العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. مذبحة مروعة للديمقراطية ساحتها القضاء ومجلس النواب

يمنات

أحمد سيف حاشد

– إن أردت تكوين فكرة عمن يعترش الحكم في اليمن، و مدى وعيه و ثقافته و مستواه المعرفي، و إلى أي مدى هو مؤهلا لأن يسوس اليمن، و قدرته و قيادته نحو المستقبل، فما عليك إلا مراقبة بعض المشاهد و التصرفات الجمعية لنخبه، حكومة، و قضاة، و نواب، و أحزاب، و اعلاميين، و منظمات مجتمع مدني .. هذا لا يقتصر على الماضي فقط، و لكنه صار اليوم أكثر انطباقاً “شرعية” و انقلاب.

– في عام 1996، حضرت اجتماع انتخابي للمنتدى القضائي، و كان ما شاهدته ليس صادما فحسب بل و تخجل منه الحجارة .. ابتدأت بما يشبه مشهد مسرحي ممجوج، مشبع بالهرج و المرج، لانتخابات معاقة و صورية، معدومة الجوهر، بل و أيضا فارغة المحتوى و المضمون، و تفتقد إلى أي ملمح ديمقراطي حتى في حدوده الدنيا، أو في الحدود الدنيا حتى لمشهد تمثيلي تلفيقي يليق..

– هذا الإخراج الردي، أنتج وعيا زائفا، يقتل الديمقراطية باسم الديمقراطية، و أنتج أيضا مخرجات سيئة، و أكثر رداءه من المشهد التمثيلي الفهلوي الردي، و الأهم إن ما حدث يمس أهم شريحة مجتمعية معنية بتقديم نموذج، و هي شريحة القضاة، الذين يفترض أن يكونوا الأرقى من حيث الالتزام بالقانون و الانضباط و الهيبة والوقار..

– عندما تم الانتهاء من هذا المشهد “الانتخابي” المأساوي، كانت هناك مأدبة غدا تنتظرنا في مكان غير بعيد، توجهنا إليها .. هناك شاهدت ازدحام شديد لما يزيد عن ألف قاضي .. كتل بشرية مكتظة هنا و هناك، و رغم أن المنظر جله كان معمما بالبياض، و لكن زحامه و ضجيجه كان يشبه معترك حافل بالعراك، على أبواب الجنة، كل يريد أن يكون الأول في الدخول قبل صاحبه.

– شاهدت بعضهم يعترك على اللحمة، و بعضهم يتسابق إليها، و يزاحم عليها، و يفتك بها فتكا .. شاهدت هورا يمسح الأرض بوقار القضاة .. قليلون كانوا خجولين يكسي وجوهم الحياء، لم يلتفت لهم أحد .. بعضهم ترك الوجبة و ذهب يبحث عن غداء في بيته أو في السوق، و بعضهم تطول مدة يده ليظفر بلقيمات صغيرة مدفوعا بالحياء أكثر من الجوع، و كنت واحد من هؤلاء .. ما حدث كان مهين بحق شريحة كان يفترض أن تكون في كل شيء قدوة و مثال..

– و في مجلس النواب و في أول جلسة في مايو 2003م كان انتخاب هيئة رئاسة مجلس النواب .. كان كل شيء معد سلفا، و لكن على نحو أكثر سوءا و رداءة .. كتل الأحزاب الرديئة اتفقت على أسماء هيئة الرئاسة مسبقا و على أن يكون الشيخ عبد الله الأحمر رئيسا لمجلس النواب و يحيي الراعي على ما أظن نائبا له..

– قبل الجلسة، و هي أول جلسة لأعضاء مجلس النواب، شاهدت أحد النواب يجول أمام المنصة، و كان بعد كل عدة دقائق يخرج من جيبه قطع من خبز الذرة، و يُناول بعض النواب .. و كان هذا المشهد بالنسبة لي غير متوقع أن أشاهده تحت قبة البرلمان، و لم أكن أتخيله قط من قبل، و لكنني شاهدت بعد ساعة ما هو أسوأ منه..

– شاهدت هذا النائب الذي كان قبل الجلسة يدس يده في جيوب كوته الجانبية، و يخرج منها قطع الخبز، و يناولها بعض النواب ليأكلوها، شاهدته فور التزكية، و هو يصادر حقوقنا من مقعده قرب المنصة، و ينط إلى قرب المنصة و هو يصرخ “بالإجماع بالإجماع” فيما النواب الذي كانوا يتناولون قطع الخبز منه يصرخون بعده: بـ”الإجماع بالاجماع..” لقد صعقني بل و سحقني هذا الموقف في أول جلسة من جلسات هذا البرلمان التابع و الفاسد و المشّرع للفساد و الإلحاق و قلة الحياء..

– “التزكية” وسيلة سيئة للغاية في أي عملية تتقول الديمقراطية، و لا سيما في مجتمع هش ديمقراطيا يخاف سطوة السلطة، و لا زالت ثمة بوصلة تتجه نحو النفاق و التبعية و الفساد العريض .. شاهدت هذه الرداءة الصارخة مرتين الأولى ساحتها القضاء و الثانية ساحتها البرلمان.

– تبدت لي هيئة رئاسة مجلس النواب قبل انتخابها، و هي موعودة بالرئاسة أشبه بحيوان مفترس كامن، ينتظر اللحظة بتخفي و صمت، و ثم يقفز بلهفة و سرعة و جوع على فريسته و ينقض عليها .. إنها منصة المجلس .. و قبل أن يسجل أحد منا اعتراضه كان المفترس على المنصة يحتفل بغنيمته .. بدا لنا الأمر قد مر و انقضى، و غرقنا نحن مما حدث في الذهول..

– كنت مذهولا مما جرى .. حاولت اقف و اعترض، و لكن كانت الجلبة أكبر من صوتي .. و هيئة الرئاسة تستولى على المنصة، و الأدعياء من النواب الذين يمثلون بالشعب يصرخون من القاعة “بالإجماع .. بالإجماع”.

– أذكر أن مقعدي كان جوار عضو كتلة الإصلاح زيد الشامي .. لم أكن أعرف يومها أن زيد الشامي تابع لحزب الإصلاح .. كان بجانبي هادئا و وقورا .. كان ذلك اليوم هو اليوم الأول، لأول جلسة للبرلمان، في أول موعد انعقاد لدورته الأولى، و التي كانت في مايو 2003.

– أذكر أنني أبديت سخطي على ما حدث، و تحديدا على الطريقة التي تمت بها انتخاب هيئة الرئاسة، فيما علق على سخطي الزميل زيد الشامي بالقول: طالما يوجد اتفاق بين الكتل و الأغلبية موجودة ما كان في داعي لتمرير الأمور بهذا الشكل و تلك الطريقة .. كان يمكن كل شيء يتم بسلاسة..

– كان ذلك أول مرة اعرف أن الأحزاب السياسية تتفق من برها إلى بحرها .. أول مرة أعرف أن الكتل البرلمانية للأحزاب تتفق .. فيما نحن المستقلين لم تكن لنا كتلة أو اجتماع بعد .. المستقلين الذي نقصوا من 14 عضو إلى أربعة أعضاء خلال أيام في صفقات بيع غير معلنة..

– تلك كانت الصدمة الأولى التي عشتها تحت قبة البرلمان في اليوم الأول من عضويتي في مجلس النواب .. و كان هذا المشهد أشبه بمشهد انتخابات منتدى القضاة التي حضرتها في العام 1996إن لم يكن مشهد النواب أكثر بؤسا من القضاة.

– يومها كتبت تحت عنوان ديمقراطية مروعة ما يلي:

– قبل سبع سنوات حضرت وقائع انتخابات قيادة المنتدى القضائي في إحدى قاعات العاصمة صنعاء و قد راعني المشهد الانتخابي لأناس كنت اظنهم نخبة المجتمع و صفوة الأمة .. و راعني أكثر ما شاهدته أثناء مأدبة الغداء التي أقيمت على أثر تلك الانتخابات احتفاء بنجاحها.

– و سبق لي أن شهدت مشاهد و شواهد كثيرة في ديموقراطية الأحزاب، و لا سيما المعارضة منها، و هالني ما يحدث فيها من استفراد قيادي و نزوع استبدادي و استخفاف مبتذل من قياداتها لقواعدها، و هو بتقديري أحد أسباب التراجع التي تشهده تلك الأحزاب، غير ان مشاهداتي لوقائع انتخابات هيئة رئاسة مجلس النواب كانت أشد وقعا و اكبر صدمة.

– شاهدت على شاشة التلفاز أعضاء مجلس النواب يقسمون فردا فردا بالله العظيم و أمام خلقه أنهم يحترمون الدستور و القانون، و لم يلبث البعض ساعة زمن حتى خرقوا لائحة المجلس النافدة و المقرة بالقانون نهارا جهارا و بصورة عبثية و مستهترة للعقل و المشاعر، علما بأنه كان بإمكان هؤلاء أن يمرروا ما يريدون بطريقة سلسة وديمقراطية، و وفق القانون، بدلا من أن تجري الأمور على نحو يدمي العين و يفطر القلب .. لقد صعقت بمشاهدات لم تكن تخطر على البال .. مشاهد مؤرقة عصية على النسيان.

– و الخلاصة أنني فهمت و الآن فقط اهمية و وجاهة تلك الآراء التي توثر الديمقراطية التي تفرض على الشعوب، على ديمقراطيتنا التي تشهد ما يهول و يروع .. و كان الله في عون النواب على النوائب.

– هذا المقال نشر نصه في يونيو 2003 في نشرة القبيطة العدد (33)

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى