلق عليها رؤية الحزب الاشتراكي تجاوزاً كونها طرحت من قبله .
من الواضح أن الرؤية ركزت على قضية جوهرية شغلت وتشغل بال عموم اليمنيين ، ربما أكثر من انشغال النخب بها وهي إعادة تأسيس الدولة المنهارة من بوابة ما تعتبره الرؤية توفير ضمانات انتقالية من حالة الدولة إلى الدولة يمتد تنفيذها لفترة زمنية مابين أربع إلى خمس سنوات حسب ما تقترحه الرؤية الاشتراكية .
و يمكن أن يتحقق ذلك عبر خطوات متدرجة تتطلب اتخاذ جملة من التدابير والإجراءات الدستورية والتشريعية والإدارية والمؤسسية ..إلخ بغية استكمال ما تقول أنه .. ” تأسيس وبناء دولة قادرة على الاستمرار والبقاء وحماية نفسها في مواجهة طغيان السلطة ، ومبررها في ذلك أن الربيع العربي قد كشف أن الدول العربية تعاني من انهيارات متكررة لأنها حسب ما تورده الرؤية ” لم تؤسس على قاعدة توافق عقد اجتماعي …لأنها دولة الغلبة التي تتداخل مع السلطة الحاكمة بدرجة لا تستطيع فيها أن ترى الدولة إلا بأنها ” السلطة ” التي تعبث بالدولة وتحل محلها كما حدث هنا في اليمن “.
و مضت الرؤية إلى تأكيد أن هذا الوضع ما زال مدعاة لعدم الاستقرار والاضطرابات . الحقيقة أننا نجد أنفسنا أمام تصور لإعادة بناء الدولة يناقض نفسه بنفسه ، فالبادي أنه بعد أن شرح أن الاشكالية المركزية تكمن في تحول السلطة لأن تصبح دوماً هي الدولة اسند للسلطة نفسها مهمة إعادة بناء الدولة مع فارق في الحالة اليمنية الراهنة أنها ليست سلطة حزب ولا سلطة فرد بل سلطة توافقية تتكون من خليط لأطراف سياسية متباينة ايدلوجياً وسياسياً وهي الأطراف التي حددتها الرؤية ذاتها في المكونات الممثلة في مؤتمر الحوار الوطني الذي ستسند له مهمة تشكيل الحكومة من داخله كي يضطلع هو والحكومة المنبثقة عنه إلى جانب مهمته كجمعية تأسيسية والرئيس الممد له بإعادة تأسي بناء الدولة.
و هنا سنكون إزاء خليط توافقي يريد أن يؤسس ويهندس الدولة اليمنية ويعيد بنائها وصياغتها على النحو المأمول الذي يريده كل طرف من الأطراف المنضوية في إطار الائتلاف التوافقي ، والذي من أهم نوازعه أن يرضي ويشبع تعطشه لغنيمة السلطة كعائدات مادية ورمزية ومظاهر نفوذ وإمكانات قوة لتسويق ايدلوجي وعقائدي من خلال التمديد لمرحلة انتقالية جديدة للمكون التوافقي الحالي الهش . فمن الواضح أن الدافع الحقيقي للتمديد الذي تقترحه الرؤية هو إعادة تموضع الاطراف التوافقية في مواقع تعتقد خطأ أنها الضمانة الأساسية لبناء الدولة .
و هذه المقاربة تعيد طرح الإشكالية نفسها التي تنتقدها الرؤية وتبني عليها مبررات التمديد والتي قالت أنها افضت دائماً إلى تحول السلطة إلى دولة ، مع أنها تريد ترتيب أوضاعها داخل السلطة اعتقاداً منها أنها ترتيبات لازمة لإعادة تأسيس وبناء الدولة وهذا الترتيب لا يقدم ضمانات موثوقة لبناء الدولة ، لأنها تشدد على الصيغة التوافقية بماهي التراضي على تقاسم النفوذ بين الأطراف والذي يبقى في الأول والأخر مجرد تقاسم للسلطة والوظيفة وتوزيعا لعوامل القوة للدولة وتشتيتها بين القوى السياسية المتنافسة داخل الدولة .
الحقيقة أن التمديد بهذا المنظور وبالاطراف نفسها التي أفشلت نقل السلطة وعرقلة مهام الفترة الانتقالية لا يمكن أن ينتج سوى إعادة توطين المشكلة نفسها وهي نقل الصراع السياسي من حقوله الطبيعية بين السلطة ومعارضة تراقبها وتقيم أدائها وتكشف انحرافاتها عن العقد الاجتماعي.. إلى صراع إلى داخل السلطة نفسها الأمر الذي لا يمكن أن يفضي إلا إلى المزيد من اضعاف الدولة خاصة بنقل صراعات اطراف العمل السياسي إلى داخل المؤسسات والإدارات والمرافق العامة تارة ،والمحافظة على توافقاتها داخل مؤسسات ومفاصل السلطة عبر توزيع غنيمة الدولة وتقاسمها تارة أخرى ، وفي كلتا الحالتين سيكون الثمن هو المزيد من إضعاف الدولة لصالح السلطة غير المتجانسة وفي ظل مركز قيادي هو رئيس الدولة يستمد وجوده وبقائه من رضاء المتوافقين عليه .
و هذا لا يؤسس للدولة بقدر ما يزيدها ضعفاً ووهنًا ويكفي هنا استحضار التجارب المريرة الماثلة أمام كل اليمنيين وهي تجارب التي اضعفت الدولة وأرهقتها بتحويلها لها إلى غنيمة سياسية ، فخلال المرحلة الانتقالية عقب قيام الوحدة نقل المتنافسون السياسيون صراعاتهم إلى الدولة المؤتمر والإصلاح وحلفائهم القبليون من جهة والاشتراكي من جهة أخرى ولم يهدأ ذلك الصراع إلا بإقصاء الاشتراكي من السلطة وحالياً وبموجب المبادرة الخليجية المؤتمر والقوى الداعمة له من جهة والمشترك وحلفائه من جهة أخرى ، كرسوا بممارساتهم واقعاً سيئاً أدى إلى شلل الدولة وتحويلها إلى مستودع للتقاسم السياسي والوظيفي والمادي وانفلاتاً أمنياً وتراجعاً في الخدمات والإدارة وكل طرف يحملها الأخر ، وهو ما لا يتوافق ولا يتفق مع مقتضيات بناء الدول ويناقض المبادئ التي تتأسس عليها وهي الالتزام بضوابط المسؤولية وبمتطلباتها التي كانت اللبنة الأولى في بناء الدولة الحديثة .
و إذا ما أضيف إلى تلك المسؤولية التزام احترام الحقوق والحريات وقواعد العدالة والانصاف التي تمثل مداميك الدولة القانونية اليوم ، يصبح الانفراد بالاستحواذ على مرافق ومؤسسات وإمكانات الدولة وتحويلها إلى غنيمة سلطوية للقوى سياسية عمل من أعمال تقويض وهدم الدولة لا بنائها ، خاصة مع وجود رئيس يستمد سلطاته وبقائه من اطراف التقاسم أنفسهم ما سحوله إلى باحث عن عائدات شراكته بدلاً من تجسيد حلم وتطلعات اليمنيين لبناء الدولة .
كما أن الأهم والأخطر من كل ذلك أن الاشخاص الذين اسندت إليهم إدارة أهم مؤسسات ومرافق الدولة منذ تشكيل الحكومة التوافقية وانتخاب الرئيس التوافقي فهم من واقع التجربة ثلاثة أصناف
الصنف الأول : شخصيات ليس لها أي رصيد من النزاهة والاستقامة الإدارية والمالية ، وليست أياديهم نظيفة من الانحراف عن الصالح العام ، ولا ذممهم ببريئة من الفساد واستغلال النفوذ ، إنما اوجبتهم الضرورة التوافقية وتبادل وتوزيع الغنائم .
الصنف الثاني : هم من الشخصيات الهزيلة والضعيفة التي جعلت من مواقعها في سلم الإدارة والسلطات العليا مجرد وظيفة تؤدى لصالح من أتوا يهم إلى مواقع ليسوا أهلاً لها، ولخدمة مصالحهم الشخصية التي جسدتها تصرفات تعيين الأهل والأقارب والمناصرين الحزبيين وشيوع الفساد في الجهات التي يديرونها .
الصنف الثالث : مرتبط بالتركيبة المخابراتية والأمنية التي أسستها مراكز النفوذ التقليدي وبها استطاعت إن تستمر وهي تراهن على العمل الاستخباراتي الذي من أهم سماته ترجيح المقاربة الأمنية القائمة على الغلبة والقهر لفرض ما تعتقد أنه الدولة .
الصنف الرابع : مجموعة الانتهازيين الحزبيين داخل أحزابهم الذين استطاعوا أن يضمنوا لأنفسهم أماكن قريبة من القيادات الحزبية العليا والذين تسببوا في بوصوليتهم وانتهازيتهم بإبعاد أو تحييد الأطر ذات الكفاءة العالية والنزيهة وفق ما يؤكده النزيف الحزبي المتواصل من تلك الأطر.
المعضلة عند السياسي اليمني والعربي على حد سواء أنه يريد أن يكون ديموقراطي باستمراره وبقائه في السلطة ، ولا يمكنه أن يتصور أن تكون هناك ديمقراطية وهو خارج السلطة، ولا دولة بدون سلطته ، ويكفي في هذا الإطار فقط الرجوع لما يروجه الحاكم العربي دائما عن الديموقراطية ً والدولة والقانون وهو في السلطة وما يمارسه من تصرفات لا علاقة لها لا بالديمقراطية ولا بالدولة ولا القانون ، أو الحقوق والحريات .
و هذا ما يهدد مشروع إعادة بناء وتأسيس الدولة بالفشل . الخلاصة أن الرؤية لامست جراح اليمنيين واقتربت من تلطيف عذاباتهم ومما يؤرقهم وهو غياب الدولة وسطو السلطة عليها على النحو الذي قاد إلى فشل كل الدول العربية ، غير أن هذه الرؤية تبشر باستعادة الدولة وإعادة بنائها على القواعد والأسس نفسها التي أضعفت وأرقت الدولة ، ما يدعو الجميع إلى إثارة نقاشات مسؤولة وعميقة حول هذه الرؤية كونها تصدر من طرف سياسي يعد في نظر قوى عريضة منادية بالتغيير الحامل الرئيسي لمشروعها التواق إلى إعادة تأسيس الدولة المنتظرة من مؤتمر الحوار الوطني ،بما هي دولة مشيدة على قواعد وبوسائل وآليات تضمن فعلاً الانتقال باليمن من حالة لا دولة الواقع الكائن إلى واقع الدولة الممكنة والمأمولة . ، والتجارب التاريخية لبناء الدولة الوطنية ، أو ما يعرف بدولة التنظيمات أنها لا تتأسس ، إلا بضمانات توفر مركز مستقل قادر على فرض وتأمين قيامها وتشيدها وأن تكون لديه رؤية لدولة مؤسسات متحررة من سيطرة الأشخاص ، أو الاحزاب أو الجماعات الضاغطة ومستندة إلى رضاء وقبول شعبي، وأنه لا يمكن أن تكون تلك الضمانات هم الاطراف السياسية أو توكل لهم تلك المهمة فمشروع بناء الدولة خاصة فالظروف التاريخية الحاسمة لا ينبع من داخلها بل بقوى ضاغطة تفرضها من خارج السلطة والحزب الاشتراكي في هذه الظرفية هو والقوى السياسية الاخرى غير التقليدية (المستقلون في الثورة الشعبية) هو القادر على بلورة مشروع يلتف حوله الناس بإجماع رضائي لا إجماع قسري لكن يبدو أن الحزب قد اختار أن يعيد ترتيب أولوياته من داخل السلطة مدفوعاً بمعاناة طويلة من التهميش والاستبعاد والاقصاء ولذلك اختار أن يتحول إلى مجرد شريك للقوى الرافضة للدولة ولمنطق الدولة من أجل بناء الدولة مستمرا في تخليه عن الثورة وروحها منذ أن فوت على نفسه فرصة التقاطها وفرصة استثمار استثمولم يلتقط فرصتها التاريخية مفضلاً التغيير من الداخل..
مع أن كل المؤشرات والمعطيات المتراكمة لتجربة الانخراط في توافق التسوية الخليجية أكدت أن القوى التقليدية تمتلك من المناورة والتلون السياسي ما جعلها الممسك الرئيس بقواعد اللعبة السياسية وبدا أنها المتحكمة بالمشهد السياسي مستفيدة من إلحاق الثورة الشعبية والقوى التواقة للدولة بها ولها وهو ما تعترف به الرؤية نفسها عندما أكدت في غير موضع أن القوى التقليدية ماتزال ممسكة بمعظم مفاصل السلطة وأنها أفشلت عملية نقل السلطة وحالت دون انجاز مهام الفترة الانتقالية .

زر الذهاب إلى الأعلى