العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة (13). عندما القضاء يمارس الجريمة

يمنات

أحمد سيف حاشد

عندما القضاء يمارس الجريمة

 (25)

• تخرجت من كلية الحقوق في عام 1989وبحسب تخصصي أحالتني دائرة الكادر في وزارة الدفاع للعمل في دائرة القضاء العسكري بحسب التخصص.. كان يومها محسن حسين مديرا لدائرة القضاء العسكري، ورئيسا للمحكمة العسكرية.. كنت لا أرتاح له وأشعر بغلظته وتجهمه المستمر نحوي، بل كنت أشعر في بعض الأحيان أن العلاقة بيننا ـ كما أتوهم ـ أشبه بعلاقة مدعي بمتهم لا علاقة رئيس بمرؤوس، على الرغم أنه لم يسيء لي شخصيا، ولم يمارس ضدي ما يبرر هذا الشعور الذي اعتبره متجنياً.

• لا أدري لماذا نفتقد الكيمياء والتفاعل مع البعض، وننسجم بالمقابل مع آخرين ونشعر الدفء بقربهم !! لعل هناك أسباب لما نعانيه ترجع لذواتنا، وربما تشاركها أسباب موضوعية أخرى؛ وأرجِع تقدير أو تخمين عدم الانسجام الذي أتحدث عنه إلى غلبة وحدِّية التعامل الرسمي من قبله نحوي، أو بعبارة أخرى لرسمية طاغية ورتيبة في تعامله ربما تدفعه إليه شعوره بالانتقاص من هيبته و وقاره باعتباره قاضي إن تعاطى أو تنازل قليلا عن الرسمية التي كانت تبدو لي باذخة، أو فيها بعض مبالغة، غير إن أكثر شعوري النافر منه وأظنه الأهم يرجع في بعض منه إلى الأحكام القاسية الذي كان يصدرها بحق المتهمين، وعدم شعوري بالرضى عن هذه الأحكام التي كنت أرى في بعضها أو جلها جوراً وقسوة بالغة.

• كان من أكثر الأصدقاء قربا لي في العمل زميلي منصر الواحدي الضابط الإداري الخلوق والممتلئ والشهم، وزميلي ضابط التحقيق أشرف ولي محمد من عدن، وكان هذا الأخير ينحدر من أصول يبدو أنها باكستانية غير أن ما يميزه كانت طيبته العدنية وحميميته الصادقة، ويبدو إن التحولات السياسية كانت تلقي بضلالها على مستقبل كل واحد منهما، فأشرف ولي محمد هُضم بعد الوحدة حتى اختفى ذكره، ولا أعلم أين هو اليوم وهل لازال حيا أم أنه غادر إلى العالم الآخر، فيما صديقي منصر الواحدي الذي ترك صنعاء وعاد إلى عدن بعد حرب 1994 عاش معاناة الجنوب وأهله حتى تقاعد أو أحيل إلى التقاعد وهو الكادر المثالي الذي كنت أتوقع له مستقبل قيادي لافت أو إداري عالي ومشرق إن كانت هناك عدالة في الاستحقاق والفرص، ولكن كانت السياسة تخذل الكفاءات والأحرار والصادقين الذي لا سند لهم.

• كان صديقي منصر مثال لي في الخلق والعفة والتسامح والاعتدال.. كان مخلصا لعمله ومهنته والانتماء للوطن الكبير.. كان ودودا وخدوما مع الناس، ولا يفسد الخلاف معه في الرأي للود قضية.. صديقي منصر الواحدي كان ولا زال انسان عظيم وحكيم وقريبا من الله البهي الغفور الرحيم المتسامح..

• في القضاء العسكري قبل أن أمارس وظيفة ضابط تحقيق وجدت نفسي في غرفة الارشيف القضائي في الدائرة اطلِّع وأتعرّف على دور المحقق وكيفية التحقيق وإجراءات المحاكمة.. رغم الفترة القصيرة التي قضيتها في الأرشيف كانت الاستفادة منه كبيرة، وصنعت لدي أساس معرفي ليس فقط لوظيفة ضابط التحقيق ولكن احاطة بالقضاء العسكري إجمالا وتفاصيل.

• كان أرشيف القضاء العسكري المسنود عهدته لشمروخ، منظّم ومبوّب ومرتّب تستطيع أن تحصل على ما تريد في أقل وقت ممكن.. كان النظام الإداري الموروث من بريطانيا في جهاز الدولة في الجنوب ومن ضمنه دوائر وزارة الدفاع دقيقا وتستطيع من خلاله الحصول على المعلومة في وقت قياسي، فيما وجدنا عكس هذا في الإدارة العثمانية المورثة في الشمال.. بدا لي الفرق شاسعا شكلا ومضمونا..

• في الارشيف أطلعت على قضية تم إدراجها وتصنيفها في جرائم خيانة الوطن، كان بطلها شباب دون العشرين عاما على الأرجح، وتدور أهم أحداث الواقعة بين المضاربه والوازعيه الحدوديتان أنذاك، وأطرافها بين الشاب المقيم في الجنوب وأفراد من أسرته كانوا قد هربوا من الجنوب إلى الوازعية في الشمال، والجهة التي جندت الشاب ليقوم باغتيال قريبه.

• هذا الشاب لم أعد أذكر الاسم الكامل له، ولكن أذكر أن في اسمه الثلاثي اسم “طارش” إن لم تحني الذاكرة.

• أسندت جهة استخباراتية في الجنوب للشاب مهمة اغتيال قريبه أظنه كان خاله أو عمه.. اعطوه السم ليضعه له في الماء، ولكنه تردد وناور وحاول أن لا يفعل وأخترع الأعذار.. أصروا عليه أن يفعل بالترغيب والترهيب، ولكنه عاد إليهم وقال لهم أنه قام بوضع السم في الماء ولكنه وجد الماء يتغير للون الرمادي فأحجم عن الفعل، وعندما شكُّوا في أمره واقتنعوا أنه لن يفعل وربما افترضوا أنه سيهرب إلى حيث أقربائه، تم التحقيق معه في الاستخبارات وتعرض للتعذيب، وأحيل للمحاكمة بتهمة الخيانة، وتم الحكم عليه بعشر سنوات سجن.

• هذه القضية بالنسبة لي كانت صادمه.. شككتني بحقيقة العدالة، وشعرت إن الظلم الفادح موجود في كل مكان، وأشعرتني أن العمل الأمني الاستخباراتي قبيح للغاية، وأن سدنته وصانعين القرار فيه هم أغلب مجرمين كانوا رجال أمن أو رجال سياسة.

زر الذهاب إلى الأعلى