العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. استاذ الخيزران كان وكنّا

يمنات

أحمد سيف حاشد

استاذي الأول هو علي أحمد سعد الذي فلكني بالخيزرانة حتى أدمت و تقرحت قدماي .. ربما نأخذ عليه أن أساليبه التربوية في عقاب تلاميذه كانت خاطئة أو مفرطة في الشدة و الغلاظة، إلا أنه في الوجه الآخر نستطيع القول: “لو لم يكن هو، لن نكن نحن” .. كان حازما و صارما .. يجيد التدريس و الافهام .. لا يساوم بالدرس و لا ينتقص منه .. كان هذا الاستاذ يعلمنا بمفرده كل المواد .. و أكثر من هذا أنه بدأ بتعليمنا قبل أن توجد المدرسة..

البدايات شاقة، و بمشقة أستطاع تأسيس مدماك لصرح تعليمي يكاد ان يكون قد اوجده من العدم .. له الفضل الأول في انقاذنا من جهل غشوم، ما كنا لنخرج من ديجوره و سراديبه لولاه .. جهل جثم على أهلنا و قرانا ردحا طويلا من الزمن .. لقد كان هذا الاستاذ بالنسبة لنا طالع السعد و الحظ الحسن الذي أرانا النور، و هدانا إلى اعتاب بوابة العلم و المعرفة..

غادرنا بعد سنوات قليلة إلى مدينة تعز .. ترك فراغا كبيرا سدّ مسده بعض من طلابه الأذكياء الأوائل الذين تولوا تدريسنا من بعده .. جد و كد .. زرع و كان الحصاد المستحق..

غادرنا و ترك لأغلبنا أيضا ألقابا طغت على أسماءنا لسنوات طوال، و لازلنا نذكر بعضها، بل و لازال بعضها حيا إلى اليوم .. الطنيز و حوفر و المعرد و الكبريت و البلبل و قرادي و المتيت و الزناط و النجاشي و المقرور و الملحوس و الطبيله و الزيدي و الدعري و مليط .. الحقيقة لا ندري ما سبب تلك التسميات و على أي أساس كان يختارها و يطلقها علينا..

على الرغم من قسوته كان له الفضل في تعليمنا الأول، و بالطريقة الحديثة التي كان عمادها الدفتر و القلم .. القراءة و الإملاء و الحساب و العلوم .. جاءنا في لحظة كنَّا فيها بأمس الحاجة للتعليم الغائب عنّا .. لولاه ربما كان الجهل قد عاث بنا، و استبد بالعمر كله .. لولاه ربما لما وصلت و مُجايلي لأبسط وظيفة عامة في الدولة .. لولاه لكان الكثيرون منا لا يجيدون أكثر من الشقاء الثقيل و رعي الغنم..

ذهب و ترك لنا أساساً من معرفة نبنى عليها علما في قادم الأيام .. ذهب و لم يذهب علمه و تعليمه و جميل معروفه .. غادرنا و ترك مكتبة صغيرة و صندوقاً أسوداً كان يجلس خلفه بعطاء المعلم و الاستاذ الجليل..

ورثنا بعضاً من كتيبات كانت مخزونة في دولابه .. أتذكر أنني أخذت كتيباً عنوانه (ما بعد الثورة اليمنية) لعبد الرحمن البيضاني .. أذكر أنني حفظت حينها منه عدداً من الصفحات عن ظهر قلب رغم صغر سني، و عندما كنت أستعرض ما حفظت منه سمعني أحد المدرسين من اقرباء أمي اسمه “عبده ردمان عبيد”، الذي اندهش لسردي بعض فقرات صفحاته غيبا..

أوعدني أنه سيحضر لي قصة (النمر الأسود)، قصة خاصة بالأطفال و كنت متلهفاً لقراءتها أيما تلهف، حتى أحضرها لي في اليوم الثالث من وعده، كانت أول هدية أتلقاها في حياتي..

لم أكن اعرف أنه يجب علي أن أقرأها حتى النهاية لألم بوقائعها كقصة، و اعتقدت أن المطلوب مني حفظها عن ظهر قلب كما فعلت في بعض صفحات كتيب البيضاني، فصعب عليّ حفظها، و فشلت بحفظ بعض من صفحاتها، و تحولت فرحتي إلى فشل و بعض تعاسة، و كنت أتهرب من الأستاذ الذي أهداني إياها حتى لا ابدو أنني غير جدير بما اهداني إياه، و لم أكن ادرك أن حفظها غير مطلوب.

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى