العرض في الرئيسةتحليلات

تحديات غير مسبوقة ستواجه الدول والعالم بعد كورونا

يمنات

عبد الوهاب الشرفي*

لم يأتي كورونا و العالم في وضع مثالي و لا حتى في وضع هدوء بل جاء في فترة زمنية تشهد منافسات حادة و صراع محتدم، كانت الولايات المتحدة تشتبك مع غير دولة في حروب باردة في غير ملف، و كانت تحاصر منافسيها بفرض ضرائب على منتجاتها و فرض عقوبات كذلك، و كانت روسيا تعمل حثيثا لإيجاد و تدعيم تكتلات اقتصادية و سياسية قادرة على المنافسة و كسر القطبية في العالم، و كانت الصين تعزز هيكل بنيتها الاقتصادية و تمتد تجاريا على مستوى العالم و ترد على ما يستهدف اقتصادها بإجراءات مماثلة، و كان الاتحاد الاوربي يرتب لتعزيز حضوره و تعزيز تكتله كي لا يفقد مواقعه نتيجة تنامي التكتلات الدولية الناشئة.

ضرب كورونا العالم و هو مضطرب بعنف و جعل العالم في حالة ذهول شاخص الابصار باتجاه مواجهته كأول حسابات تتم قبل تحديد التصرفات التي تقوم بها كل دولة، و بقدر تفشيه في الدول تتفشى معه اسئلة سيكون على الدول الاجابة عنها و التصرف في ضوء تلك الاجابات بعد ان يتجاوز العالم جائحة كورونا.

تتركز انظار العالم و الحكومات حاليا على عداد كورونا كم عدد الاصابات و كم عدد الوفيات و كم عدد التشافي و ما يربط بذلك من معدلات، لكن هذا العداد يكلف الدول الكثير فهذه الارقام التي تتغير كل لحظة تتغير معها ارقام الاقتصاد بذات الوتيرة، و الواضح ان الدول خُيرت بين حياة مواطنيها او اقتصادها و اغلبها اختارت مواطنيها و هذا الخيار هو الطبيعي في ظل ماتفعله جائحة كورونا بحياة البشر دون التفريق بينهم بناء على اي عوامل اقتصادية او دينية او سياسية او غيره، لكن الاقتصاد سيكون هو الخيار لاحقا و سيكون هو الخيار المقدم على كل الخيارات الباقية بعد كورونا.

اضطراب العالم قبل كورونا كان الاقتصاد هو محركه الاول و كان يضع العالم على شفا حريق كبير لاح في الافق لأكثر من مرة، و ما يفعله كورونا بالاقتصادات هو دفع المعادلات السابقة لتفشيه باتجاه مزيد من الحرج و الحساسية و سيكون لذلك انعكاسه السريع و الكبير على التصرفات التي ستتم بعد مجاوزة الوباء و باتجاه مزيد من التنافس و الصراع و الاحتدام.

فرض كورونا على جميع الدول ان تخرج عن كل خططها المالية التي اعدتها للعام 2020م و موازناتها التقديرية ضربت جوهريا و فرض مصروف هائل لم يكن في الحسبان و فرض نفسه على غيره من المصارف المخططة و المعتمدة، و ما فُرض و رصد بشكل مفاجئ للمواجهة هي ارقام كبيرة للغاية و تمثل في اغلبها خسائر ستعاني الدول تبعا لها لعقود حتى تستقر موازناتها وفقا للإيرادات و المصروفات المقدرة لأوضاع طبيعية، و هذا الامر سيكون له اثره المباشر على التنمية و الخدمات و الضمان الاجتماعي و غيره من الجوانب ذات العلاقة بموازنات دول العالم و انعكاسات ذلك ستكون اضطرابات محلية – مبدئيا – اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا التي هي بدورها متعلقة باستقرار الدول، أي ان “الاستقرار الوطني”  للدول بعد كورونا سيكون ادنى مما كان عليه قبله.

سيطرح كورونا اسئلة عديدة كذلك عن اسلوب المواجهة و مدى سرعة الاستجابة و مدى فاعلية ادارة الازمة و اجابات هذه الاسئلة سيكون لها اثارها على الحكومات فقد تسقط حكومات و تنشئ اخرى او قد تُعدل حكومات، ليس ذلك و حسب بل سيعاد النظر في ادارة الموارد و تخصيصها و هيكلتها و ما يترتب على كل ذلك من تفاعلات سياسية و اقتصادية و قانونية و ادارية مختلفة، و كل ذلك له اثره المباشر ايضا على “الاستقرار الوطني” للدول و سيزيد من الاحتدام السياسي فيها عما كان قبل كورونا.

 لم يجد العالم من وسيلة له لمواجهة كورونا غير التباعد الاجتماعي و الحد الجوهري من الاتصال و هذا لا اقصد بعده الشخصي و انما بعده الدولي و العالمي، و بالتالي لم يوجه كورونا ضربة موجعة للدول في موازناتها و ما يتصل بالموارد و المصارف و حسب و انما وجه ضربة موجعة ايضا في النشاط الاقتصادي، فقد اوقف صناعات و اغلق مصانع واحد من انشطة تجارية وتمويلية و بشكل سيكون له انعكاسه المباشر على مواقع البلدان في الميزان التجاري و في ترتيب الناتج القومي و هو امر سيزيد من العصف بالاستقرار العالمي و يرفع حدة التنافس و الصراع لمستويات حرجة للغاية وغير مسبوقة قبل كورونا.

يختلف اثر الجائحة على الدول من دولة لاخرى، كما تختلف تبعات انعكاس اثر كورونا على الدول و ذلك على العالم ككل، و لحد الآن تأتي الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي ضربها كورونا ضربة موجعة ودولة بحجم الولايات المتحدة هي الدولة الاكثر تأثيرا في العالم، و تلك الاسئلة ذات الاثر على الاستقرار الوطني للعديد من الدول تكون اوسع بالنسبة لدول اخرى و تكون ذات اثر على الاستقرار الاقليمي،  لكنها في حق الولايات المتحدة ستكون ذات اثر على الاستقرار العالمي.

سؤال مثل لماذا نجحت المانيا في ايقاف معدل الوفيات عند مستوى منخفض عن غيرها يمكنه ان يفعل الكثير في الولايات المتحدة و في العالم كذلك، فالأمر متعلق بالنظام الصحي و بالبنية التحتية و ستكون الولايات المتحدة امام فرض اعادة هيكلة موازنتها و ما تخصصه للتنمية و ما تخصصه لغير ذلك و في المقدمة الانفاق العسكري الكبير و حجمه بالنسبة لموازنتها و هذا يعني ان الانتشار و التواجد العسكري للولايات المتحدة في العالم هو الذي سيكون محل التقييم و هو امر مرتبط بالهيمنة الامريكية و القطبية الواحدة و بحماية المصالح الامريكية، و كذلك بالسياسات التي ترعاها الولايات المتحدة في العالم  و ما هو متعلق بالأمن القومي الامريكي و ما هو متعلق بالأمن القومي للحلفاء، و ستجد الولايات المتحدة نفسها امام خيارات صعبة للغاية و بطبيعة الادارة الامريكية الحالية و نفوذ اللوبيات في الولايات المتحدة لن تختار الانكفاء و اعادة ترتيب اوضاعها من منطلق الامن القومي الامريكي، و حسب و إنما ستعمل على ان تظل في ذات مواقعها التي كانت قبل كورونا اقتصاديا و سياسيا و هذا يعني المزيد من المشاغبات و الحرائق التي تنخرط فيها الولايات المتحدة حاليا او التي ستفتحها ضمن سعيها للحفاظ على مواقعها التي كانت قبل كورونا على الاقل.

لم يكن تحذير “ترامب” للصين من ان تستغل جائحة كورونا لتعزيز حضورها في بحر الصين الجنوبي عاديا، كما ان اطلاقه التهم بأن الصين تكتمت بشأن الوباء و لم تقدم المعلومات الحقيقية ليس امرا عاديا كذلك، فكلاهما امثله للمسارات التي ستتفتح بعد كورونا للصراع بين الولايات المتحدة و بين الصين، و هي مسارات اضافية للمسارات المفتوحة قبل كورونا اساسا.

في الوقت الذي ضرب كورونا الولايات المتحدة ضربته الموجعة هذه التي كلفت الولايات المتحدة ما يصل لثلاثة تريليون دولار للمواجهة فضلا عن ما الحقه بها الحجر من توقف او تباطؤ للأنشطة الاقتصادية و من خسائر لم يفعل كورونا ذلك بذات القدر بالصين، فالصين تمكنت من المجاوزة بتكلفه معقولة و ما حققته الصين من ايرادات بعد المجاوزة نتيجة كونها المصدر الاول لمختلف دول العالم لمطلوبات المواجهة لكورونا و قيمة ما باعته منها للعالم  يمكن ان تقضي على الضريبة التي تكلفتها الصين في مواجهة كورونا، و هذا يعني ان المعادلة الاقتصادية قبل كورونا بين الولايات المتحدة و الصين و التي تحت وقعها كان العالم يشهد كل ذلك الصراع الاقتصادي و السياسي قد اختلت بشكل غير قليل لصالح الصين ما سيجعل الولايات المتحدة اكثر استنفارا من قبل كورونا بكثير حتى لو ذهبت الامور لاحتكاكات مباشرة مع الصين.

يبدو ان الصين تعي ذلك جيدا و تعرف ان الصراع مع الولايات المتحدة بعد كورونا لن تكون هي ذاتها قبله و هي تعمل جاهدة لإحداث تغييرات في العلاقات الدولية بما يجعل الواقع العالمي بعد كورونا غيره قبل كورونا ما امكنها ذلك. ففي الوقت الذي لم تفعل دول الاتحاد الاوربي ما هو مؤمل منها تجاه الويلات التي ذاقتها ايطاليا و اسبانيا من كورونا كانت الصين و روسيا بعدها من الدول التي هبت لنجدة ايطاليا، و كذا فعلت الصين مع اسبانيا و تبادر الصين للوقوف مع غير دولة في الاتحاد الاوربي و لو بتوفير المستلزمات في وقت انعدم من يقدمها غيرها.

تلك الصور التي شاهدناها بإنزال علم الاتحاد الاوربي و رفع علم الصين و طمس عدد من نجوم علم الاتحاد الاوربي المطبوعة في ارقام السيارات الايطالية و تلك التذمرات التي تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي من دور الاتحاد الاوربي و بمقابل الاشادة بالصين ونجدتها، لا يجب النظر اليها كمواقف فردية و غير رسمية، و حسب بل سيكون هناك اثر بالغ لما فعله الاتحاد الاوربي او ما قصر فيه بمعنى اصح و لما بادرت به الصين للنجدة في ظروف لا يُحسد عليها.

لم تنجح دول الاتحاد الاوربي في التوصل لحل فيما يتعلق بالديون و ممانعة عدد منها لإسقاط تلك الديون مساعدة للدول المتضررة من كورونا في “عودة الوقوف على حيلها”، و هاهي الصين تحاول ان تشتري تلك الديون و ستقدم مساعدة غير عادية للعديد من دول الاتحاد الاوروبي و بذلك ستدخل الصين على الواقع الاوروبي بشكل غير قليل لن يقف عند لحظة الكورونا و انما سيمتد للمستقبل و سيكون دخول ليس انقاذي، و حسب و انما سيكون اخلاقي ايضا سيفرض ما سيفرضه على دول اوربية في سياساتها تجاه الصين و تجاه غيرها من الدول و الملفات ذات العلاقة و تجاه اي خطوات تقدم عليها الولايات المتحدة في مواجهة الصين كذلك.

تجتهد الصين في تغيير واقع العلاقات الدولية فيما يتعلق بها و معها روسيا ذات الشيء و كذلك تركيا، و هذا الامر يعني ان الصراع القادم للولايات المتحدة مع الصين سيكون في ظل ظروف و علاقات دولية مختلفة اقل ما فيها ان دول اوروبية لن تكون سلبية تجاه ما قد تفعله الولايات المتحدة ضد الصين، كما قد يضعف الموقف الاوربي تجاه الازمة و التفاعلات مع روسيا في دول شرق اوروبا، كما قد تجد تركيا حظا اوسع في التأثير في سياسات العديد من دول اوربا، و كل ذلك على حساب الدور الذي تعول عليه الولايات المتحدة من الاسناد الاوربي لها في سياساتها المتبعة لمواجهة الصين و روسيا كذلك.

اذا ستكون الولايات المتحدة اكثر استنفارا في صراعها مع الصين و كذلك مع روسيا بعد كورونا لأن جميع مواقعها قبل كورونا قد تأثرت سلبا بسببه، و في ذات الوقت ستكون في واقع عالمي مختلف عما كان قبله و ستفقد العديد من ميادين مناوراتها التي تستفيد منها في صراعها ضدهما، و سيكون على الولايات المتحدة رفع مستوى افعالها المباشرة للمواجهة و زيادة مستوى الاحتكاك المباشر مع الصين و مع روسيا الناهضتان و المنافستان في النفوذ الدولي لها اقتصاديا و سياسيا و حتى عسكريا بقدر غير قليل و هذا بدوره قد يدفع رؤوس الاموال الامريكية للضغط على الادارة الامريكية للذهاب لحرب كبيرة في محاولة للحفاظ على هيمنتها التي هي العمود الفقري لهيمنة رؤوس الاموال تلك اساسا.

مما لاشك فيه ان الجميع سيكون امام تحديات غير مسبوقة بعد مجاوزة جائحة كورونا فالاستقرار الوطني للجميع بلا استثناء قد تأثر و ان بمستويات مختلفة و الاستقرار العالمي كذلك قد تأثر و بخطورة اكبر و بات الامن العالمي اقل بكثير عما كان عليه قبل كورونا، و هذا ما فعله كورونا الذي لا يمكن مشاهدته بالعين المجردة بالأمن الوطني للدول و الامن العالمي و وضعهما على صفيح ساخن سيتقلبان عليه لعقود قادمة كما لم يفعلا من قبل.

*رئيس مركز الرصد الديمقراطي – اليمن

[email protected]

 للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى