أخبار وتقارير

“تحت المجهر” التطرف في اليمن.. 25 عاماً من القتل والترويع

يمنات – الأولى محمد علي المقرعي
تعود نشأة ما يعرف اليوم بتنظيم القاعدة إلى تكوين ما سمي بالمجاهدين العرب أو “العرب الأفغان” أثناء غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان في أواخر العام 1970، والتنظيم عبارة عن مجاميع من الشبان تم استقدامهم من مختلف البلدان العربية للمشاركة في العمليات القتالية الدائرة في أفغانستان إلى جانب المقاتلين الأفغان.
لقد اضطلعت بلدان كالمملكة السعودية بتعاون كامل مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ودول وتنظيمات عدة، بمهمة تأمين وصول المقاتلين العرب إلى مكاتب استقبال في باكستان ليتم أخذ المجندين الجدد وإرسالهم إلى المناطق الوعرة، والنائية لجبال أفغانستان، وهناك يتلقون تدريبات مكثفة على يد مقاتلين عرب وأفغان، وتفيد مصادر عن اشتراك وحدات خاصة تتبع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي آي إيه، في إعداد المقاتلين القادمين من خارج أفغانستان.
في ذروة الحرب في أفغانستان، انخرط كثير من الشباب اليمني الذين يعيشون ظروفاً اقتصادية ومعيشية صعبة للغاية، إلى صفوف التجنيد التي دعا إليها بعض الزعامات الدينية في اليمن كالشيخ الزنداني، وعبدالله صعتر وغيرهما من رجال الدين المنتمين حالياً لحزب الإصلاح الإسلامي.
قبل تحول الإصلاح إلى حزب سياسي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، شاركت عناصر وقيادات تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن (حزب الإصلاح حالياً)، في عملية استقطاب وتجنيد الشباب اليمني للقتال في أفغانستان، كما أصدرت زعامات الإخوان فتاوى دينية حثت على قتال السوفييت لتحرير أقران المسلمين من الأفغان، وتمت عملية تجنيد من أطلق عليهم اسم “المجاهدين” بمعرفة وتسهيل من نظام الرئيس صالح الذي كان آنذاك جزءًا من تحالف سعودي أمريكي موسع لمواجهة خطر التمدد الشيوعي في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
بعد انسحاب الجيش السوفيتي من أفغانستان، استجابة لضغوط دولية مكثفة ومتأثراً بالخسائر التي لحقت بقواته جراء المواجهة مع المليشيات الأفغانية، المدعومة عسكرياً من الولايات المتحدة، عاد بعض المقاتلين العرب إلى بلدانهم وانقطعت صلتهم بكل ما له علاقة بالحرب في أفغانستان، فيما ظل البعض الآخر على اتصال بقادة الحرب الأفغان، وأيضاً بمن تبقى من المقاتلين العرب ممن آثروا البقاء، وحظوا لاحقاً بنفوذ كبير في أفغانستان أثناء استيلاء حركة طالبان المتشددة على الحكم في البلاد.
رجل الأعمال السعودي من أصول يمني أسامة أحمد عوض بن لادن، كان أبرز المقاتلين العرب الذين ظلوا على اتصال بالجبهة في أفغانستان، ولم تنقطع صلته بعناصر المجاهدين حتى بعد خروجه المؤقت إلى السعودية أثناء احتلال العراق للكويت، إذ أنشأ قبل مغادرته أفغانستان أواخر العام 1980، معسكرات لتدريب المقاتلين السابقين ومجندين آخرين تم جلبهم إلى مخيمات التدريب في أفغانستان، كما أبقى على شبكة اتصال واسعة بالمجاهدين السابقين الذين عادوا إلى أوطانهم إثر الانسحاب السوفيتي من أفغانستان.
ومع مطلع تسعينيات القرن الماضي، مول بن لادن جماعة مسلحة متشددة داخل اليمن، تكونت من مقاتلين عائدين من أفغانستان، بالإضافة إلى شباب يمني تأثر بالدعاية الهائلة لجماعة الإخوان المسلمين التي روجت آنذاك لمعجزات مفترضة للمجاهدين الأفغان في مواجهة الغزاة الشيوعيين، وعرفت هذه الجماعة ب”الجهاد الإسلامي في اليمن”.
أول ظهور لحركة الجهاد الإسلامي في اليمن، كان في المناطق الجنوبية من البلاد، إذ نفذت الجماعة أولى عملياتها في مدينة عدن 1992 مستهدفة سياحاً غربيين في أحد فنادق المدينة، وأسفرت العملية عن مقتل سائحين وجرح آخرين. بعد هذه العملية بأسابيع قليلة، تبنت جماعة الجهاد الإسلامي عملية تفجير فندق عدن الكائن وسط مدينة عدن، وأوضحت الجماعة أن الغرض من العملية هو قتل جنود المارينز المقيمين في الفندق، لكن العملية أخطأت هدفها وعوضا عن قتل الجنود الأمريكان، قتل عامل فندق يمني وسائح، وأصيب آخرون معظمهم من اليمنيين.
أثناء حرب العام 1994 بين شريكي الوحدة، الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام وحلفائه الدينيين والقبليين، انخرط مقاتلو تنظيم القاعدة وأذرعه المحلية في الداخل كجماعة الجهاد وغيرها من الجماعات المتطرفة، في القتال إلى جانب المؤتمر الشعبي وحلفائه، وبحسب إفادة الزعيم السابق لجماعة الجهاد الإسلامي في مصر، “نبيل نعيم”، فإن زعيم القاعدة أسامة بن لادن تواصل بالرئيس اليمني، لطلب الإذن للمشاركة في القتال، وقد حصل على موافقة الرئيس، ليدخل تنظيم القاعدة بعد ذلك الحرب ضمن تحالف قوات الشمال. وأوضح نعيم، في لقاء متلفز شهير، أن الحرب ضد من سماهم الشيوعيين العرب، كانت جزءًا من استراتيجية القاعدة للمرحلة التي تلت انسحاب الجيش السوفيتي من أفغانستان، وأن أنظار التنظيم، وجهت نحو جنوب اليمن في ظل حكم الحزب الاشتراكي قبل توحيد الدولتين في 1990.
لكن في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأ تحالف القاعدة والنظام اليمني بالتصدع، إذ ظهرت جماعة متشددة أطلقت على نفسها تسمية “جيش عدن أبين”، معلنة مسؤوليتها عن عملية اختطاف 16 سائحاً في مدينة أبين جنوب البلاد في ديسمبر 1998، وطالبت الجماعة السلطات اليمنية الإفراج الفوري عن عناصرها المحتجزين لدى الأجهزة الأمنية، كما طالبت بإخراج من وصفتهم ب”الكفار” من البلاد. رد الجيش اليمني على تلك المطالب بعملية مداهمة لمكان احتجاز السياح وأسفرت المواجهة عن مقتل 4 سياح وأفراد من الجيش والأمن بالإضافة إلى مقتل بعض عناصر الجماعة.
بعد حادثة السياح في مدينة أبين بنحو عامين تقريبا، أعلنت جماعة “جيش عدن أبين” مسؤوليتها عن هجوم انتحاري استهدف المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول”، أثناء توقفها في ميناء عدن للتزود بالوقود. واستخدم الانتحاريون قارب صيد صغير مليئاً بالمتفجرات لضرب المدمرة. حصد الهجوم حياة 17 بحاراً من جنود البحرية الأمريكية وجرح العشرات. بعد العملية بنحو عام، أشارت تقارير غربية إلى مقتل المشتبه الرئيس في الهجوم على المدمرة كول “أبو علي الحارث” في غارة لطائرة أمريكية بدون طيار. وفي أكتوبر من نفس العام 2002، تبنت ذات الجماعة “جيش عدن أبين” هجوماً ثانياً استهدف ناقلة نفط فرنسية، أثناء توجهها إلى سواحل مدينة حضرموت، وقالت الجماعة إن الهجوم على الناقلة الفرنسية “ليمبورغ” جاء رداً على إعدام السلطات زين العابدين المحضار، بعد اتهامه بمقتل السياح الأجانب في أبين.
تحوّل نحو الداخل:
حتى ضرب الناقلة الفرنسية، كانت تنظيمات وأذرع القاعدة في اليمن تتبع استراتيجية تقوم على ضرب واستهداف المصالح الأجنبية، إذ كان الهجوم على السفارة الأمريكية في العاصمة صنعاء في سبتمبر 2008، الذي أودى بحياة ما يقارب العشرين قتيلاً جميعهم من اليمنيين باستثناء مواطنة هندية، آخر عملية كبيرة ينفذها التنظيم ضد المصالح الأجنبية في البلاد. لكن منذ العام 2009 دخلت القاعدة مرحلة جديدة تميزت باستهداف عناصر وخلايا التنظيم لقوات الجيش اليمني.
هذا التحول الدراماتيكي في استراتيجية القاعدة، جاء نتيجة لضغوط أمنية وسياسية هائلة أثقلت كاهل الدولة، سيما مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في الجنوب وعدم القدرة على الحسم العسكري في مواجهة التمرد الحوثي في الشمال، هذا بالإضافة إلى وضع اقتصادي صعب وانتفاضة شعبية، تهدد النظام السياسي في العاصمة صنعاء، وقد حاولت القاعدة الاستفادة من هذه الأوضاع مجتمعة وبسط سيطرتها على بعض مدن جنوب ووسط البلاد.
مع دخول القاعدة مرحلة المواجهة مع الجيش اليمني، كان التنظيم قد اتخذ لنفسه اسماً جديداً، وهو “أنصار الشريعة”، وبحسب خبراء، فإن جماعة “أنصار الشريعة” في اليمن، هي فصيل يتبع التنظيم المعروف باسم “تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية”، وتصنف دوائر استخباراتية أمريكية وغربية، هذا الأخير والذي يتخذ من اليمن مقراً له، باعتباره أنشط فروع القاعدة، إذ في الوقت الذي تركز فيه جماعة “أنصار الشريعة” على أهداف محلية داخل الحدود اليمنية، فإن نشاط تنظيم شبه الجزيرة يكون موجهاً في الغالب نحو أهداف خارجية في إطار النشاط الدولي لتنظيم القاعدة، ومحاولة تفجير الطائرة المتوجهة إلى مدينة ديترويت الأمريكية تعطي مثالاً عن طبيعة المهمات التي يقوم بها تنظيم شبه الجزيرة. وبالرغم من محورية تنظيم شبه الجزيرة في تنفيذ العمليات النوعية داخل اليمن وخارجها، إلا أن جماعة “أنصار الشريعة” ظلت بين الأعوام 2009-2013، تتصدر تنظيمات القاعدة في “المواجهة العسكرية التقليدية” مع الجيش اليمني.
ففي سياق مواجهتها مع الجيش اليمني، اتخذت جماعة “أنصار الشريعة” استراتيجيات وتكتيكات متنوعة لإدارة المعارك، منها ما هو تقليدي، حيث خاضت بين عامي 2011-2012 معارك في مدينتي أبين ورداع البيضاء لبسط سيطرة عسكرية على المدينتين ومحيطهما. لكن بعد إخفاق الجماعة في الحفاظ على المناطق التي وقعت في قبضتها وتفوق الجيش الحكومي المسنود بميليشيات شعبية في معارك المواجهة، وطرد عناصر القاعدة من تلك المدن، لجأت الجماعة إلى تكتيكات أكثر شيوعاً في حرب العصابات كنصب الكمائن وزرع العبوات والمتفجرات في مقرات ونقاط تواجد الجيش والأمن، مع الاعتماد بين الحين والآخر على العمليات الانتحارية التي تشتهر بها جميع تنظيمات وخلايا القاعدة باختلاف مسمياتها.
كذلك كثفت عناصر التنظيمات القاعدية، منذ انتفاضة العام 2011 التي أفضت إلى تسوية سياسية غير مستقرة، من عمليات اغتيال كوادر الجيش والأمن، وقد اغتيل العشرات من قادة وضباط الجيش والأمن في ظروف وملابسات لا تزال غير معروفة حتى اللحظة، فيما لم تسفر التحقيقات عن نتائج مقنعة بشأن الجهات التي تقف خلف استهداف القادة الأمنيين والعسكريين. وقد لمحت وسائل إعلام محلية إلى وجود أطراف سياسية قد تكون متورطة في تقديم تسهيلات لعناصر القاعدة، وربما هناك جهات أخرى قد تكون هي الأخرى ضالعة في استهداف منتسبي الجيش والأمن اليمنيين.
ورغم ضراوة المعارك خلال هذه الفترة وعدد الضحايا الكبير من الجانبين وفي صفوف المدنيين، يظل عاما 2013-2014، الأكثر دموية منذ بدء الحرب على القاعدة في اليمن، إذ نفذت خلايا قاعدية في الفترة الممتدة بين مايو 2013 وأغسطس 2014، سلسلة هجمات انتحارية ضد مصالح عسكرية حيوية، بما في ذلك عملية اقتحام لمجمع وزارة الدفاع في ديسمبر 2013. وقد أسفرت عملية اقتحام مجمع “الدفاع” عن قتل العشرات من جنود الحراسة بالإضافة إلى أطباء ومرضى كانوا متواجدين في مجمع الوزارة الطبي ومصرع بعض المهاجمين وإلقاء القبض على البعض الآخر.
قبل عملية مجمع الدفاع، شن تنظيم القاعدة في مايو 2013 هجوماً انتحارياً على جنود في ميدان السبعين أثناء تأديتهم استعراضا عسكريا في العاصمة صنعاء. أودى التفجير بحياة العشرات من جنود قوات الأمن الخاصة (الأمن المركزي سابقاً) ومصرع منفذ العملية، ثم تلت عمليتي السبعين ومجمع الدفاع، عملية اقتحام السجن المركزي بصنعاء في فبراير 2014. أودت العملية بحياة جنود من حراسة السجن وبعض العاملين فيه، غير أن العملية التي أثارت هلع واشمئزاز اليمنيين بعد جريمة مجمع الدفاع وميدان السبعين، كانت ذبح 14 جندياً يمنياً بعد أسرهم في مدينة حضرموت وبث مقاطع فيديو أظهرت عناصر القاعدة وهم يذبحون بعض الجنود بخناجر وشفرات منزلية مع صور للتمثيل بجثث الضحايا.
لكن في مقابل ضحايا القاعدة وأخطاء الجيش التي أودت بحياة العشرات، تبدي غارات “الطائرات من دون طيار” الوجه القبيح الآخر للحرب على الإرهاب، فمنذ العام 2001، أصبحت غارات الطائرات بدون طيار جزءًا من استراتيجية أمريكية لمحاربة القاعدة في اليمن وبلدان أخرى. وتواجه هذه الغارات انتقادات شديدة لعدم مراعاتها حقوق الإنسان الأساسية باعتبارها قتلاً خارج نطاق القضاء أو لمجرد الاشتباه، وأيضاً بسبب أخطاء تلك الطائرات التي ينجم عنها عشرات الضحايا من المدنيين.
وبالنظر إلى سمعتها السيئة وتزايد القتلى في صفوف المدنيين مع ما تمثله من انتهاك لسيادة البلاد، فقد صوت البرلمان اليمني في ديسمبر 2013 على حظر تحليق الطائرات بدون طيار لشن غارات داخل الأراضي اليمنية. غير أن الحظر اليمني لم يوقف تحليق الطائرات الذكية فوق الأجواء اليمنية، وما تزال هذه الطائرات تنفذ عملياتها ضد من يشتبه بانتمائهم للقاعدة، وهو ما يوسع بالتالي من حالة الاستياء الشعبي، ويكسب القاعدة بعض التعاطف.

زر الذهاب إلى الأعلى