العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. سالمين وفتاح وعراك دامي

يمنات

أحمد سيف حاشد

في سنة ثاني إعدادي تم إخراجنا من المدرسة لاستقبال الرئيس سالمين، و أمين عام التنظيم السياسي عبد الفتاح اسماعيل الذي كان لا يقل أهمية عنه .. خرجنا من المدرسة لاستقبالهما و نحن سعداء، و مغمورين بالفرح، و ملتاعين بالاشتياق، في يوم بدا لنا استثنائيا، و للمركز الذي أستنفر جنوده و ضباطه و مسؤوليه، و جمع غفير من المواطنين، و ذلك لاستقبال كبار رجال الدولة و كبار الضيوف .. خرجنا نحن الطلاب بصفوف منتظمة، ثم صرنا منتظمين في صفين على جانبي الطريق الممتد من بوابة المركز و حتى مسافة تزيد عن الكيلو متر باتجاه طريق قدومهما..

كان مكاني في الصف بالجهة المحاذية للمستشفى الذي كان لا يزال حديث العهد، و المقدم هدية من دولة الكويت، و تم تسميته باسم طيار عسكري من منطقة معبق في الشمال، درس و تخرج و استشهد في الجنوب، لم أعد أتذكر اسمه، و لكني أتذكر أن لقبه “الجليدي” و كان أخويه زميلين لي في نفس المدرسة..

كنت أتحين بصبر و أتشوق بلهفة لأرى سالمين و عبد الفتاح إسماعيل .. كنت أحدّث نفسي: إن هكذا حدث أو فرصة لن تتكرر في حياتي مرتين .. غير أن ما حدث، كان هو الأكثر سوءا .. لقد تم افساد هذه الفرصة، و لم تتأت أخرى غيرها..

كنت أريد أن أشطح و أنتمي و أفاخر أمام أقراني في القرية ـ التي لا تعرف الرؤساء و لا الزيارات ـ انني شاهدت وجها لوجه الرئيس المحبوب سالمين، و المنظّر الفذ عبد الفتاح إسماعيل .. كان وقع سماع الاسماء على المسامع داهش و جاذب، فما بال و أنا أروي أنهم مروا من أمامي على بعد مترين، و هما يلوحان لنا بالتحية و السلام..

و أنا انتظر قدومهما، بديت و كأن التاريخ سيكرمني بمشاهدة رجلين هما من صانعيه .. أردت أن أقول لأقراني في قريتي: لقد حملقت و جالت عيوني بمن تتوق له العيون .. لقد رأيت ما لم ترون .. لقد طلت من المعرفة ما هو عصيا عن الكثيرين .. لقد أردت أن أرد لأقراني الصاع صاعين متذكرا زمن الطفولة، و هم يتفاخرون بزيارة موالد الخضر و اليأس و سعيد بن عبدان، و كأنهم يتحدثون عن غزو الفضاء، فيما أنا حاسرا و بائس أمضغ جراحي و حسرتي بصمت ثقيل و حزن كثيف..

كنت أتحين مرور الرئيس و الأمين العام من مسافة قريبة أمامي، و أتمنى مرورهما ببطيء شديد؛ لأغرف النظر منهما قدر ما أستطيع، و أكتنز في الذاكرة وجوههما و هيئتهما و كثير من التفاصيل، أو على الأقل ما قدرت على التقاطه و حفظه في الذاكرة .. إنها المرة الأولى في حياتي التي سأرى فيها مباشرة الرئيس و الأمين العام، و لكن طال الانتظار الثقيل تحت هجير الشمس الحارقة، و تأخر وصولهما عن الوقت و الموعد المحدد..

كان في الاصطفاف المقابل في الجهة الأخرى مجموعة من أبناء منطقة طور الباحة، سبق أن تعاركت معهم أكثر من مرة، و لطالما استفزوني مرات عديدة .. كان بيني و بينهم بُغض صبيان و تحدّي معاند، و كانوا أشبه بعصابة متربصة .. كنت عندما أراهم أشعر بغربتي، و أنني لست من أهل تلك الديار، و ربما هم شعروا أيضا أنني دخيلا و غريبا أثير استفزازهم..

ظلوا يرمقونني و يسخرون مني و يستهزئون بي و يضحكون علي و يتحدونني .. و أنا في المقابل استنهضت التحدي، و قلت لهم اختاروا واحداً منكم لنتعارك أنا و هو رأس برأس، فنزل أحدهم و كان ممتلأ البدن، و بصحة ينبض بريقها كالشمس .. كان معتبي الجسد، كثيف و أشقر الشعر و البشرة، يشبه أولاد الإنجليز، فيما كنت أنا نحيفا و منهكا، و ضعيف البنية، و أعاني من سوءٍ في التغذية .. قلت لنفسي و أنا أرى الاختلال الكبير في المعادلة: ربما السكين تصنع تعادل في التفوق بيننا، أو ترجح الأمر لصالحي..

قلت لهم ننزل نتبارز خلف تلة الرمل القريبة على بعد 200 متر، حتى نأمن من أي تدخل يساعدني أو يساعده، و كان رفقائه واثقين أن الانتصار صار بالنسبة لهم حليف و أكيد، و من دون جدل أو احتمال مغاير، فلا مقارنة بيننا، فإن كان لا بد من المقارنة، فهي لصالح خصمي كاملة..

صعد رفقاؤه رأس تلة الرمل أو بالأحرى اعتلىوا نتوء الرمل القريب، ليرون مشهد العراك، و كنت أخفي سكينا صغيرة و رفيعة ـ تستخدم لتقطيع الروتي ـ اشتريتها قبل بضعة أيام، تحسبا دفاعياً لموقف طارئ أو محتمل، لاسيما أنهم كانوا يتربصون بي كعصابة في الأيام القليلة التي خلت..

وصلنا مفردان المكان الذي اخترناه للمبارزة، ربما كنت جبانا و ماكرا، و ربما أردت دحر هزيمة مريرة باتت بحكم الأكيد .. تملكه الارباك و أنا استل السكين بمباغته و سرعة، و أباشره بطعنة في البطن؛ فهرب مذعورا و صارخا “سكين .. سكين”.. فيما كنت ألاحقه، و أحاول طعنه في أكثر من مكان، و كان قد أصاب العوج نصلها الرفيع إثر طعنة وجهتها إلى رأسه القوي و هو هارب .. كنت أشعر أن أي تراخي أو تمهُّل عن ملاحقته قد يقلب معادلة العراك بالكامل لصالحة، و بالتالي سيكون انتقامه أكبر و أفدح، فلم اعطه فرصة كتلك، فيما أصاب أصحابه تشتت في الذهن و إرباك في ردة الفعل..

 هرع مدرسان لنجدته، و انتزعا مني السكين، و مسكا بي بشدة و قوة كما تمسك الشرطة المجرمين، و عندما رمقت من اعتركت معه، و كان يصرخ متوعدا بقتلي، تفاجأتُ برؤية كمية الدم و غزارته على قميصه الأبيض .. لم أكن أعلم أن كل هذا الدم سينبجس من البطن، و بتلك السرعة و الغزارة..

لقد كان الدم ينزف على نحو لم أكن متوقعة .. بدأت أشعر بفداحة ما فعلت، و شعرت بالندم و الحسرة، بل و الحزن عليه .. شعرت بالقلق من أن يصل الأمر حد الفاجعة .. شعرت أنني كنت متهورا و أحمقا و إن المقامرة و التحدي الذي في غير محله ممكن أن تحوِّل الإنسان من سوي إلى مجرم و قاتل .. شعرت أنه كان بإمكاني الاكتفاء بإشهار السكين في وجهه للحيلولة دون أن يحدث ما حدث حتى و إن بديت أكثر جبنا..

نقلوه إلى المستشفى، و نقلوني إلى السجن و كان الأسف كبير .. أسفت لفعلي و أسفت للمصاب، و أسفت أكثر لفوات فرصة أن أرى الرئيس سالمين و الأمين عبد الفتاح اسماعيل، اللذان وصلا و قد وصلت إلى السجن .. فاتت الفرصة التي تحينتها و لم تعد مرة أخرى و إلى الأبد..

***

يتبع .. في السجن..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى