العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. خروف العيد

يمنات

أحمد سيف حاشد

خروف العيد الذي رعيته و اعتنيت به، و عشت معه يوما بيوم، و صار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه..؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا و متسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته و مفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب و الانتباه، و كأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه .. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم و مخنوقا بالاحتجاج..

شاهدتهم و هم يكبوّنه و يرغمونه على السير كُرها و عنوة، و كأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح و السلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع و الخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، و هي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، و عبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، و أنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..

عيناه هلعه ومرعوبة و هي ترى السكين .. كان يدور في نفس المكان بقلق و رعب و حيرة، و كأنه يبحث عن قدر ينجيه، و لا نجاة من السكين في يوم العيد .. لا أدري أي إحساس داهمه، و كيف عرف إن السكين معدة لذبحه، و أنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت..؟!! حال في الرعب و الهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا .. شاهدت أرنب و هو يذبح، كان يبكي كالطفل .. كم هو هذا العالم مثقل بالألم..؟!

كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، و كأنه يحتج على أقدار و نواميس الكون ..

كنت أتابع تفاصيل حركاته و أنفاسه .. كان مرعوبا و يرتعش فزعا و خوفا .. كان يعيش اللحظة كما هي .. و كنت عاجزا عن إنقاذه .. كان الأمر للكبار حصرا، و لم يكن لي فيه حيلة أو قرار..

يا إلهي .. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى و إن اختلفت صيغة هذا الافتراس..؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل و الدم و الذبح قانون وجوديا لابد منه، و لا خيار أرحم أو أقل ألما منه..؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة و مسفوكة الدم و إزهاق النفوس..؟!

كل حيوان له نفس مثلنا، و لكن تبدو الحياة قاسية و مهدرة .. ربما الجميع ضحايا لقوانين أكبر منّا و منها .. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدافع الغريزة و الجوع، أو الضرورة الملجئة..؟! و لكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير الضرورة .. نحن نقتل بعضنا حمقا أو طمعا أو بدافع الانتقام .. و فوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحمها و نُتخم..

بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، و ببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، و الحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث و إعادة نظر .. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، و بدون دم، و بدون إزهاق للنفوس .. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، و لكن من دون دم..

ربما و أنا طفل أردت أن أقول كل هذا و غيره على لسان محامي عنّا و عن المخلوقات دوننا .. و لكن لا محامي للنفوس المظلومة، و كبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم .. و عندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، و وجدت ما هو أكبر و أكثر..

كنت أتمزق من الألم و الحزن و كبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه .. ثم ألوذ بالهرب و هم يذبحونه، و أنا مسكونا بالرفض و الامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..

كنت طفلا، و ما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، و أشاهد ما هو أكثر من فادح و مرعب و بشع .. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله و طلبا لغفرانه و رضوانه .. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا و فضائعها من أجل دخول الجنة و مضاجعة الحور العين .. حروب و قتل و ظلم فادح لا تحتمله الجبال .. سفه ما بعده سفه .. مجرمون يستهوون القتل، و يمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..

ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، و تجار الحروب واد الحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول و مرعب.د .. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع .. ماكنت أدري إن هناك اكتضاضا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، و الجنس الذي يمتد و يعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب .. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف و يُغتصب، و أن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة و البشاعة و الدموية المُغرقة..

ما كنت أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، و أن حضارة و عمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار و الخراب، و أن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، و يُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..

ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم .. ماكنت أظن إنني سأعيش و أرى كل هذا الموت و الدمار و الخراب يقتات منه حفنة من المجرمين .. أرباب العالم و تجار الحروب و صناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى